الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضيقة، وبضحايا يسيرة، وظل يحاصرهم خمس عشرة ليلة. ثم بدا له أن يدعهم وشأنهم، وأشار على المسلمين بذلك، فرغبوا أولا في إطالة حصارها حتى تفتح عليهم، ثم نزلوا أخيرا على رأيه.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار نوفل بن معاوية فقال: «يا نوفل! ما ترى في المقام عليهم؟» فقال: يا رسول الله! ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرّك «1» ! فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب: أن يؤذّن في الناس بالرحيل «2» .
فلما قفلت بهم المطايا، قالوا: يا رسول الله! أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم فقال:«اللهم اهد ثقيفا» «3» !.
ولم يطل بقاء ثقيف على شركها، فما هي إلا شهور قلائل حتى أرسلوا وفدهم إلى المدينة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم برغبتهم في الإسلام، وانفساح قلوبهم له.
إلى دار الهجرة:
عاد المسلمون من الطائف إلى مكة، لا ليعاودوا المقام فيها بعد أن فتحها الله عليهم، بل لينظّموا أمورها ثم يرتحلوا إلى مهجرهم الخالد
…
إن صلتهم بالمدينة أضحت من العمق والقوة بحيث لا يرجحها وطن قديم ولا ذكريات عزيزة.
روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ودخلها قام على الصفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار فتهامسوا فيما بينهم: أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلمّا فرغ من دعائه قال: «ماذا قلتم؟» قالوا: لا شيء يا رسول الله! فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال:«معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم!» «4» .
(1) ضعيف جدا، رواه الواقدي كما في (البداية) : 4/ 350، وهو متهم بالكذب.
(2)
ضعيف ذكره ابن هشام: 2/ 303، عن ابن إسحاق بلاغا، ورواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، وهو مع إرساله ضعيف.
(3)
ضعيف، أخرجه الترمذي: 3/ 379، عن أبي الزبير عن جابر، وقال:«حديث حسن صحيح» ؛ قلت: أبو الزبير مدلس، وقد عنعنه؛ وقد تابعه عبد الرحمن بن سابط عند أحمد: 3/ 343، ولكنه لم يسمع من جابر: كما قال ابن معين.
(4)
حديث صحيح، رواه بهذا السياق ابن هشام بلاغا؛ ووصله مسلم: 5/ 170- 171، وغيره من حديث أبي هريرة نحوه. فتصديره بلفظ:(روي) غير جائز.
ولما كان أهل مكة حدثاء عهد بالإسلام، وفقههم في أحكامه ومراميه قليل، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم خلّف فيهم (معاذ بن جبل) يعلّمهم كتاب ربهم وسنة نبيهم «1» .
وجعل (عتّاب بن أسيد) أميرا على مكة «2» وعمره يومئذ عشرون سنة.
وكان (عتاب) شابا ذكيا، قنوعا شجاعا، وقد تقرّر له من مال المسلمين درهم كلّ يوم، وهو مرتب الإمارة، فقرّت بذلك عينه، بل إنّه خطب الناس فقال:
أيها الناس! أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله درهما كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد.
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في الشهر الأخير من السنة الثامنة.
لله ما أفسح المدى بين هذه الأوبة الظافرة بعد أن توّج الله هامته بالفتح المبين، وبين مقدمه إلى هذا البلد النبيل منذ ثمانية أعوام!.
لقد جاءه مطاردا يبغي الأمان، غريبا مستوحشا ينشد الإيلاف والإيناس، فأكرم أهله مثواه، واووه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، واستخفّوا بعداوة الناس جميعا من أجله، وها هو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة التي استقبلته مهاجرا خائفا، لتستقبله مرة أخرى وقد دانت له مكة، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها، فأنهضها ليعزها بالإسلام، وعفا عن خطيئاتها الأولى:
…
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] .
(1) ضعيف، ذكره ابن هشام: 2/ 311، عن ابن إسحاق بدون إسناد؛ ورواه الحاكم: 3/ 270 عن عروة مرسلا؛ وإسناده- على إرساله- ضعيف. وقد روى ابن عبد البر في ترجمة معاذ من الاستيعاب بإسناد صحيح عن عبد الله بن كعب بن مالك: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذا إلى اليمن عام فتح مكة، وهذا مرسل أيضا، فإذا صح فيكون إرساله بعد استخلافه في مكة، والله أعلم.
(2)
إلى هنا حديث حسن ذكره ابن هشام وابن جرير: 2/ 361- 362، عن ابن إسحاق بدون سند؛ ورواه الحاكم: 3/ 594- 595، عن مصعب بن عبد الله الزبيري معضلا أيضا، وعمر بن شبّة في كتاب مكة عن عمر مولى غفرة معضلا أيضا، والمحاملي في الجزء الخامس من (الأمالي) عن أنس بن مالك بسند ضعيف، ولكنه يتقوى بما قبله إن شاء الله، وأما باقي الحديث، فلم أجد له سندا وإن كان مشهورا.