الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين وقد أغضبه هذا الفرار، فقال:«أين أيها النّاس؟! هلمّوا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمّد بن عبد الله» .
فلا يرد عليه شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا وهي مولية بأصحابها «1» .
ولمح النبي صلى الله عليه وسلم وراءها رجلا من (هوازن) على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، (وهوازن) خلفه، إذا أدرك الفارين طعن برمحه، وإذا فاتوه رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه.
إن الذي تولّى كبر هذه المهزلة الشائنة هم الطلقاء من أهل مكة ورعاع البدو. ووقف النبي صلى الله عليه وسلم ساكن الجأش، يدير الرأي في خطة ينقذ بها سمعة الإسلام ومستقبله، وقد أحاط به لفيف من المهاجرين الأولين ومن أهل بيته.
فأمر العبّاس بن عبد المطلب- وكان جهير الصوت- أن ينادي: يا معشر الأنصار يا أصحاب البيعة يوم الحديبية «2» ..
لقد هداه الحقّ أن يهتف بأصحاب العقائد، ورجال الفداء عند الصدام فهم واحدهم- الذين تنجح بهم الرسالات وتفرّج الكروب.
أما هذا الغثاء من العوام الحراص على الدنيا، السعاة إلى المغانم، فما يقوم بهم أمر، أو تثبت بهم قدم.
الثبات والنصر:
وفي ضجة الفزع الذي ساد المعركة أولا، علت صيحات العباس رضي الله عنه، ووصلت إلى اذان الرجال المشدوهين لما وقع، فأخذوا يكافحون ليبلغوا مصدر الصوت.
إذا أراد أحدهم أن يعطف بعيره ليعود به لا يقدر من ضغط الفارين، فما يجد بدا من أن يقذف درعه من عنقه، ويحمل سيفه وترسه ثم يؤمّ الصوت.
واجتمع حول رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد من الرجال الذين دعاهم، وهم يصيحون:
لبيك لبيك، حتى قارب القوم مئة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم بهم المشركين، وقد ملك
(1) صحيح أخرجه ابن هشام: 2/ 289، وابن جرير: 2/ 347، كلاهما عن ابن إسحاق بسنده الصحيح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
صحيح، رواه ابن إسحاق بسند صحيح عن العباس، وقد ساقه ابن جرير وابن هشام عنه؛ وهو في مسلم: 5/ 166- 167 نحوه.
زمام الموقف، وأعاد الكرّة عليهم، فاجتلد الفريقان اجتلادا شديدا.
وقصد (علي) وأحد الأنصار إلى حامل العلم في طليعة (هوازن) ، فضرب (علي) عرقوبي جمله، فوقع على عجزه، ثم استمكن منه الأنصاري، فهوى به عن رحله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته يقول:
«أنا النبيّ لا كذب
…
أنا ابن عبد المطّلب» «1»
ويدعو: «اللهم نزّل نصرك» «2» .
والمهاجرون والأنصار قد التحموا مع رجال (هوازن) و (ثقيف) .
قال العباس: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها- إلى قتالهم فقال: «الان حمي الوطيس» ، ثم أخذ حصيّات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال:«انهزموا وربّ محمد» .
قال العباس: فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فما هو إلا أن رماهم فما زلت أجد حدّهم كليلا، وأمرهم مدبرا «3» .
ولم يطل وقت، حتى كان رجال (ثقيف) ومن معهم يوغلون مولّين الأدبار في وادي حنين، ورجع الطلقاء والبدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هم يرون الأسرى مكتفين!.
وفي هذه المعركة نزل قول الله عز وجل: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)[التوبة] .
واعتصم بعض المنهزمين بناحية يقال لها: (أوطاس) .
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في أعقابهم (أبا عامر الأشعري) فقاتلهم حتى قتل، فأخذ الراية منه ابن أخيه (أبو موسى الأشعري) فما زال يناوش القوم حتى بدّد شملهم،
(1) صحيح، أخرجه الشيخان عن البراء بن عازب.
(2)
صحيح تفرد به مسلم: 5/ 168، عنه.
(3)
صحيح، رواه مسلم عن العباس.