الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طبيعة الرّسالة الخاتمة
وتمتاز بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها عامة ودائمة.
والله عز وجل كان يستطيع أن يبعث في كلّ قرية نذيرا، ولكلّ عصر مرشدا، وإذا كانت القرى لا تستغني عن النّذر، والأعصار لا تستغني عن المرشدين، فلم استعيض عن ذلك كله برجل فذ؟.
الحقّ أن هذا الاكتفاء أشبه بالإيجاز الذي يحصّل المعنى الكثير في اللفظ اليسير؛ وبعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانت عوضا كاملا عن إرسال جيش من النبيين يتوزّع على الأعصار والأمصار، بل إنها سدّت مسدّ إرسال ملك كريم إلى كل إنسان تدبّ على الأرض قدماه، ما بقيت على الأرض حياة، وما تطلعت عين إلى الهدى والنجاة، ولكن كيف ذلك؟!.
في المزالق المتلفة قد يقول لك ناصح أمين: أغمض عينيك واتبعني، أو لا تسلني عن شيء يستثيرك، وربما تكون السلامة في طاعته؛ فأنت تمشي وراءه حتى تبلغ مأمنك، إنه في هذه الحال رائدك المعين، الذي يفكر لك، وينظر لك، ويأخذ بيدك؛ فإن هلك هلكت معه.
أمّا لو جاءك من أول الأمر رجل رشيد فرسم خطّ السير، وحذّرك مواطن الخطر، وشرح لك في إفاضة ما يطوي لك المراحل ويهوّن المتاعب، وسار معك قليلا ليدرّبك على العمل بما علمت؛ فأنت في هذه الحال رائد نفسك، تستطيع الاستغناء بتفكيرك وبصرك عن غيرك.
إن الوضع الأوّل أليق بالأطفال والسّذّج، وأما الوضع الأخير فهو المفروض عند معاملة الرجال وأولي الرأي من الناس.
والله عز وجل عند ما بعث محمدا عليه الصلاة والسلام لهداية العالم، ضمّن رسالته الأصول التي تفتّق للألباب منافذ المعرفة بما كان ويكون.
والقران الذي أنزله على قلبه هو كتاب من ربّ العالمين إلى كلّ حيّ، ليوجهه إلى الخير ويلهمه الرشد.
لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام إماما لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه، فلما انتهى ذهبوا معه في خبر كان، بل كان قوة من قوى الخير، لها في عالم المعاني ما لاكتشاف البخار والكهرباء في عالم المادة. وإن بعثته لتمثّل مرحلة من مراحل التطور في الوجود الإنساني، كان البشر قبلها في وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه، ثم شبّ الطفل عن الطوق، ورشّح لاحتمال الأعباء واحده، وجاء الخطاب الإلهي إليه- عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم يشرح له كيف يعيش في الأرض، وكيف يعود إلى السماء. فإذا بقي محمد صلى الله عليه وسلم أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته. إن رسالته تفتيح الأعين والاذان، وتجلية البصائر والأذهان، وذلك مودع في تراثه الضخم من كتاب وسنّة.
إنه لم يبعث ليجمع حول اسمه أناسا قلّوا أو كثروا؛ إنما بعث صلة بين الخلق والحق الذي يصحّ به وجودهم، والنور الذي يبصرون به غايتهم.
فمن عرف في حياته الحق، وكان له نور يمشي به في الناس فقد عرف محمدا صلى الله عليه وسلم، واستظلّ بلوائه، وإن لم ير شبحه أو يعش معه:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)[النساء] .
فإذا رأيت بعض الناس يتناسى دروس الأستاذ، ويتشبّث بثيابه وهو حيّ، أو يتعلق برفاته وهو ميت، فاعلم أنه طفل غرير، ليس أهلا لأن يخاطب بتعاليم الرسالة بله أن يستقيم على نهجها.
في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة رأيت حشدا من الناس يتلمّس جوار الرّوضة الشريفة، ويودّ أن يقضي العمر بجانبها.
ولو خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حيّا على هؤلاء؛ لأنكر مراهم وكره جوارهم.
إن رثاثة هيئتهم، وقلّة فقههم، وفراغ أيديهم، وضياع أوقاتهم، وطول غفلتهم، تجعل علاقتهم بنبيّ الإسلام أوهى من خيط العنكبوت.
قلت لهم: ما تفيدون من جوار النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما يفيد هو نفسه منكم؟
إنّ الذين يفقهون رسالته ويحيونها من وراء الرمال والبحار، أعرف بحقيقة
محمد صلى الله عليه وسلم منكم. إنّ القرابة الروحية والعقلية هي الرباط الوحيد بين محمد عليه الصلاة والسلام ومن يمتّون إليه.
فأنّى للأرواح المريضة والعقول الكليلة أن تتصل بمن جاء ليودع في الأرواح والعقول عافية الدين والدنيا؟!.
أهذا الجوار اية حبّ ووسيلة مغفرة؟!.
إنك لن تحبّ لله إلا إذا عرفت أولا الله الذي تحبّ من أجله!! فالترتيب الطبيعيّ أن تعرف قبل كل شيء: من ربّك؟ وما دينك؟ فإذا عرفت ذلك- بعقل نظيف- وزنت- بقلب شاكر- جميل من بلّغك عن الله، وتحمّل العنت من أجلك، وذلك معنى الأثر:«أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبّوني بحبّ الله..» «1» ، ومعنى الاية:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)[ال عمران] .
ثم إن نبيّ الإسلام لم ينصّب نفسه (بابا) يهب المغفرة للبشر، ويمنح البركات، إنه لم يفعل ذلك يوما ما، لأنه لم يشتغل بالدجل قط.
إنه يقول لك: تعال معي؛ أو اذهب مع غيرك من الناس، لنقف جميعا في ساحة ربّ العالمين نناجيه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)[الفاتحة] .
(1) هذا حديث ضعيف الإسناد، أخرجه الترمذي: 4/ 343- 344، بشرح التحفة؛ والحاكم: 3/ 150؛ وأبو نعيم في حلية الأولياء: 3/ 211؛ والخطيب في تاريخه: 4/ 160، من طريق هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا به، وقال الترمذي:«حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه» ، وقال الحاكم:«صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي. وهذا من تساهلهم جميعا لا سيما الذهبي، فقد أورد النوفلي هذا في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال)، وقال فيه:«فيه جهالة. ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف» ثم ساق له هذا الحديث، فأنّى له الصحة؟! وقد تفرّد به هذا المجهول، ولم يوثقه أحد، ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر في (التقريب) : إنه (مقبول)، يعني: عند المتابعة، فأنّى المتابع له؟! ولذلك فقد أصاب ابن الجوزي حين قال:«هو غير صحيح» كما نقله المناوي في (فيض القدير)، وتعقبه بما لا طائل تحته!. نقول: ومع نقد الأستاذ لهذا الحديث فنحن نقبله؛ لأنّ معناه يوافق الاية، ولأنه في الفضائل.
فإذا رضي عنك هذا النبيّ- دعا الله لك، وإذا رضيت أنت عنه، ووقر في نفسك جلال عمله وكبير فضله؛ فادع الله كذلك له! فإنك تشارك بذلك الملائكة الذين يعرفون قدره ويستزيدون أجره: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)[الأحزاب] .
وليس عمل محمد عليه الصلاة والسلام أن يجرّك بحبل إلى الجنة، وإنما عمله أن يقذف في ضميرك البصر الذي ترى به الحق، ووسيلته إلى ذلك كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ميسّر للذكر، محفوظ من الزيغ، وذاك سرّ الخلود في رسالته.
فلننظر كيف عالج الرسول عليه الصلاة والسلام البيئة التي ظهر فيها على ضوء هذه الطبيعة المفروضة في رسالته، ولننظر قبل ذلك إلى أحوال هذه البيئة نفسها.