الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع بني قريظة
انفضت حشود الأحزاب حول المدينة، وعادت المطيّ بها من حيث أتت تذرع رحاب الصحراء، وليست تحمل معها إلا الفشل والخيبة، وبقي يهود بني قريظة واحدهم، أو بقوا وبقيت غدرتهم، التي فضحت طواياهم، فأصبحوا وأمسوا أشبه بالمجرم الذي ثبتت إدانته، فهو يرقب- بوجه كالح- قصاص العدالة منه.
وكانت مشاعر التغيّظ في أفئدة المسلمين نحو أولئك اليهود قد بلغت ذروتها، إنّهم هم الذين استخرجوا العرب استخراجا، واستقدموهم إلى دار الهجرة ليجتاحوها من أقطارها، ويستأصلوا المسلمين فيها.
إن جراحات المسلمين لطردهم من ديارهم، ومطاردتهم في عقيدتهم، واستباحة أموالهم ودمائهم لكلّ ناهب ومغتال، لمّا تندمل بعد، بل لن تندمل أبدا، فكيف ساغ لأولئك الخونة من بني إسرائيل أن يرسموا بأنفسهم الخطة لإهلاك الإسلام وأبنائه على هذا النحو الذليل؟.
ثم ما الذي يجعل بني قريظة خاصة- وهم لم يروا في جوار محمد صلى الله عليه وسلم إلا البر والوفاء- يستديرون بأسلحتهم منضمين إلى أعداء الإسلام، كي يشركوهم في قتل المسلمين وسلبهم؟.
وها قد دخل في حصونهم حيي بن أخطب رأس العصابة التي طافت بمكة ونجد، تحرّض الأحزاب على الله ورسوله، وتزعم أنّ الوثنية أفضل من التوحيد!!.
لذلك، ما إن وثق المسلمون من منصرف الأحزاب عن المدينة حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّنا فأذّن في الناس:«من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة» «1» .
(1) حديث صحيح، أخرجه ابن هشام: 2/ 194- 195، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري به مرسلا، وقد أخرجه البخاري: 7/ 327؛ ومسلم: 5/ 162، وغيرهما من حديث ابن عمر به، دون قوله:«من كان سامعا مطيعا» .
والأذان للقتال في هذه الضحوة المشرقة بالظفر والنجاة قرع مسامع المسلمين نديّا جليا، فهم في غمرة من الشعور بتأييد الله وملائكته لهم، أين هم اليوم مما كانوا عليه بالأمس القريب؟ إنّهم مدينون بحياتهم وكرامتهم للعناية العليا واحدها
…
أمّا خصومهم، فإنّ قوى الكون المسخّر بإذن الله هي التي فضّت جموعهم وفلّت حدودهم. فلا غرو إذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين- محدّثا عن الرّوح الأمين-:«ما وضعت الملائكة السّلاح بعد.. إنّ الله يأمرك يا محمّد بالمسير إلى بني قريظة، فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم» «1» .
وقد صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر، وشدّد على المسلمين أن يسارعوا في إنفاذه.
روى البيهقي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «عزمت عليكم ألاتصلّوا العصر حتى تأتوا بني قريظة» ، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين: إنّ رسول الله لم يرد أن تدعوا الصلاة، فصلّوا. وقالت طائفة: والله إنا لفي عزيمة رسول الله، وما علينا من إثم، فصلّت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنّف رسول الله واحدا من الفريقين «2» .
وذلك يمثّل احترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر ما دامت عن اجتهاد بريء سليم، والنّاس غالبا أحد رجلين: رجل يقف عند حدود النصوص الظاهرة لا يعدوها، ورجل يتبيّن حكمتها ويستكشف غايتها، ثم يتصرّف في نطاق ما وعى من حكمتها وغايتها، ولو خالف الظاهر القريب.
وكلا الفريقين يشفع له إيمانه واحتسابه؛ سواء أصاب الحق أو ندّ عنه.
ومن العلماء من أهدر الوقت المعيّن للصلاة بعذر القتال، وذلك مذهب البخاري وغيره، وهذا- عندي- أدنى إلى الصواب. فإنّ ترتيب الواجبات المنوطة بأعناق العباد من أهمّ ما يحدّد رسالة المسلم في الحياة، بل إنّه لا يفهم دينه فهما صحيحا إلا إذا فقه هذا الترتيب المطلوب.
(1) هو من حديث الزهري المتقدم. لكنّ أمر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير ثابت في صحيح البخاري: 7/ 327؛ والمسند: 6/ 56، 131، 141، 280؛ من حديث عائشة.
(2)
حديث صحيح، رواه البيهقي في (دلائل النبوة) من حديث عبيد الله بن كعب، وحديث عائشة؛ وأخرجه عنها الحاكم: 3/ 34- 35، وصحّحه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.