الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصطفون الأخيار
إنّ المؤمنين الذين صحبوا الأنبياء، واقتربوا من حياتهم، أتيح لهم ما لم يتح لغيرهم من منابع الصفاء، ووسائل الارتقاء.
إنّ مشاعرك ترقّ عند ما تسمع النغم العذب، وعواطفك تسمو عند ما تقرأ البطولة الرائعة، بل إنّ الذين يحضرون تمثيل بعض الروايات المثيرة يصبغهم جو القصة المفتعلة، فيضحكون ويبكون، ويهدؤون ويضجون.. فما ظنّك بقوم يتبعون رجلا تكلّمه السماء، ويتفجر من جوانبه الكمال، ويسكب على من حوله ايات الطهر؟ فإذا ثقلت نفوسهم عن خير، دفع بها إلى الأمام، وإذا علقت بمسالكهم شهوة، نقّاها فرد عليها سناءها، إنّ للعظماء إشعاعا يغمر البيئة التي يظهرون فيها، وكما يقترب المصباح الخامد من المصباح المشتعل فيضيء منه، تقترب النفوس المعتادة من الفرد الممتاز، فتنطوي في مجاله وتمشي في اثاره!!.
وقد التفّ بمحمد صلى الله عليه وسلم فريق من الربانيين الأتقياء، كانوا له تلاميذ مخلصين، فزكت- بصحبته- نفوسهم، وشفّت طباعهم، حتى أشرق عليها من أنوار الإلهام ما جعلها تنطق بالحكمة وفصل الخطاب.
ولا تحسبنّ العقل الجبار- مهما أوتي من نفاذ- يستطيع إدراك الكمال بقوته الخاصة، فإذا لم تسدده عناية عليا، فإنه سيجوب كلّ أفق دون أن يبصر غاية، أو يهتدي طريقا، كالطيار الذي يضل في الجو عند ما يتكاثر أمام عينيه الضباب. إنه يحكم القيادة، ويضبط الالات، ويرسل أنوار مصابيحه في أحشاء الغيوم المتراكمة، فإذا لم يتلق إرشادا يحدد له مكانه وبعده وكيف يهبط.. فإنه سيظلّ يحلّق عبثا، ثم تهوي به الريح في مكان سحيق.
وكم من فلاسفة عالجوا شؤون الكون والحياة، فمنهم من ضلّ عن الحق على طول بحثه عنه، فلم يصل إليه قط، ومنهم من استغرق في الوصول إليه أعواما طوالا، ولو مشى وراء الرسل لانتهى إليه في أيام قصار، وهو في مأمن من الشرود والعثار!.
ثم إنّ الإنسان ليس عقلا فحسب، إنه- قبل ذلك- قلب ينبغي أن يسلم من الأهواء والاثام، وأن ينجو من الشقاوة والظلام، وأن يكون في حنايا صاحبه قوة تسوق إلى الخير والحب، وحاديا يهفو إلى الجمال والرحمة.
والمرسلون الكرام يتعهّدون ضمائر البشر بالتعليم والتربية.
وأشبه الناس بهم من اقتفى اثارهم، وأخذ في طريقهم، وأول أولئك قاطبة من صحبوهم في حياتهم، وقاسموهم أعباء دعوتهم ومغارم جهادهم.
ولا شك أنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يرجحون أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
فإنّ تاريخهم في الإيمان والجهاد وإبلاغ الدعوة إلى الأخلاف كاملة مضبوطة غير منقوصة ولا محرّفة، لا يشبه أيّ تاريخ اخر..
ونحن نسوق هذه المقدمة بين يدي الكلام عن الأذان، وكيف شرع؟ فإنّ ميلاد هذه الشعيرة العظيمة، يحمل معه ايات بيّنة عن عظمة النفوس إذا صفت فنضحت بالحق، وسكن إليها الإلهام.
قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة؛ فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة أخو بني الحارث النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مرّ بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: ألا أدلّك على خير من ذلك؟ قلت: ما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. أشهد ألاإله إلا الله، أشهد ألاإله إلا الله.
أشهد أنّ محمدا رسول الله، أشهد أنّ محمدا رسول الله. حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة. حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح. الله أكبر الله أكبر.
لا إله إلا الله. فلمّا أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنّها لرؤيا حق إن شاء الله! فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذّن بها، فإنه أندى صوتا منك» . فلمّا أذّن بها بلال سمعه عمر وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يجرّ رداءه يقول: يا نبي الله! والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فلله الحمد» «1» .
وفي رواية: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن به «2» . قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: «الصلاة خير من النوم» مرتين. فأقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» .
وفي رواية أخرى رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس، بل أذّنوا للصلاة، فذهب عمر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليخبره بما رأى، وقد جاء النبيّ عليه الصلاة والسلام الوحي بذلك.
(1) حديث أخرجه ابن إسحاق في (المغازي: 2/ 19- 20) حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه، وهذا سند حسن وقد أخرجه أبو داود، والدارمي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد، كلهم من طريق ابن إسحاق به، وأخرجه الترمذي مختصرا. وقال:«حديث حسن صحيح» . وصححه جماعة من الأئمة ذكرتهم في كتابي (صحيح سنن أبي داود) ، رقم (512) ، وله شاهد مختصر من رواية أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار أخرجه أبو داود، رقم (511) من صحيح أبي داود، ولم يطبع؛ وأخرجه البيهقي: 1/ 399- 400.
(2)
لا حاجة لهذه الرواية، فإن معناها في التي قبلها.
(3)
أخرجه ابن ماجه: 1/ 541، عن الزهري بسند ضعيف؛ ورواه بنحوه أحمد: 4/ 43، من قول سعيد بن المسيّب، وفي سنده انقطاع، لكن معنى الحديث صحيح فإنّ له شواهد كثيرة، أوردت بعضها في (الثمر المستطاب، في فقه السنة والكتاب) منها عن أنس، قال: كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذن: حيّ على الفلاح قال: «الصلاة خير من النوم» مرتين. أخرجه الدارقطني والطحاوي والبيهقي: 1/ 423، وقال:«إسناده صحيح» . (تنبيه) : لا يخفى على الفقيه أنّ بلالا كان يؤذّن الأول للفجر، فإذا ضممنا هذا إلى ما تقدّم ينتج منه أن السنّة أن يقال:«الصلاة خير من النوم» في الأذان الأوّل لا الثاني، وهذا ما جاء به النص، فقال ابن عمر: كان في الأذان الأول بعد حيّ على الفلاح، «الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم» . أخرجه الطحاوي: 1/ 82، وغيره بسند حسن كما قال الحافظ في (التلخيص) : 3/ 169. وفي الباب عن أبي محذورة.
فما راع عمر إلا بلال يؤذّن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك:«قد سبقك بذلك الوحي» «1» .
وهذا يدلّ على أنّ الوحي قد جاء بتقرير ما راه عبد الله بن زيد.
هذه الكلمات الطيبة التي ترتفع بين الحين والحين تقرع الاذان، وتوقظ القلوب، وتصيح بالناس: هلمّوا إلى الله.. وعاها في رؤيا صالحة ذهن نيّر، فأسرع بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويها كما ألقيت في روعه؛ لتكون نداء المسلمين إلى الصلاة ما أقيمت على ظهر الأرض صلاة.
وتجاوب النفوس مع الوحي هو غاية التألّق وقمة الحق، وهو أمارة على أنّ الهدى أصبح غريزة فيها، فهي تستقيم عليه في اليقظة والنوم، وتتّجه إليه على البديهة وبعد التروي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربط أصحابه بالوحي النازل عليه من السماء ربطا موثقا، يقرؤه عليهم ويقرؤونه عليه؛ لتكون هذه المدارسة إشعارا بما على الصحاب من حقوق الدعوة وتبعات الرسالة فضلا عن ضرورة الفهم والتدبر!!.
عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اقرأ عليّ القران» !! فقلت:
يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري» ! قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الاية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)[النساء]، قال:«حسبك الان» فالتفتّ إليه، فإذا عيناه تذرفان «2» ..
زاد في رواية: شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ
…
[المائدة: 117] .
وإذا كان الاهتداء إلى ألفاظ الأذان قد ترشّحت له سريرة مصفّاة، مشغوفة بالعبادة، مشغولة بالحق، فإنّ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كذلك من اندمجوا في معاني الإيمان، وخلصوا لمعين الرسالة؛ حتى إنّ الله أمر رسوله أن يقرأ عليهم بعض سور القران، تنويها بمكانهم عند الله، ورسوخهم في آياته.
(1) ذكر ابن هشام: 2/ 20، فقال: وذكر ابن جريج: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير الليثي
…
فذكره. وهذا- مع انقطاعه- مرسل.
(2)
أخرجه البخاري: 8/ 202، 9/ 77- 80؛ ومسلم: 2/ 196، والزيادة له، ونصّها: عن ابن مسعود، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «شهيدا عليهم ما دمت فيهم- أو ما كنت فيهم-» . (شك من الراوي) .
عن أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب: «إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ
…
[البينة: 1- 8]، قال أبيّ: وسمّاني؟ قال: «نعم» ، وفي رواية: الله سماني لك؟ قال: «نعم» . قال:
وقد ذكرت عند ربّ العالمين؟ قال: «نعم» ، قال: فذرفت عيناه.. «1» .
(1) أخرجه البخاري: 7/ 100، 9/ 589- 590، والرواية الاخرى له؛ ومسلم: 2/ 195؛ وأحمد: 3/ 130، 137، 185، 218، 233، 273، 284، وعنده الرواية الاخرى؛ ورواه الترمذي: 4/ 368؛ والحاكم: 3/ 304، وصحّحاه؛ وأحمد: 5/ 122- 123، 131، 132، من حديث (أبيّ) نفسه، وأحمد أيضا: 3/ 489، من حديث أبي حبة البدري.