المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌معركة أحد لم يهدأ بال قريش مذ غشيها في «بدر» ما - فقه السيرة للغزالي

[محمد الغزالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمة

- ‌حول أحاديث هذا الكتاب

- ‌رسالة وإمام (مدخل إلى السيرة النبوية)

- ‌الوثنيّة تسود الحضارة القديمة

- ‌طبيعة الرّسالة الخاتمة

- ‌العرب حين البعثة

- ‌رسول معلم

- ‌منزلة السنّة من الكتاب الكريم

- ‌النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات

- ‌من الميلاد إلى البعث (العهد المكي)

- ‌[نسب النبي صلى الله عليه وسلم ومولده ورضاعه]

- ‌[نسبه ومكانته في قومه] :

- ‌[قلة ماله عليه الصلاة والسلام] :

- ‌[تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[كيفية استقبال جدّه لمولده] :

- ‌[عرضه على المراضع] :

- ‌شق الصدر

- ‌بحيرا الراهب

- ‌حياة الكدح

- ‌[أهداف التعليم] :

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌قوة ونشاط

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌[الزواج الميمون] :

- ‌الكعبة

- ‌باحثون عن الحقّ

- ‌في غار حراء

- ‌ورقة بن نوفل

- ‌جهاد الدّعوة (في مكة)

- ‌[محمد صلى الله عليه وسلم يحمل أعباء الدعوة إلى الله]

- ‌إلام يدعو الناس

- ‌1- الواحدانية المطلقة:

- ‌2- الدار الاخرة:

- ‌3- تزكية النفس:

- ‌4- حفظ كيان الجماعة المسلمة:

- ‌الرعيل الأوّل

- ‌إظهار الدعوة

- ‌أبو طالب

- ‌الاضطهاد

- ‌عمار بن ياسر رضي الله عنه:

- ‌بلال رضي الله عنه:

- ‌خباب رضي الله عنه:

- ‌مفاوضات

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌[التحذير من الإسرائيليات] :

- ‌[الهجرة الثانية إلى الحبشة] :

- ‌إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما

- ‌المقاطعة العامة

- ‌عام الحزن

- ‌في الطائف

- ‌[في جوار المطعم بن عدي] :

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌[لماذا المسجد الأقصى

- ‌حكمة الإسراء:

- ‌إكمال البناء:

- ‌سلامة الفطرة:

- ‌فرض الصلاة:

- ‌[صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين] :

- ‌قريش والإسراء:

- ‌[عرض الإسلام على القبائل] :

- ‌الهجرة العامّة مقدّماتها ونتائجها (العهد المدني)

- ‌[تمهيد]

- ‌[التحول الجديد] :

- ‌[بشارة اليهود بالنبي الجديد وكفرهم به] :

- ‌فروق بين البلدين

- ‌صنع اليهود

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌بيعة العقبة الكبرى

- ‌طلائع الهجرة

- ‌في دار الندوة

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌درس في سياسة الأمور:

- ‌في الغار:

- ‌في الطريق إلى المدينة:

- ‌دعاء:

- ‌[خبر الهجرة ينتشر في جوانب الصحراء] :

- ‌الوصول إلى المدينة

- ‌استقرار المدينة:

- ‌[النفس العظيمة] :

- ‌[مشكلات وحلول إيجابية] :

- ‌أسس البناء للمجتمع الجديد

- ‌[دعائم المجتمع الجديد]

- ‌[أولا] : المسجد:

- ‌[ثانيا] : الأخوة:

- ‌[ثالثا] : غير المسلمين:

- ‌المصطفون الأخيار

- ‌معنى العبادة

- ‌قيادة تهوي إليها الأفئدة

- ‌[أوصافه وبعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الكفاح الدّامي

- ‌[مرحلة الإعداد للجهاد]

- ‌[تمارين ومناورات ومعارك] :

- ‌سرايا

- ‌[حكمة بعث السرايا] :

- ‌سرية عبد الله بن جحش:

- ‌معركة بدر

- ‌[فرار أبي سفيان بالقافلة، واستصراخه أهل مكة] :

- ‌[استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه] :

- ‌[دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر] :

- ‌[بداية المعركة] :

- ‌[مقتل أبي جهل] :

- ‌[بشاشة الفوز تضحك للمؤمنين] :

- ‌محاسبة وعتاب (في الغنائم) :

- ‌[في الأسرى] :

- ‌في أعقاب بدر:

- ‌بدء الصراع بين اليهود والمسلمين

- ‌طرد يهود بني قينقاع:

- ‌[سر نقمة اليهود على الإسلام والمسلمين] :

- ‌مقتل كعب بن الأشرف:

- ‌مناوشات مع قريش

- ‌[بين بدر وأحد] :

- ‌معركة أحد

- ‌عبر المحنة:

- ‌[من بطولات الصحابة وتضحياتهم] :

- ‌[إصابة النبي صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[دروس وعبر] :

- ‌شهداء أحد:

- ‌[حمراء الأسد] :

- ‌اثار أحد:

- ‌[قصة الرجيع] :

- ‌[شهداء القرّاء في بئر معونة] :

- ‌[المصاب الفادح] :

- ‌[استعادة هيبة المسلمين] :

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌[الثأر لأصحاب الرجيع وبئر معونة] :

- ‌بدر الاخرة

- ‌دومة الجندل

- ‌غزوة بني المصطلق

- ‌حديث الإفك

- ‌غزوة الأحزاب

- ‌مع بني قريظة

- ‌[علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين] :

- ‌[نزول بني قريظة على حكم سعد] :

- ‌[قتل أبي رافع بن أبي الحقيق] :

- ‌طور جديد

- ‌عمرة الحديبية

- ‌[عدم الرغبة في القتال] :

- ‌[مفاوضات] :

- ‌[محاولات للاعتداء] :

- ‌[بيعة الرضوان] :

- ‌[شروط صلح الحديبية] :

- ‌[ردة فعل المسلمين على الشروط] :

- ‌[أحداث ما بعد الحديبية] :

- ‌مع اليهود مرة أخرى (يهود خيبر)

- ‌[حصون اليهود تتداعى] :

- ‌[نماذج من الشهادة] :

- ‌[أحداث ما بعد المعركة] :

- ‌[الأرض لله يورثها من يشاء] :

- ‌عودة مهاجري الحبشة

- ‌تأديب الأعراب

- ‌مكاتبة الملوك والأمراء

- ‌[كتابه إلى قيصر ملك الروم] :

- ‌[ردّ ملك غسان] :

- ‌[ردّ المقوقس ملك القبط] :

- ‌[ردّ فعل كسرى ملك فارس] :

- ‌[ردّ أمير البحرين] :

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة مؤنة

- ‌[التربية الجهادية للمجتمع المسلم] :

- ‌[مكانة القادة الثلاثة في الجنة] :

- ‌ذات السلاسل

- ‌[فقه عمرو] :

- ‌الفتح الأعظم

- ‌[أبو سفيان يحاول إصلاح ما أفسده قومه] :

- ‌[إنه شهد بدرا

- ‌[إسلام العباس رضي الله عنه] :

- ‌[تعمية أخبار الجيش] :

- ‌[دعوة أبي سفيان إلى الاستسلام] :

- ‌[دخول جيش المسلمين مكة] :

- ‌[مشاهد بعد الفتح] :

- ‌[ذكريات الشهداء] :

- ‌[إسلام فيه دخن] :

- ‌معركة حنين

- ‌هزيمة:

- ‌الثبات والنصر:

- ‌الغنائم:

- ‌حكمة هذا التقسيم:

- ‌عودة وفد هوازن:

- ‌حصار الطائف:

- ‌إلى دار الهجرة:

- ‌موقف المنافقين:

- ‌غزوة تبوك

- ‌[دعوة إلى البذل والعطاء] :

- ‌[مصاعب وصبر وعزيمة] :

- ‌[تحقيق أهداف الغزوة] :

- ‌المخلّفون

- ‌مسجد الضّرار:

- ‌طليعة الوفود

- ‌حج أبي بكر بالناس

- ‌وفد للأميين، ووفد لأهل الكتاب

- ‌أمّهات المؤمنين

- ‌[زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين و‌‌كلمة عن تعدّد الزوجات]

- ‌كلمة عن تعدّد الزوجات]

- ‌[زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة] :

- ‌[عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة رضي الله عنهن] :

- ‌[زواجه بالسيدة زينب رضي الله عنها] :

- ‌[زوجات أخريات] :

- ‌فأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب

- ‌وصفية بنت حيي

- ‌وجويرية بنت الحارث

- ‌حجّة الوداع

- ‌استقرار:

- ‌ حجة الوداع

- ‌إلى المدينة:

- ‌الرّفيق الأعلى

- ‌[شكوى النبي صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[اشتداد المرض] :

- ‌[أوامر ووصايا] :

- ‌[حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته] :

- ‌[وفاته صلى الله عليه وسلم واثارها على المسلمين] :

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ‌معركة أحد لم يهدأ بال قريش مذ غشيها في «بدر» ما

‌معركة أحد

لم يهدأ بال قريش مذ غشيها في «بدر» ما غشيها، وكان ما جدّ من الحوادث بعد لا يزيد أحقادها إلا ضراما، فلما استدارت السنة، كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها أحلافها من المشركين، وانضمّ إليهم كلّ ناقم على الإسلام وأهله.

فخرج الجيش الثائر في عدد يربو على ثلاثة الاف.

ورأى أبو سفيان- قائده- أن يستصحب النساء معه، حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم؟ وكانت الترات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشفّ عما سوف يقع من قتال مرير.

وفي أوائل شوال من السنة الثالثة وصل الجيش الزاحف إلى المدينة، فنزل قريبا من جبل «أحد» وأرسل خيله ترعى زروعها الممتدة هناك.

واجتمع المسلمون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدبّرون أمرهم.

أيخرجون لمقاتلة العدو في العراء أم يستدرجونه إلى أزقة المدينة، حتى إذا دخلها قاتله الرجال في الطرق، وقاتلته النساء من فوق أسطح البيوت؟.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى الرأي الأخير، وأيّده فيه رجال من أولي النظر والروية، وقال عبد الله بن أبي: هذا هو الرأي، لكنّ الرجال الذين لم يشهدوا بدرا تحمّسوا للخروج، وقالوا: كنا نتمنّى هذا اليوم، وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير! وظاهرهم الشباب الطامح في الاستشهاد، وبدا أنّ كثرة المسلمين تميل إلى البروز لملاقاة العدو، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيته وخرج منه لابسا عدته متهيئا للقتال.

وشعر القوم أنّهم استكرهوا الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيهم، وأظهروا الرغبة في النزول على رأيه. بيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وجد غضاضة من الاضطراب بين شتى الاراء، فقال: «ما ينبغي لنبيّ لبس لأمته أن يضعها، حتّى يحكم الله بينه

ص: 256

وبين عدوّه» «1» .

وقال: «قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس، وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه» «2» .

ثم خرج في ألف رجل حتى نزل ب (أحد) ؛ إلا أنّ عبد الله بن أبي انسحب في الطريق بثلث الناس قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومحتجا بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره.

فتبعهم عبد الله بن عمرو- والد جابر بن عبد الله- ينصحهم بالثبات، ويؤنّبهم على العودة، ويذكّرهم بواجب الدفاع عن المدينة ضد المغيرين إذا لم يكن لهم إيمان بالله واليوم الاخر وثّقه بالإسلام ورسوله.

فأبى (ابن أبيّ) الاستماع إليه، وفيه وفيمن انسحب معه نزلت الاية:

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ [ال عمران: 167] .

عسكر المسلمون بالشّعب من (أحد) في عدوة الوادي، جاعلين ظهرهم إلى الجبل، ورسم النبيّ صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة، فجاءت محكمة رائعة؛ وزّع الرماة على أماكنهم وأمّر عليهم عبد الله بن جبير- وكانوا خمسين رجلا- وقال:

«انضحوا الخيل عنّا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا!! إن كانت الدائرة لنا أو علينا فالزموا أماكنكم، لا نؤتينّ من قبلكم» «3» !! وفي رواية قال لهم: «احموا ظهورنا، إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا!» .

(1) رواه ابن هشام: 2/ 126- 128، عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره مرسلا؛ وقد وصله أحمد: 3/ 351، من طريق ابن الزبير عن جابر نحوه، وسنده على شرط مسلم، غير أن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه. ولكن له شاهد من حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي كما في (البداية) : 4/ 11 بسند حسن، فالحديث صحيح؛ وقد رواه أحمد أيضا، رقم (2609) ؛ والحاكم: 2/ 128- 129- 296- 297، وصحّحه، ووافقه الذهبي، وهو حديث طويل في غزوة أحد سيأتي بعض فقراته في الكتاب.

(2)

ذكره ابن كثير: 4/ 12- 13، من رواية موسى بن عقبة معضلا.

(3)

حديث صحيح، أخرجه ابن هشام: 2/ 129، عن ابن إسحاق بدون إسناد، وله شواهد كثيرة، منها عن البراء بن عازب، أخرجه البخاري: 7/ 280؛ وأبو داود: 1/ 415؛ وأحمد: 4/ 293، 294، ومنها عن ابن عباس وهو الرواية الثانية التي في الكتاب. أخرجه أحمد والحاكم وصحّحه كما تقدم قريبا.

ص: 257

واطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنّ فرقة الرماة قد أمّنت بهذه الأوامر المشددة مؤخرة جيشه، فأقبل يتعهّد مقدمته، وأمر ألا ينشب قتال إلا بإذنه.

وظاهر هو نفسه بين درعين «1» ، وأخذ يتخيّر الرجال أولي النجدة والبأس، ليكونوا طليعة المؤمنين حين يلتحم الجمعان. إن عدد المسلمين على الربع من المشركين، ولن يعوّض هذا التفاوت إلا الأشخاص الذين يوزنون بالألوف وهم احاد.

روى ثابت «2» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمسك يوم «أحد» بسيف ثم قال: «من يأخذ هذا السّيف بحقّه؟» فأحجم القوم، فقال أبو دجانة: أنا اخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين. قال ابن إسحاق: كان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم أنّه سيقاتل حتى الموت، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعصّب وخرج يقول:

أنا الذي عاهدني خليلي

ونحن بالسّفح لدى النّخيل

ألّا أقوم الدّهر في الكيول

أضرب بسيف الله والرسول

ويعني بعدم قيامه في الكيول: ألا يقاتل في مؤخرة الصفوف، بل يظلّ أبدا في المقدمة.

ثم تدانت الفئتان، وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لرجاله أن يجالدوا العدو، وبدأت مراحل القتال الأولى تثير الغرابة. كأن ثلاثة الاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم، لا بضع مئات قلائل! وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين.

خرج حنظلة بن أبي عامر من بيته حين سمع هواتف الحرب، وكان حديث عهد بعرس، فانخلع من أحضان زوجته، وهرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد!.

إن حادي التضحية كان أملك لنفسه وأملأ لحسه من داعي اللذة، فاستشهد البطل وهو جنب!!.

(1) حديث صحيح، أخرجه الحاكم: 3/ 25؛ وعنه البيهقي: 9/ 46، من حديث الزبير بن العوام، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حسن الإسناد عندي؛ وأخرجه الترمذي: 3/ 28، واستغربه. وله شواهد كثيرة، منها: عن السائب بن يزيد عن رجل قد سماه؛ أخرجه أبو داود: 1/ 404؛ والبيهقي. وبقية الشواهد تراجع في (المجمع) : 6/ 108- 109.

(2)

كذا وقع في تاريخ ابن كثير: 4/ 15، معزوّا لأحمد، فنقله المؤلف كذلك، وإنما هو عن ثابت عن أنس؛ كذلك أخرجه أحمد: 3/ 123؛ ومسلم أيضا: 7/ 151.

ص: 258

وسادت روح الإيمان المحض صفوف المجاهدين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تقطّعت أمامه السدود.

وقف طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء قريش يتحدّى، داعيا إلى البراز، فوثب إليه الزبير بن العوام حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه!!.

أقبل أبو دجانة معلما بعصابته الحمراء، لا يلقى مشركا إلا قتله، وكان أحد المشركين قد شغل نفسه بالإجهاز على جرحى المسلمين في المعركة. قال كعب بن مالك: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدّر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرّق فرقتين!! ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة

وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، وصمد لحملة اللواء من بني عبد الدار، فاقتنص أرواحهم فردا فردا!!.

قال (وحشي) غلام جبير بن مطعم: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عمّ محمد فأنت عتيق، قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلّما أخطئ بها شيئا، فلمّا التقى الناس، فخرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته كأنّه الجمل الأورق، يهدّ الناس بسيفه هدّا، ما يقوم له شيء!! فو الله إنّي لأتهيّأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزّى، فلمّا راه حمزة قال: هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور؟ قال: فضربه ضربة كأنما اختطفت رأسه. فهززت حربتي، حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته- أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذ لم تكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق.

ومع الخسارة الفادحة التي نالت المسلمين بقتل حمزة، فإنّ جيشهم القليل ظلّ مسيطرا على الموقف كلّه، وحمل لواء المسلمين في هذا القتال (مصعب بن عمير) الداعية العظيم، فلما استشهد، حمل اللواء عليّ بن أبي طالب، واستبق

ص: 259

المهاجرون والأنصار في ميدان الشرف، وأخذ اللواء الإسلاميّ يتقدم خطوة خطوة، وشعار المسلمين في هذا الالتحام:«أمت، أمت» .

وكانت نسوة قريش دائبات على استنهاض رجالهم، يضربن بالدّفوف، ويحرّضن على القتال، تقودهنّ هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.

فكانت تقول- حاثّة بني عبد الدار على إبقاء لواء مكة مرفوعا-:

ويها بني عبد الدّار

ويها حماة الأدبار

ضربا بكلّ بتّار!!

وتؤزّ قومها على القتال منشدة:

إن تقبلوا نعانق

ونفرش النّمارق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

وقد بذلت قريش أقصى جهدها لتحطّم عنفوان المسلمين، لكنها أحست العجز، وانكسرت همّتها أمام ثبات المسلمين وإقدامهم.

قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره، وصدق وعده، فحسّوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شكّ فيها.

روى عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم سوق هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوارب، ما دون أخذهنّ قليل ولا كثير!!.

قد يجد المرء نفسه في حفل يموج بالأنوار، وتنتشر في أجوائه الأشعة المبصرة، ثم يقع خلل مفاجئ يقطع التيار، فإذا المصابيح تعتم، ثم يسود المكان ظلام موحش سقيم!!.

إن هذا مثل للتحول المستنكر الذي قلب سير الحوادث في معركة أحد.

لحظة يسيرة من لحظات الضعف الإنساني عرضت لفريق من الجند، فأوقعت الارتباك في صفوف الجيش كلّه، فضاعت في ساعة نزق كلّ المكاسب التي أحرزتها الشجاعة النادرة والتضحية البالغة!.

لقد علمت كيف شدّد الرسول عليه الصلاة والسلام على الرماة أن يلزموا أماكنهم صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ألا يبرحوها أبدا، ولو رأوا الجيش تتخطفه الطير؟ غير أنّ أثارة من حبّ الدنيا عصفت بهذه الوصاة في ساعة غفلة؟

ص: 260

فما أن رأى الرماة الهزيمة حلّت بقريش، النساء يهمن في الجبل، والرجال يولّون الأدبار، والغنائم التي خلّفها ثلاثة الاف مشرك تزحم الوادي

حتى غادروا مواقعهم هابطين إلى الميدان، يبغون انتهاب أنصبتهم من الأسلاب والأموال!.

وكان فرسان المشركين بقيادة خالد بن الوليد محصورين، لا يجدون ثغرة ينفذون منها إلى قلب المسلمين، إلى أن حلّت الهزيمة، فلما رأى خالد أنّ مؤخرة المسلمين انكشفت، فلم يبق عليها حارس، اهتبل الفرصة على عجل، فاستدار بالخيل، وأحدق بخصومه منحدرا عليهم من حيث لا يحتسبون. ورأى الفارّون من قريش بوادر هذا التغير الطارئ، فتراجعوا، حتى إنّ امرأة تدعى عمرة بنت علقمة الحارثية هي التي رفعت لواء قريش من التراب، بعد أن سقط وصرع حملته، وثاب المشركون إلى رايتهم وخيالتهم فأحيط الصحابة من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى..

على أنّ الرجال الأحرار لا يصادون بسهولة، إنهم شدهوا لما حدث.

ولكنّهم أخذوا يقاتلون بحرارة، وإن كان هدفهم هذه المرة أن ينجوا فحسب! أن يبصروا طريقا يخلّصهم من هذا المأزق العضوض!.

واستشهد كثير وهم يحاولون شقّ طريقهم، واستطاع المشركون أن يخلصوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم، فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه، فأثقله، وتفجّر منه الدم «1» . وشاع أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم قتل، فتفرّق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة، وانطلقت طائفة فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم، فما يدرون كيف يفعلون..

إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمؤمنين: «إليّ عباد الله، إليّ عباد الله» ! فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا، غير أنّ المشركين بصروا بهم فهاجموهم! ووقف طلحة بن عبيد الله، وسهل بن حنيف، إلى جوار الرسول عليه الصلاة والسلام، فأصيب طلحة بسهم في يده فشلّها.

(1) رواه ابن جرير في تاريخه عن السدي مرسلا كما في (البداية) : 4/ 23؛ وكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم وشج رأسه ثابت في مسلم: 5/ 179، من حديث أنس؛ ورواه البخاري: 7/ 292، معلّقا.

ص: 261

وأقبل أبي بن خلف الجمحيّ على النبي عليه الصلاة والسلام وكان قد حلف أن يقتله- وأيقن أنّ الفرصة سانحة، فجاء يقول: يا كذّاب أين تفر! وحمل على الرسول صلى الله عليه وسلم بسيفه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أنا قاتله إن شاء الله» ، وطعنه في جيب درعه طعنة وقع منها يخور خوار الثور، فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات «1» .

ومضى النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين إليه، واستطاع- بالرجال القلائل الذين معه- أن يصعد فوق الجبل، فانحازت إليه الطائفة التي اعتصمت بالصخرة وقت الفرار.

وفرح النبي عليه الصلاة والسلام أن وجد بقية من رجاله يمتنع بهم، وعاد لهؤلاء صوابهم إذ وجدوا الرسول حيا وهم يحسبونه مات.

ويبدو أن إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم سرت على أفواه كثيرة، فقد مرّ أنس بن النضر بقوم من المسلمين ألقوا أيديهم، وانكسرت نفوسهم، فقال: ما تنتظرون؟.

قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: وما تصنعون بالحياة بعده؟.

قوموا فموتوا على ما مات عليه

ثم استقبل المشركين، فما زال يقاتلهم حتى قتل

ولم تتوان قريش من جانبها في مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن انحاز إليه من أصحابه بغية الإجهاز عليه وعليهم، ومرّت ساعة عصيبة من أحرج الساعات في تاريخ الدنيا، وفرسان المشركين ورماتهم يحملون- بعناد وإلحاح- لتحقيق أمنيتهم، فقتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير، وهم ينافحون دونه، جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، ثم سقط بين حي وميت، وترّس عليه أبو دجانة بظهره، فكان النبل يقع فيه وهو لا يتحرك.

روى مسلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما أرهقه المشركون قال:«من يردّهم عنّي وله الجنّة؟» فتقدّم رجل

(1) هو من حديث السدي المتقدم، وقال ابن كثير: إنه غريب جدا وفيه نكارة لكن هذا القدر؛ وهو قصة قتله صلى الله عليه وسلم لأبي بن خلف له شاهد من رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير، ومن رواية الزهري عن سعيد بن المسيّب، كما في (البداية) : 4/ 32، وكلاهما مرسل.

ص: 262

من الأنصار، فقاتل حتى قتل! ثم رهقوه، فقال:«من يردّهم عنّي وله الجنّة» فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما أنصفنا أصحابنا» يعني من فرّوا وتركوه.

وتركت هذه الاستماتة أثرها، ففترت حدّة قريش في محاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وثاب إليه أصحابه من كلّ ناحية، وأخذوا يلمّون شملهم، ويزيلون شعثهم.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم صحبه أن ينزلوا قريشا من القمة التي احتلوها في الجبل قائلا: ليس لهم أن يعلونا، فحصبوهم بالحجارة حتى أجلوهم عنها «1» .

إن الإفلات من عواقب هذا الانكسار الشنيع عمل لا يقل- في خطره- عن الانتصار الأول، وقد اتجه عزم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بذل كل جهد ممكن في سبيل مقاومة قريش، حتى لا تظفر بشيء غنيمة باردة، بل حتى تثقل بها مغارمها، فلا تطمع في مزيد من إيذاء المسلمين، فكان ينثل السهام من كنانته، ويعطيها سعد بن أبي وقاص ويقول:«ارم فداك أبي وأمي» «2» .

وكان أبو طلحة الأنصاري راميا ماهرا في إصابة الهدف، قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا رمى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره قائلا: هكذا بأبي أنت وأمي، لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك «3» ، ويقول: إني جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك، ومرني بما شئت!! وقد نجح الرماة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردّ المشركين الذين حاولوا صعود الجبل، وبذلك أمكن المسلمين الشاردين أن يلحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه.

إلا أنّهم جاؤوا وكأنما خرجوا من عماية حتى إنّ بعضهم- من فرط الغيظ والذهول- قاتل أمامه لا يدري من يقاتل، فقتل اليمان والد الصحابي المعروف حذيفة، وصرخ حذيفة: أبي أبي! دون جدوى.

ولمّا تجمّعت فلول المسلمين بعد هذا الكرّ والفرّ، كان الإعياء قد نال منهم

(1) هو من حديث السدي المتقدم.

(2)

رواه البخاري: 7/ 287، من حديث سعد.

(3)

رواه البخاري: 7/ 289- 290، من حديث أنس؛ وكذلك أخرجه أحمد: 3/ 105، 265، 286، وعنده في رواية قول أبي طلحة: «إني جلد

» .

ص: 263

أيّ منال، لولا أنّ الله قذف في قلوبهم السكينة، وأعاد إليهم- بعد هذا الزلزال- الأمل والثقة، فسكنوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقبون ما يجدّ، وداعب الكرى أجفان البعض من طول التعب والسهر، فإذا أغفى وسقط من يده السيف، عاودته اليقظة، فتأهب للعراك من جديد! وهذا من نعمة الله على القوم: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [ال عمران: 154] .

ولم تكن قريش أقلّ من المسلمين معاناة لأهوال ذلك اليوم العصيب.

فقد تعبت جدّ التعب في الجولة الأولى، فلما أديل لها، وطمعت أن تجعل المعركة حاسمة قاصمة وجدت المسلمين أصلب عودا؛ دون إفنائهم صعاب لا تستطيع احتمالها، فاكتفت مما ظفرت بالإياب.

وظنّ المسلمون- لأول وهلة- أن قريشا تنسحب لتهاجم المدينة نفسها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب:«اخرج في اثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة؛ فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم، ثم لأناجزنّهم فيها» .

قال علي: فخرجت في اثارهم، فرأيتهم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل، واتجهوا إلى مكة «1» .

قال ابن إسحاق: ثم إنّ أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت، إنّ الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل!.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار» .

فقال له أبو سفيان: هلم إليّ يا عمر.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «ائته فانظر ما شأنه» ، فجاءه.

فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمّدا؟

فقال عمر: اللهم لا، وإنّه ليسمع كلامك الان، قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة- وهو الذي زعم أنّه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(1) رواه ابن هشام: 2/ 140، عن ابن إسحاق بدون إسناد.

ص: 264