الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طليعة الوفود
استغرق المسير إلى تبوك والماب منها أياما طوالا، فقد خرج المسلمون إليها في رجب، وعادوا في رمضان، ليؤدّوا ما عليهم من فريضة الصيام، ولم يلبثوا طويلا حتى جاءت البشريات بأنّ وفد ثقيف قدم إلى المدينة ليفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدخول في الإسلام؛ لقد استجاب الله دعوة نبيّه لأهل الطائف أن يسلس قيادهم للحق فيأتوا طائعين، وكان أهل الطائف- بعد أن انفضّ الحصار المضروب عليهم- قد أخذو يتروّون في شأنهم ومصيرهم، إلا أنّ جمهورهم لما يزل على ولائه للأصنام وصدوده عن الإسلام.
وحاول رئيسهم (عروة بن مسعود) أن يتحدّث إليهم في نبذ هذه الجاهلية، وعروة فيهم سيد مطاع محبوب، غير أنّ نخوة الامتناع استبدّت بهم، فلما أظهر الرجل دخوله في الإسلام ودعاهم إلى ذلك، رموه بالنبل فقتلوه..
ولم ييئس العقلاء من رشد قومهم، ولم تستطع ثقيف كذلك تجاهل ما حولها، فإنّ دولة الأصنام تدبر في كل مكان، وأمر الإسلام يعلو يوما بعد يوم.
فاجتمع عمرو بن أمية ب (عبد ياليل بن عمرو) وقال له: إنّه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة «1» ، إنه قد كان أمر هذا الرجل ما رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا في أمركم.
ورأت ثقيف أن تبعث وفدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصل إلى وضع تقرّ به، وتألف الوفد من ممثلين لعشائر ثقيف كلّها، حتى يلتزموا ما يصل إليه من شروط.
وجادل الوفد رسول الله صلى الله عليه وسلم جدالا طويلا يبغي أن يظفر منه بإقرار لبعض ماثر الجاهلية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى أشدّ الإباء، وطلبوا منه أن يدع (اللات) ثلاث سنين ثم يهدمها، ثم ساوموه على سنتين، ثم سنة، ثم شهر واحد بعد مقدمهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يأبى إلا هدمها دون توقيت أمد معين.
(1) كانا من قبل متهاجرين.
فلما يئسوا سألوه ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، أجابهم إلى ذلك بإرسال من يكسرها لهم.
وسألوه أن يضع عنهم الصلاة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين بلا صلاة» «1» .
وعاد الوفد إلى الطائف، ومعه المغيرة بن شعبة وأبو سفيان بن حرب، ليهدما اللات، وكان هدم اللات يوما مشهودا، فإنّ نسوة ثقيف خرجن حاسرات الرؤوس، يبكين ويصرخن، وهن يرين الفؤوس تهدم إلههن، وطالما خشعن له، وذبحن حوله، وسقن له النذور.
ويروى أنّ المغيرة كلّما هوى بالفأس على بنيان الصنم قال أبو سفيان:
واها لك! اها لك! تأسفا، ولعلّه كان يسخر، أو يواسي نساء ثقيف
…
ولا مراء في أنّ استسلام ثقيف، ثم دخولها الإسلام يعدّ كسبا كبيرا، وفتحا جديدا، فلم يبق قبيل عزيز الجانب في الجزيرة إلا وقد دان لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما القبائل التي لما تزل على جاهليتها، فهي أوزاع، توشك أن تستبين الحق وتستريح له، إنّ الليل المضروب عليها لن يطول سواده، بل إنّ تباشير الفجر قد خالطته هنا وهناك حتى لم يبق لظلمته مكان تتشبث به.
قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كلّ وجه.
وإنّما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل وقادة العرب، لا ينكرون ذلك- وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه.
فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنّها لا
(1) ضعيف، ذكره ابن هشام: 2/ 325- 326، عن ابن إسحاق معضلا، والجملة الأخيرة وصلها أبو داود: 2/ 42؛ وأحمد: 5/ 218، عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص مرفوعا نحوها. ورجاله ثقات لكن الحسن- وهو البصري- مدلس، وقد عنعنه.
طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله أفواجا يضربون إليه من كلّ وجه.
يقول سبحانه وتعالى لنبيّه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)[النصر] .
بعد كمّ من السنين بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه المرحلة؟ بعد اثنتين وعشرين سنة من الدعاية الحثيثة، والتذكير الدائم، وتحمّل الأذى، وكفاح العدوان..
فإن كانت هناك بقايا من الغافلين لا تزال تضرع للأصنام، وتحيا على الفوضى، فإنّ فطامها عن هذه الرذائل لا ينكره ذو لب أو مروءة، ومن ثمّ اتجه الإسلام إلى ضرورة تطهير الجزيرة كلّها من عبادة الأوثان، وإشعار المشركين بأنّ أمامهم مهلة محدودة للتخلص من أدرانها.. ثم تعريفهم كذلك بأن الأصنام التي كانوا يقدّسونها حول الكعبة قد أزيلت، فأصبحت الكعبة قبلة مسجد يؤمه المواحدون، وليست مطاف جهّال يتبركون بالحجارة، وأن تقاليد العري التي شاعت في الجاهلية، وجعلت المطاف يزدحم بالسّوات المكشوفة قد نبذها الإسلام، فلن يسمح في عهده بالتبذل القديم.
وأقبل موسم الحج في السنة التاسعة والمشركون على ما ألفوا، إنهم يؤمون البيت العتيق، ولا يتعظون من مصير الأصنام التي تكسرت! أين الالهة التي قضوا أعمارهم ينحنون لها، ويتوسّلون بها؟ لقد هشمت وديست! ومع ذلك فإن عبّادها لبثوا مشركين.. وقد تكون في نفوسهم حسرات لخلو الكعبة منها.
إنّ من حقّ المسلمين أن يضعوا حدّا لهذه المهازل، وأن يزيحوا عن كرامة البشر هذا الهوان.