الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس
في الفصاحة
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في إنّ الفصاحة والبيان
…
أزين ما تحلت بهما الأعيان
قال الله تعالى الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان وقال عليه الصلاة والسلام إن من البيان لسحراً حد البيان قال الجاحظ في كتابه الذي سماه البيان والتبيين البيان اسم جامع لكل كلام كشف لك عن قناع المعنى وهتك الحجاب عن الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقة اللفظ ويهجم على محصوله كائناً ما كان وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ما البيان فقال أن يكون الاسم محيطاً بمعناك كاشفاً عن معزاك وقال آخر خير البيان ما كان مصرحاً عن المعنى ليسرع إلى الفهم تلقنه وموجزاً ليخف على اللسان تعاهده
فما ورد عن جهابذة هذا العقيان
…
مدح موهبتي الفصاحة والبيان
قول ابن المعتز البيان ترجمان القلوب وصيقل العقول وقال سهل بن هرون البيان ترجمان اللسان وروض القلوب وقال بعض الأعراب لولده عليك بالفصاحة في منطقك فإنها مع صواب لفظك كالريش البهي في حسن الصورة ويقال من عرف بفصاحة اللسان لحظته العيون بالوقار وقال هشام بن
عروة ما أحدث الناس مروأة أعجب إلي من الفصاحة وقال بعض البلغاء الفصاحة أوثق شاهد عدل على اجتماع شمل الفضل وأقوى دليل على استكمال الذكاء والنبل لم تزل تشيد لأهلها في ربوع المجد فخراً وترفع لهم في مراتب العلوم ذكراً وربما سودت غير مسود ورفعت من الحضيض الأوهد إلى محل النسر والفرقد ويقال بالفصاحة والبيان استولى يوسف عليه السلام على مصر وملك زمام الأمور وأطلعه ملكها على الجلي من أمره والمستور فإن العزيز لما رأى فصاحة لسانه وحسن بيانه أعلى مكانه وأعظم شأنه
ومما يتميز به نوع الانسان
…
فصاحة المنطق وذلاقة اللسان
قال بعض الحكماء الكلام حد الانسان الحي الناطق وقالوا الصمت منام والكلام يقظة وقال عبد الملك بن مروان إن الكلام قاض يحكم بين الخصوم وضياء يجلو الظلم حاجة الناس إلى مواده كحاجتهم إلى مواد الأغذية ويقال حد الانسان إنه ناطق فمن كانت رتبته في النطق أبلغ كان بالانسانية أخلق وقال أبو الفرج الببغا في رسالة له مدح فيها الكلام الحيوان كله متساو بنعت الحركة والنمو فالانسان والبهيمة باشتمال هذا الوصف عليهما سيان وإنما فضل العالم الأنسي بالنطق المترجم عن مراد العقل المظهر للحكمة من القلب إلى العقل فإذا صحت بهذه القاعدة أن الانسان بفضيلة النطق أشرف مصنوع وأفضل مطبوع فقد وجب أن يكون أكمل هذا الجنس فضلاً وأحمد هذا العالم فعلاً ومن كان قسطه بفضيلة النطق موفوراً فمحله من ربع البلاغة معموراً وقال أيضاً من زعم أن الصمت أشرف مرتبة وأرفع منزلة من الكلام فقد حكم على الكلام بالنقصان وأحل العي محل البيان ولو كان الصمت أفضل من الكلام لتعبدنا الله به فيما انتدبنا له بالالهام وكان توحيد الله بحجج العقول في غنى عن واسطة أو رسول وقيل لبعض الحكماء أيما أفضل الصمت أو النطق فقال إن الله تعالى بعث أنبياءه بالنطق لبيان الحجة وإنك تمدح الصمت بالنطق ولا تمدح النطق بالصمت وما عبرت به عن شيء فهو أفضل منه ويقال من فضل الناطق على الصامت إن الناطق يهدي ضالاً ويرشد غاوياً ويعلم جاهلاً وقيل لزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم الصمت خير أم الكلام فقال لعن الله المساكتة فما أفسدها للسان وأجلبها للعي والله للماراة أسرع في
هدم العي من السنان في نبش العرفج وقال آخر الصمت مفتاح السلامة ولكنه قفل الهم وقال الشاعر
خلق اللسان لنطقه وكلامه
…
لا للسكوت وذاك حظ الأخرس
فإذا نطقت فكن مجيباً سائلاً
…
إنّ الكلام يزين رب المجلس
وقالوا اللسان عضو إن مرنته مرن وإن تركته حرن وقالوا اللسان إذا كثرت حركته رقت عذبته كالرجل إذا عودت المشي سعت وقال خالد ابن صفوان ما الانسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مرسلة أو حالة مهملة وقال أيضاً لسان الفتى أوجه شفعائه وأنفذ سلاحه على أعدائه به يتصل الود وينحسم الحقد شاعر
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
…
ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال بعض البلغاء مغرس الكلام القلب وزارعه الفكر وقيمه العقل وزهره الاعراب وثمره الصواب وجانيه اللسان
ومما شرف به اللسان
…
من خصائص الاحسان
قالوا اللسان جوهر الانسان من خصائصه إن الله رفع قدره على سائر الأعضاء فأنطقه بتوحيده والهمه لتمجيده ومن خصائصه أنه أداة يظهر بها البيان وظاهر يخبر عما بطن في الجنان وحاكم يفصل بالخطاب وناطق يرد الجواب وواصف تعرف به الأشياء وواعظ ينهى عن الفحشاء وشاهد يسأل به عن الغائب وشافع تدرك به المطالب ومونق يلهى الخاطر ومؤنس يزيل وحشة النافر ومعز تسكن به غلة الخليل ومزين يدعو إلى الجميل وزارع ينبت الوداد وحاصد يذهب الضغائن والأحقاد
ومما ينال به الخامل أعلى الرتب
…
التحلي بأنواع جواهر الأدب
الأدب نوعان نفسي وكسبي فالنفسي بتوفيق الله يهبه الله لمن يريد وهو ما كان من محاسن الأفعال الدالة على كرم الطباع والكسبي ما استفادته الأنفس من أحاسن الأقوال الآخذة بأعنة القلوب او الأسماع وهو الذي ترجمت عليه في هذا الموضع ليقع ذكره في النفوس أحسن موقع لترمقه لأجله العيون بالاجلال وتتجمل النفوس به لميلها إليه بتتابع الأدلال وهو الظرف في اللسان الكائن عن الاشتغال بفنون علوم الآداب الحسان كالنحو واللغة ونظم الشعر وإنشاء النثر وما يتعلق بذلك من علم البديع والمعاني والبيان وما ذكرناه فهو الذي نال به حماد الراوية والأصمعي وإسحق الموصلي العلا من الخلفاء والجوائز من الوزراء وسموا تشريفاً لهم بالجلساء والندماء قال أكثم بن صيفي الرجل بلا أدب شخص بغير آلة وجسد بلا روح وقال بزرجمهر الدب شريف لا ينطبع إلا في مثله وقال الأحنف لكل شيء ذؤابة وذؤابة الشرف الأدب وقال أنوشروان عجبت لمن يشهره الأدب كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة وقال بعض الأعراب لولده عليك بالأدب فإنه يرفع العبد المملوك حتى يجلسه في مجالس الملوك وقال عبد الملك لبنيه تأدبوا فإن كنتم ملوكاً بررتم وإن كنتم أوساطاً فقتم وإن أعوزكم المعاش عشتم استفيدوا من الأدب ولو كلمة واحدة وقال بعض الأعراب تعلموا الأدب فإنه زيادة في الفضل ودليل على العقل وصاحب في الغربة وأنيس في الوحدة وجمال في المحافل وسبب إلى درك الحاجة وقال المأمون والله لان أموت طالباً للأدب خير من أن أموت قانعاً بالجهل ويقال ذك قلبك بالأدب كما تذكي النار بالحطب وقال الخليل بن أحمد من لم يكتسب بالأدب مالاً اكتسب به جمالاً وقال آخر الأدب أكرم الجواهر طبيعة يرفع الأحساب الوضيعة ويفيد الرغائب الجليلة وينجح القصد والوسيلة فالبسوه حلة وتزينوه حلية فإنه أنفق معاش وأجمل رياش وقال الشعبي الأدب للفقير مال وللغني جمال وللحكيم كمال
ومما ذكر أنّ التحلي بالآداب
…
يلحق الدنئ بذوي الأحساب
قالوا من قعد به نسبه نهض به حسبه وقالوا من تأدب وليس له حسب الحقه الأدب بأهل الرتب وقد يستغني الأدب عن الحسب كما حكى عن سيبويه