الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«ويحكما! من أمركما بهذا؟» قالا: أمرنا ربّنا!! يعنيان كسرى..
إن تأليه الملوك ضلال قديم، وبعد أن انتشر الإسلام ذهبت حقيقة التأليه، ثم عادت الان اثاره وخصائصه، فالملك يلقّب صاحب جلالة، ولا يسأل عمّا يفعل، ويبطل شرائع الله ليقيم شرائع الهوى، ويمتد هو وبطانته لتنكمش أمامهما أمته.
ولما سمع النبيّ عليه الصلاة والسلام كلام الرجلين أمرهما أن يعودوا من حيث أتيا إلى والي اليمن، وقال:«أخبروه أنّ ربّي قد قتل ربّه الليلة» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم قبلهما بمصرع كسرى.
وقد وقع الإسلام في قلب والي اليمن ورجاله بعد هذه القصة، وانتشر انتشارا عظيما في الجنوب بين الطائفتين جميعا من نصارى ومجوس.
[ردّ أمير البحرين] :
وأرسل النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى أمير البحرين كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، ونبذ المجوسية، حمله إليه العلاء بن الحضرميّ «1» وكان (المنذر بن ساوى) أمير البحرين رشيدا موفقا، فرحّب بالدعوة، وانشرح صدره لقبولها.
وقد أبلغ العلاء في ترغيبه وإبراز محاسن الإسلام له:
فمما قاله: «.. يا منذر! إنّك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرنّ عن الاخرة، إنّ هذه المجوسية شرّ دين.. ليس فيها تكرّم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحيى من نكاحه، ويأكلون ما يتنزّه عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة
…
ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر: هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألّا نصدقه؟ ولمن لا يخون ألّا نأمنه؟ ولمن لا يخلف ألّا نثق به؟.
- وابن سعد في (الطبقات) : 1/ 2/ 147، عن عبيد الله بن عبد الله مرسلا أيضا، وسنده صحيح؛ ووصله ابن بشران في الأمالي من حديث أبي هريرة بسند واه، وفيه من الطرق الثلاث زيادة كان يحسن إيرادها، وهي:«لكنّي أمرني ربّي عز وجل أن أعفي لحيتي، وأن أحفي شاربي» .
(1)
رواه الواقدي في اخر كتاب (الردة) بسنده، عن أبي حنتمة كما في (نصب الراية) للزيلعي: 4/ 419- 420.
هذا هو النبي الأمي الذي- والله- لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به! أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه؛ إذ كلّ ذلك منه على أمنية أهل العقل، وفكر أهل النظر
…
» .
وقد أسلم (المنذر) ، وعرض على قومه الإسلام، فمنهم من أعجبه فدخل فيه، ومنهم من كرهه وبقي على مجوسيته أو على يهوديته، فلما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بإزائهم كتب له:«.. من أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية» «1» .
إنّ توسيع ميدان الدعوة بحيث تشمل المعروف المعمور من أرض الله يومئذ أمر يثير التأمّل، لقد كان العرب يستكثرون النبوّة على واحد منهم، ويوسعونه جحودا وكنودا!:
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)[الفرقان] .
فما يكون شأن الروم والعجم، وهم يرون العرب دونهم منزلة وحضارة، وثقافة وسياسة! ألا يكونون أسرع إلى السخرية وأدنى إلى الكفران؟!.
بيد أن أصحاب الرسالات لا ينظرون إلى الأمور على ضوء الحاضر الضيق المنكور، فإنّ ثقتهم العميقة في سيادة فكرتهم، وامتداد نطاقها تصغّر العقبات المفروضة في الطريق، وتجعلها- ولو كانت الشم الرواسي- هباء منثورا.
ولو انحصر (كارل ماركس) في حدود مذهبه- وهو فكرة مطاردة تصل بذويها إلى السجون- لأصابه الشلل، وقضى عليه وعلى أفكاره، لكنّه مضى في سبيله، وهو على أمل بالغ أن تقوم بتوجيهها دول كبرى، فإن كان هذا شأن الماديين من أصحاب الأفكار الضالّة؛ فلا جرم أنّ المرسلين المؤيّدين بالوحي يكاتبون الملوك والأمراء، وهم موقنون بأنّ ما لديهم من حق سيعلو ما عداه، وذلك ما كان يجول في نفس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يعالج هداية الأعراب الشاردين في الصحراء، طورا باللين، وطورا بالشدة، ثم هو- في الوقت نفسه- ينصح لقادة الشعوب الاخرى أن يفكّروا في هذا الدين الجديد، وأن يعتنقوه وافرين.
(1) ضعيف، أخرجه الواقدي بإسناده عن عكرمة، قال: وجدت في كتب ابن عباس.. فذكره.
إن الخرافة التي أفسدت عقل بدويّ تترّب إهابه وثيابه رياح (نجد) هي بعينها الخرافة التي تفسد فكر كسرى عاهل الفرس العظيم.
ما الفارق بين الحمّى تصيب ملكا أو تصيب صعلوكا؟ إنّ الطبيب يصف لها على الحالين- دواء واحدا، ويتخذ ضد عدواها حصانات واحدة!.
وقد أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفي الكبار والصغار من أمراض نفوسهم، وأن يناولهم جميعا الدواء الذي يصحّون به:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82)[الإسراء] .
فلا غرو إذا جمع في مصحّه بين الأحمر والأسود، والسادة والعبيد.
أجل، قد يكون أولئك الملوك محجّبين وراء أسوار مشيدة، وحولهم من الأتباع والجند والأبهة والرياش ما يبهر العين، لكن أي عين تنبهر لهذه المظاهر؟
إنّ الطبيب المعالج لا يعنيه من مريضه إلا جسده الشاحب العليل، والأنبياء لا يرون في القوم إلا أنهم جهّال يجب أن يتعلّموا، سفهاء يجب أن يسترشدوا، وأنّ ما حولهم من الدنيا يجعل تبعتهم أخطر، وجزاءهم على الهدى والضلال أضخم.
على أنّ هذه القوى المسخّرة في حماية الباطل لن يطول أمدها إلا كما يطول الليل على المؤرق، ثم تطلع الشمس، ويمحو الله بالاية المبصرة سدول الظلام.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لرسل والي اليمن حين جاؤوه: «أخبراه أنّ ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخفّ والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك» «1» .
إنّه- وهو في المدينة- يولّي ويعزل، عن حق لا عن غرور، أليس موصولا بمالك الملك، مبعوثا من رب السموات والأرض؟!.
ومن الطبيعي أن يعرف مشركو العرب أنباء هذه البعوث النبوية، وأن يرقبوا نتائجها عن كثب، وقد استبشروا أول الأمر حين بلغهم صنيع كسرى بن هرمز، وقال بعضهم لبعض: كفيتم الرجل، فقد نصب له كسرى ملك الملوك! وشاعت هذه القالة في مكة والطائف.
(1) ضعيف، أخرجه ابن جرير في تاريخه: 2/ 297، عن يزيد بن أبي حبيب مرسلا.
ثم مرت الأيام، وطاح كسرى، وبقي الإسلام يغزو الأفئدة والبلاد..
وجاءت الأنباء أنّ بعوث محمد صلى الله عليه وسلم في بعض الأرجاء أمكنها نشر الإسلام، وتثبيت هدايته، حتى دخلت فيه اليمن وعمان والبحرين، فارتد استبشار المشركين خذلانا، وفكرت قبائل شتى في الانقياد لحكمه، خصوصا ورقعة الكفر تنكمش يوما بعد يوم أمام موجات الوحي الجارف، وإن بقيت أخرى مصرّة على جاهليتها:
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ
(45)
[الأنبياء] .