الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أذلك بقية من حرصهم على الحياة، وتوقّيهم الموت؟.
فلما راهم النبيّ عليه الصلاة والسلام يهرعون إلى حصونهم أراد أن يقذف في قلوبهم الرعب فصاح: «الله أكبر! هلكت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين» «1» .
والقرى الفاجرة تجرّ على نفسها الهلاك إن عاجلا وإن اجلا، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا شاع الزّنى والرّبا في قرية فقد أحلّت بنفسها غضب الله» «2» .
واليهود يشيع فيهم هذا الفساد المزدوج، فهم إلى اليوم دهاقين الرّبا في العالم، وهم قادة التبرّج والعهر، ونسوتهم لا يرددن يد لامس، ولا ينفي هذا أنّ فيهم فئة تعرف الخلق والعفّة، ولكنّهم قليل:
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)[الأعراف] .
والكثرة- لا القلّة- هي التي تحدد مصائر الشعوب.
[حصون اليهود تتداعى] :
وشنّ المسلمون هجومهم على الحصون المشيّدة، فبدأت تتداعى تحت وطأتهم حصنا بعد حصن، ودافع اليهود عنها دفاع المستميت، فإنّ خيبر أخصب أرضهم وأمنع بقاعهم.
ولما بدأ الحصار يمتدّ؛ وبنو إسرائيل إذا سقطت لهم قلعة تمسكوا بأخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله!» فبات الناس يذكرون أيّهم يعطاها.
فلمّا أصبحوا غدوا إليه متطلّعين إلى أخذها، فنادى النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب فأعطاها إياه، فقال علي: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال:
«انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 376- 377، عن أنس.
(2)
حديث صحيح أخرجه الحاكم: 2/ 37، من حديث ابن عباس، وقال:«صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، ورواه أبو يعلى عن ابن مسعود، وإسناده جيّد، كما في الترغيب: 3/ 51.
حمر النعم» «1» .
وإنما ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النصح الرشيد، حتى يقطع تطلّع النفوس إلى المغانم المعجلة، فإنّ ثروة يهود- إذا هزموا- ضخمة، ولكنّ ثواب مقاتليهم- إذا اهتدوا- أضخم.
ولو نزل القوم على أحكام الله، وتركوا الخلال الدنيئة التي عاشوا بها، وعاملوا الناس بسوئها لأراحوا واستراحوا، غير أنّهم أبوا إلا الحرب، فهاجمهم عليّ، وشدّد النكير، حتى سقط الحصن، واحتله المسلمون.
وكان الشعار يوم خيبر: يا منصور! أمت أمت.
وخرج من حصون اليهود فارس يدعى (مرحبا) فنادى في المسلمين: من يبارز؟ وهو ينشد:
قد علمت خيبر أنّي مرحب
…
شاكي السّلاح بطل مجرّب
أطعن أحيانا، وحينا أضرب
…
إذا اللّيوث أقبلت تحرّب
فقيل: فتك به عليّ بن أبي طالب، وقيل: بل قتله محمّد بن مسلمة «2» ، وكان محمود بن مسلمة أخوه قد ألقيت عليه في أثناء الحصار رحى فصرعته، فثأر محمد له بقتل مرحب، وبرز بعد قتل مرحب أخوه ياسر، فتصدّى له الزبير، وكانت صفية أمّ الزبير بين النسوة اللائي خرجن مع الجيش معاونات في قتال بني إسرائيل، فخشيت على ابنها أن يقتل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«بل ابنك يقتله إن شاء الله» ، فصرع الزبير ياسرا «3» .
وتشبّث اليهود بما بقي من حصونهم، يذودون عنها ذياد الييئس، وشدّد المسلمون عليهم الحصار، يريدون الانتهاء من هذا القتال مسرعين، فقد أجهداهم الجوع وضاق بهم المقام، وأصيب كثير منهم بعلل شتى لرداءة الجوّ ووخامة
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 384- 385؛ ومسلم: 7/ 121- 122، عن سهل بن سعد.
(2)
قلت: والصحيح الأول؛ لأنه ثابت في صحيح مسلم: 5/ 95؛ والمستدرك للحاكم: 4/ 39، من حديث سلمة بن الأكوع، وقد قال الحاكم (3/ 437) :«إنّ الأخبار كثيرة متواترة أن قاتل مرحب هو علي» .
(3)
ضعيف، أخرجه ابن هشام: 2/ 239، من طريق ابن إسحاق، عن هشام بن عروة معضلا.
المستنقعات، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أخبره أنّ اليهود لن يبالوا هذا الحصار، فإنّ لهم مشارب خفية يخرجون إليها ليلا، فيستقون ويعودون، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع مشاربهم «1» ؛ ليكرههم على القتال أو التسليم، فخرجوا واشتبكوا مع المسلمين في صراع شديد، استشهد فيه عدد من المسلمين بعد أن مهدوا الطريق لسقوط الحصن، ويسمى حصن (الزبير) وهو نهاية سلسلة من القلاع تسمى (النطاة) ، استولى المسلمون عليها جميعا بعد ما دخلوا حصون (ناعم) ، و (الصعب) ، و (الوطيح) ، و (السلالم) .
وبقيت هناك سلسلة أخرى تهيأ المسلمون لمهاجمتها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعة يقال لها:(سموان) ، فقاتل عليها أشدّ القتال، وخرج منها رجل يسمى (عزولا) ، يبغي المبارزة، فهجم عليه (الحباب بن المنذر) فضربه بالسيف ضربة أطاحت يده اليمنى بنصف ذراعه، ثم وقع السيف من يده، وفرّ اليهودي راجعا، فأدركه الحباب فقطع عرقوبه.
وبرز اخر، فقام إليه رجل من المسلمين، فقتله اليهودي، فلحق به (أبو دجانة) فقتله وثأر لصاحبه، ثم كبّر المسلمون وتحاملوا على الحصن، وأمامهم (أبو دجانة) ، فاقتحموه بعد لأي، ووجدوا به أثاثا وطعاما وغنما ومتاعا.
وأفلت بعض المحصورين، فانضموا إلى إخوانهم بحصن (البزاة) وزحف المسلمون إليهم، وتراشق الفريقان بالنبل، فأصيب بنان النبيّ صلى الله عليه وسلم في المعركة، ولكن المسلمين استبسلوا في الكرّ على العدوّ، حتى افتتحوا هذا الحصن الاخر، وأخذوا من فيه باليد. ثم همّ المسلمون بنصب المنجنيقات، ليهدموا الحصون الباقية على من اعتصم فيها، فأيقن اليهود بالهلكة، ولم يروا محيصا من الاستسلام، فنزل ابن أبي الحقيق، وعرض الصلح على أن يجلوا من أرض خيبر، ولهم ما حملت ركابهم، وللمسلمين سائر ما بقي، فقبل الصلح، واشترط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عهد «2» ، فلما ثبت على بعضهم الغدر بما تمت عليه شروط الصلح قتل.
وخضعت سائر يهود، ثم جاءت تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم
(1) لا يصحّ، رواه الواقدي معضلا كما في (البداية) : 4/ 198؛ والواقدي متروك.
(2)
حديث صحيح، أخرجه البيهقي في سننه: 9/ 137، عن ابن عمر بسند صحيح، وكذلك رواه أبو داود: 2/ 38.