الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو طالب
إن أبا طالب- برغم بقائه على الشرك، واستمساكه بدين الاباء- ظلّ حيّ العاطفة، ظاهر الحدب على ابن أخيه؛ وهو مدرك كل الإدراك ما سوف تجره هذه الدعوة من متاعب عليه وعلى أسرته، بيد أن إعزازه لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأذّيه من مواجهته بما يكره، حملاه على ضمان الحرية له، بل على التعهّد بحمايته وهو يبلّغ عن ربه!!.
وأبو طالب من رجالات مكة المعدودين، كان معظّما في أهله، معظّما بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته، واستباحة بيضته، وكان بقاؤه مع أهل مكة- محترما للأوثان- من أسباب امتداد نفوذه ورعاية حقوقه
…
أمّا أبو لهب فصورة لأرباب الأسر المتهالكين على مصالحهم وسمعتهم من غير نظر إلى حق أو باطل، فأيّ عمل يعرّض مصالحه للبوار، أو يخدش ما لاسمه من منزلة يهيج ثائرته، ويدفعه لاقتراف الحماقات
…
وفي طبيعة أبي لهب قسوة تغريه باقتراف الدنايا، كان أبناؤه متزوّجين ببنات محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بفراقهنّ، فطلق عتبة وعتيبة رقية وأم كلثوم..
ولعلّ أبا لهب كان متأثّرا في هذه البغضاء المتنزّية بزوجته أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وهي امرأة سليطة، تؤزها على كراهية محمد صلى الله عليه وسلم ودينه علل شتى، ولذلك بسطت فيه لسانها، وأطالت عليه الافتراء والدسّ.
وإذا كانت أهواء الجاهلية تدفع عمّ محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإغلاظ معه على هذا النحو الوضيع؛ فكيف يكون مسلك الأباعد الذين يتمنّون العثار للسليم والتهمة للبريء؟!.
ولكن ما أبو لهب؟ وما قريش؟ وما العرب؟ وما الدنيا كلها؟ بإزاء رجل يحمل رسالة من الله الذي له ملك السموات والأرض، يريد أن يعيد بها الرّشد
لعالم فقد رشده، وأن يمحو بها الأوهام من حياة مرّغتها الأوهام في الرغام، ما تجدي وقفة جهول أو غضبة مغرور في منع هذه الرسالة الكبيرة من المضي إلى هدفها البعيد؟!.
إن الطحالب العائمة لا توقف السفن الماخرة، ولئن نقم الجاهليون على المسلمين مروقهم من بين قومهم بهذه الدعوة- حتى ليسمّونهم الصّباة- فإنّ المسلمين لأشدّ نقمة عليهم؛ أن سفّهوا أنفسهم، وحقّروا عقولهم، وتشبثوا بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان.
إن الدعوة التي بدأ بها محمد صلى الله عليه وسلم من بطن مكة لم تكن لبناء وطن صغير، بل كانت إنشاء جديدا لأجيال وأمم، تظل تتوراث الحق، وتندفع به في رحاب الأرض، إلى أن تنتهي من فوق ظهر الأرض قصة الحياة والأحياء.
فماذا تصنع خصومة فرد أو قبيلة لرسالة هذا شأنها في حاضرها ومستقبلها؟! ومن أولئك الخصوم؟!:
*.. متعصبون، تحجّرت عقولهم، تزيّن لهم سطوتهم البطش بمن يخالفهم:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا
…
[الحج: 72] .
*.. أم مترفون، سرّتهم ثروتهم، يحبون الباطل؛ لأنه على أرائك وثيرة، ويكرهون الحقّ، لأنه عاطل عن الحلي والمتاع:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)[مريم] .
*.. أم متعنّتون، يحسبون هداية الرحمن عبث صبية، أو أزياء غانية، فهم يقولون: دع هذا وهات هذا:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ
…
[يونس: 15] .
*.. أم مهرّجون، يتواصون بينهم بافتعال ضجّة عالية، وصياح منكر عند ما تقرأ الايات، حتى لا تسمع فتفهم فتترك أثرا في عقل نقي وقلب طيب:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)[فصلت] .
لو أنّ أهل مكة تردّدوا في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم حتى يبحثوا أمره، ويمحّصوا
رسالته، ويزنوا- على مهل- ما لديهم، وما جاء به، لما عابهم على هذا عاقل.
ولكنّهم نفروا من الإسلام نفور المذنب من ساحة القضاء بعد ما انكشفت جريمته، وثبتت إدانته.
وقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الإعراض المقرون بالتكذيب والتحدّي، ومن حقّ كل رجل صدوق نبيل أن يأسف ويألم إذا ألفى نفسه مكذبا مهجورا.
إلا أنّ الله واساه، فأبان له بواطن أولئك المكاذبين المتألّبين:
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)[الأنعام] .
إنّ المعتوه إذا اعترض طريقك، ووقع في عرضك بلسان حادّ، سمعت من يقول لك: هذا لا يقصد العدوان عليك، ولكنه يستجيب لنوازع الجنون في دمه، وكذلك أولئك المشركون، إن فظاظتهم وإنكارهم تمشّ مع دواعي الجحود في طباعهم، قبل أن تكون انتقاصا للرجل الذي يحدّثهم، أو طعنا في خلقه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] .
ومن ثمّ فعلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يمضي في سبيل البلاغ، وأن يجتاز ما يلقى أمامه من صعاب وعقاب، وعلى المؤمنين برسالته أن يثبتوا، وليس ثباتهم لمصلحتهم الخاصة فقط، ولا حق الإيمان عليهم وكفى، بل هو لمصلحة الأجيال المقبلة.
إن البنيان الشامخ الذّرى لا يرتكز على سطح الأرض، وإنما يرتكز على دعائم غائرة في الثرى، وهي التي تحمل ثقله وترفع عمده، وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأول- بصلابة يقينهم، وروعة استمساكهم- دعائم رسالته، وأصول امتدادها من بعد، في المشارق والمغارب.