الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك عظماء كثيرون يقرأ الناس قصص حياتهم ليتملّوا من عناصر النبوغ فيها، وليتابعوا بإعجاب مسالكها في الحياة، ومواقفها بإزاء ما يعرض لها من مشكلات وصعاب، وقد تكون هذه القراءة المجرّدة هي الرباط الفذّ بين أولئك العظماء ومن يتعرّف عليهم، وربما تطوّرت فأصبحت دراسة عميقة أو صلة إنسانية وثيقة.
وأبادر إلى القول: بأني لم أكتب عن صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وفي نفسي هذا المعنى المحدود.
فأنا رجل مسلم عن علم، أعرف لماذا امنت بالله رب العالمين، ولماذا صدقت بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولماذا اتبعت الكتاب الذي جاء به، بل لماذا أدعو الاخرين إلى الإيمان بما سكنت إليه نفسي من هذا كله.
وقد سبق لي أن نشرت في السيرة فصولا منوعة، وهل ابتعدت عنها في شيء مما كتبته؟ إنّ الرسائل التي عالجت فيها بحوث العقيدة والخلق والمعاملة والحكم؛ اعتمدت على سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في كيانها وسياقها، ولذلك يصحّ أن أقول:
إن هذا الكتاب ليس صلة محدثة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولا جملة من الدلائل على صدقه، ولا لمحات تكشّفت للمؤلف عن عبقريته وسناء دعوته..
فإنّ ذلك قد استفاض به الكلام في مواضع أخرى؛ ولكني توفّرت على إخراج هذا الكتاب وأمامي غاية معينة أرجو أن أكون بلغتها.
إن المسلمين الان يعرفون عن السيرة قشورا خفيفة، لا تحرّك القلوب، ولا تستثير الهمم، وهم يعظّمون النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة،
ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلّت مؤنته من عمل.
ومعرفة السيرة على هذا النحو التافه تساوي الجهل بها.
إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة، ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض في أكفان الموتى.
إن حياة محمد صلى الله عليه وسلم ليست- بالنسبة للمسلم- مسلاة شخص فارغ، أو دراسة ناقد محايد، كلا كلا؛ إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها، فأيّ حيف في عرض هذه السيرة، وأي خلط في سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه.
وقد بذلت وسعي في إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتهدت في إبراز الحكم والتفاسير لما يقع من حوادث، ثم تركت للحقائق المجلوّة أن تدع اثارها في النفوس دون افتعال أو احتيال.
وقد استفدت من السير التي كتبها القدامى والمحدثون استفادة حسنة.
إن المؤرّخين المحدثين يميلون إلى التعليل والموازنة، وربط الحوادث المختلفة في سياق متماسك، وذاك أحسن ما في طريقتهم.
والمؤرّخون القدامى يعتمدون على حشد الاثار، وتمحيص الأسانيد، وتسجيل ما دقّ وجلّ من الوقائع والشؤون؛ وفي هذه المحفوظات الكثيرة نفائس ذات خطر لو أحسن الاستشهاد بها وإيرادها في مواضعها.
ولعلّي هنا مزجت بين الطريقتين على نحو جديد، يجمع بين ما في كلتيهما من خير، فجعلت من تفاصيل السيرة موضوعا متماسكا يشدّ أجزاءه روح واحد، ثم وزعت النصوص والمرويات الاخرى بحيث تتسق مع واحدة الموضوع، وتعين على إتقان صورته وإكمال حقيقته.
وقصدت من وراء ذلك أن تكون السيرة شيئا ينمّي الإيمان، ويزكّي الخلق، ويلهب الكفاح، ويغري باعتناق الحقّ والوفاء له، ويضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله.
إنني أكتب في السيرة كما يكتب جنديّ عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولست- كما قلت- مؤرّخا محايدا مبتوت الصلة بمن يكتب عنه.
ثم إنني أكتب وأمام عينيّ مناظر قاتمة من تأخّر المسلمين العاطفيّ والفكريّ؛ فلا عجب إذا قصصت وقائع السيرة بأسلوب يومئ من قرب أو من بعد إلى حاضرنا المؤسف، كلما أوردت قصة جعلتها تحمل في طياتها شحنة من صدق العاطفة، وسلامة الفكر، وجلال العمل، كي أعالج هذا التأخر المثير.
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس قصة تتلى في ميلاده كما يفعل الناس الان، ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التي قد تضمّ إلى ألفاظ الأذان، ولا إكنان حبّه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون، ويتأوّهون أو لا يتأوهون!.
فرباط المسلم برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين، وما جنح المسلمون إلى هذه التعابير- في الإبانة عن تعلقهم بنبيّهم- إلا يوم أن تركوا اللباب المليء وأعياهم حمله، فاكتفوا بالمظاهر والأشكال؛ ولما كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة في الإسلام، فقد افتنّوا في اختلاق صور أخرى، ولا عليهم؛ فهي لن تكلفهم جهدا ينكصون عنه، إن الجهد الذي يتطلّب العزمات هو الاستمساك باللباب المهجور، والعودة إلى جوهر الدين ذاته، فبدلا من الاستماع إلى قصة المولد يتلوها صوت رخيم، ينهض المرء إلى تقويم نفسه، وإصلاح شأنه، حتى يكون قريبا من سنن محمد صلى الله عليه وسلم في معاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته....
إنّ المسلم الذي لا يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة.
وأريد هنا أن أنبّه إلى ضرورة الفصل بين الجد والهزل في حياتنا، ولا بأس أن نجعل للهو واللعب وقتا لا يعدوه، وللجد والإنتاج وقتا لا يقصر عنه.
فإذا أراد أحد أن يغنّي أو يستمع إلى غناء فليفعل، أما تحويل الإسلام نفسه إلى غناء؛ فيصبح القران ألحانا عذبة، وتصبح السيرة قصائد وتواشيح، فهذا ما لا مساغ له، وما لا يقبله إلا الصغار الغافلون. وقد تمّ هذا التحوّل على حساب الإسلام، فانسحب الدين من ميدان السلوك والتوجيه إلى ميدان اللهو واللعب، وحقّ فيمن فعلوا ذلك قول الله عز وجل: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: 70] .
وتحوّل القران إلى تلاوة منغومة فحسب، يستمع إليها عشّاق الطّرب، هو الذي جعل اليهود والنصارى يذيعونه في الافاق، وهم واثقون أنه لن يحيي موتى.
وتحوّل السيرة إلى قصص وقصائد غزل، وصلوات مبهمة؛ جعل الاستماع إليها كذلك ضربا من الخلل النفسي، أو الشذوذ الناشئ- في نظري- من اضطراب الغرائز، وفساد المجتمع.
وخير من هذا كله أن يستمع طلاب الغناء إلى اللهو المجرد، والألحان الطروب، فإذا ابتغوا العمل الجادّ المهيب طلبوه من مصادره المصفّاة: قرانا يأمر وينهى ليفعل أمره ويترك نهيه، وسنّة تفصّل وتوضح ليسار في هديها وينتفع من حكمتها، وسيرة تنفح روادها بالأدب الزكيّ والقواعد الحصيفة، والسياسة الراشدة.
وذلك هو الإسلام.
بدأت أكتب هذه الصحائف وأنا في المدينة المنورة، في الجوار الطيّب الذي سعدت به حينا، وأعانني على إتمام دراسات جيدة في السنّة المطهرة والسيرة العطرة.
ولله المنّة على ما أولى من نعمه، ولعلّه- جلّ شأنه- يجعلني ممن يحبونه ويحبون رسوله، ولما كنت لا أحسن القول والعمل إلا في نطاق الصراحة، فلا بدّ أن أشير إلى أن البون بعيد بين المسلمين ورسولهم صلى الله عليه وسلم، مهما أكنّوا له من حبّ، وأدمنوا من صلوات. لقد رأيتهم يزورون الروضة مشوقين متلهّفين، ويعودون إلى موطنهم ليجدوا من يغبطهم على حظّهم، ويودّ لو ظفر بما نالوا.
أمّا أنّ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة؛ فهذا ما لا يماري فيه مؤمن، وما يغيض حبه إلا من قلب منافق جحود.
ولكن أن تكون هذه العاطفة مظهر الولاء له، فهذا ما يحتاج إلى تهذيب وبيان.
إن يثرب من ناحية العمران العام أقل منها يوم كانت موطنا للأوس والخزرج في الجاهلية الأولى، وما يزرع اليوم من أرضها عشر ما كان يزرعه العرب قديما، وجمهور السكان من رواسب المواسم المزدحمة بالحجيج
والزوار، وهم يؤثرون الجوار العاطل على العودة للعمل في بلادهم، ويسمّون ذلك هجرة! فهل ذلك إسلام أو حبّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
أذكر أنه قابلني نفر من أهل المغرب يزعمون أنهم قدموا إلى المدينة فرارا بدينهم من الفتن، فأفهمتهم أنهم فارّون من الزحف، لأن إخوانهم يقاتلون الفرنسيين الغزاة، وهم مجرمون بتركهم المجاهدين يحملون واحدهم عبء هذا الكفاح «1» .
إنّ هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مفهوم، وهذه الهجرة لمدينته غير متقبلة، وصلة نبي الله بعباد الله أشدّ وأحكم من أن تأخذ هذه السبل الشاردة الملتوية.
إنّ أعداء الإسلام تمكّنوا- في غفلة أهله- أن يصدعوا بناءه، ويجعلوه أنقاضا؛ فكيف يترك تراث محمد صلى الله عليه وسلم نهبا للعوادي؟! وكيف يمهّد للجاهلية الأولى أن تعود؟! وكيف يقع هذا التبدل الخطير في سكون؟! بل في مظهر من الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
فليفقه المسلمون سيرة رسولهم العظيم.
وهيهات أن يتم ذلك إلا بالفقه في الرسالة نفسها، والإدراك الحقّ لحياة صاحبها، والالتزام الدقيق لما جاء به.
ألا ما أرخص الحبّ إذا كان كلاما، وما أغلاه عند ما يكون قدوة وذماما!.
إنني أعتذر عن تقصيري في إيفاء هذا الموضوع حقّه؛ فشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبير، والإبانة عن سيرته تحتاج إلى نفس أرقّ، وذكاء أنفذ. وحسبي أن ذاك جهدي.
اللهم صلّ على محمد، وعلى ال محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى ال إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى ال محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى ال إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
محمّد الغزالي
(1) صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب وفرنسة تحتلّ أقطار المغرب الثلاثة وغيرها من ديار الإسلام. قلت: صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في السبعينيات من القرن الرابع عشر الهجري، الموافق للخمسينيات من القرن العشرين الميلادي. (ن) .