الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنقاض، يهدمها نبيّ التوحيد وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
…
[الإسراء: 81]«1» .
[مشاهد بعد الفتح] :
ثم أمر بالكعبة ففتحت، فرأى الصّور تملؤها، وفيها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام! فقال- ساخطا على المشركين-:«قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قطّ» «2» ، ومحا ذلك كلّه «3» . حتى إذا طهّر المسجد من الأوثان، أقبل على قريش، وهم صفوف صفوف، يرقبون قضاءه فيهم، فأمسك بعضادتي الباب- باب الكعبة- وهم تحته، فقال:«لا إله إلا الله واحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب واحده» .
ثم قال: «يا معشر قريش! ما ترون أنّي فاعل بكم؟» .
قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم!
قال: «فإنّي أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، اذهبوا فأنتم الطلقاء» «4» .
وعند ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد يجهز على الوثنية في عاصمتها الكبرى، اقترب منه (فضالة بن عمير) يريد أن يجد له فرصة ليقتله.
فنظر إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته إلا أنّه في غمرة النصر الذي أكرمه الله به، لم يجد في نفسه على الرجل، بل استدعاه ثم سأله:«ماذا كنت تحدّث به نفسك؟» .
(1) حديث صحيح، أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن مسعود؛ ومسلم من حديث أبي هريرة.
(2)
حديث صحيح، أخرجه البخاري عن ابن عباس.
(3)
حديث صحيح، أخرجه أحمد: 3/ 335- 336- 383- 396، من حديث جابر بسند صحيح؛ والطيالسي: 1/ 359، من حديث أسامة بن زيد وسنده جيد كما قال الحافظ في (الفتح) : 3/ 268.
(4)
ضعيف، رواه ابن إسحاق معضلا كما في (ابن هشام) : 2/ 274؛ وقد ذكره الغزالي في (الإحياء) : 3/ 158، من حديث أبي هريرة دون قوله:«اذهبوا» . وقال الحافظ العراقي في تخريجه: «رواه ابن الجوزي في (الوفاء) من طريق ابن أبي الدنيا وفيه ضعف» ، ثم ذكره الغزالي من حديث سهيل بن عمرو. فقال العراقي:«لم أجده» .
قال: لا شيء! كنت أذكر الله!! فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: «استغفر الله» .
وتلطّف معه الرسول صلى الله عليه وسلم، فوضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحبّ إليّ منه «1» .
وكانت لفضالة في جاهليته هنات، فمرّ- وهو راجع إلى أهله- بامرأة لها معه شأن. فلما رأته قالت: هلمّ إلى الحديث! فانبعث يقول:
قالت: هلمّ إلى الحديث، فقلت: لا
…
يأبى عليك الله والإسلام
لو ما رأيت محمّدا وقبيله
…
بالفتح يوم تكسّر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيّنا
…
والشرك يغشى وجهه الإظلام
وصعد بلال فوق ظهر الكعبة، فأذّن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على اذانهم كأنهم في حلم، إنّ هذه الكلمات تقصف في الجوّ فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين، فلا يملكون أمام دويّها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين.
الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
هذه الصيحات المؤكدة تذكّر الناس بالغاية الأولى من محياهم، وبالمرجع الحق بعد مماتهم، فكم ضلّلت البشر غايات صغيرة، أركضتهم على ظهر الأرض ركض الوحوش في البراري، واجتذبت انتباههم كلّه، فاستغرقوا في السعي وراء الحطام! وامتلكت عواطفهم كلها، فالحزن يقتلهم للحرمان، والفرح يقتلهم بالامتلاء، ولم يسفّه المرء نفسه بالغيبوبة في هذه التوافه؟.
إنّ صوت الحق يستخرجه من وراء هذه الحجب المتراكمة ليلقي في روعه ما كان ينساه، وهو تكبير سيّد الوجود، ورب العالمين، سيده ومولاه.
أشهد ألاإله إلا الله، أشهد ألاإله إلا الله.
لقد سقط الشركاء جميعا، طالما تضرّع الناس للوهم، واعتزّوا بالهباء، وأمّلوا الخير فيمن لا يملك لنفسه نفعا، وانتظروا النجدة ممن لا يدفع عن نفسه عدوان ذبابة. ولم الخبط في هذه المتاهات؟ إن كان المغفّلون يشركون مع الله بعض خلائقه أو يؤلهونها دونه؟ فالمسلمون لا يعرفون إلا الله ربّا، ولا يرون غيره موئلا.
والتوحيد المحض، هو المنهج العتيد للغاية التي استهدفوها.
(1) ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 276، بإسناد معضل.
ولكن من الأسوة؟ من الإمام في هذه السبيل؟ من الطليعة الهادية المؤنسة؟
إنّ المؤذن يستتلي ليذكر الجواب:
أشهد أنّ محمدا رسول الله، أشهد أنّ محمدا رسول الله.
سيرة هذا الرجل النبيل هي المثل الكامل لكل إنسان يبغي الحياة الصحيحة، إنّ محمدا إنسان، يرسم بسنّته الفاضلة السلوك الفريد لمن اعتنق الحق وعاش له.
وهو يهيب بكل ذي عقل أن يقبل على الخير، وأن ينشط إلى مرضاة وليّ أمره، ووليّ نعمته، فيحثّ الناس أولا على أداء عبادة ميسورة رقيقة:
حيّ على الصّلاة، حيّ على الصّلاة.
هذه الصلوات هي لحظات التأمل في ضجيج الدنيا، هي لحظات الماب كلّما انحرف الإنسان عن الجادة، هي لحظات الخضوع لله كلّما هاج بالمرء النزق، وطغت على فكره الأثرة، فنظر إلى ما حوله وكأنّه إله صغير، هي لحظات الاستمداد والإلهام.
وما أفقر الإنسان- برغم غروره- إلى من يلهمه الرشد فلا يستحمق، ويمده بالقوة فلا يعجز ويستكين.
ثم يحث الناس- أخيرا- على تجنب الخيبة في شؤونهم كلها.
والخيبة إنما تكون في الجهد الضائع سدى، في العمل الباطل لأنه خطأ، سواء كان الخطأ في الأداء أو في المقصد.. وهو يحذّر من هذه الخيبة عند ما يدعو: حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح.
ويوم يخرج العمل من الإنسان وهو صحيح في صورته ونيته، فقد أفلح، ولو كان من أعمال الدنيا البحتة، ألم يعلّم الله نبيّه أن يجعل شؤون حياته، بعد نسكه وصلاته خالصة لله؟:
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)[الأنعام] .
ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصغار ما عدا الله من غايات، والتزام توحيده أبدا، ومن ثمّ يعود إلى تقرير الغاية والمنهج مرة أخرى.
الله أكبر الله أكبر
…
لا إله إلا الله
…