الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فانظر إلى بشاشة العاطفة الغامرة كيف صبغت الافاق بألوانها الزاهية، وانظر إلى حسرة الفقد كيف تخلّف سوادها الكابي على كل شيء!!.
هكذا كانت دار الهجرة، لقد أحبت الله وأحبت رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكان هذا الحبّ المكين سرّ انتصارها الرائع للإسلام، ومبعث التضحية عن طيب نفس بكل مرتخص وغال.
وقوم يربطهم بقائدهم هذا الإعزاز الهائل، تندكّ أمام عزائمهم الأطواد الراسية.
[أوصافه وبعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم] :
سأل الحسن بن علي هند بن أبي هالة عن أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصف له بدنه، فكان مما قال:.. يمشي هونا، ذريع المشية- واسع الخطو-، إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب- يهبط بقوة- وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة- أي لا يحدّق- يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام.
قلت: صف لي منطقه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلّم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه- لا بأطراف فمه- ويتكلّم بجوامع الكلم، فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا، ليس بالجافي ولا المهين، يعظّم النعمة وإن دقّت، لا يذم شيئا، ولم يكن يذمّ ذواقا- ما يطعم- ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحقّ بشيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها- سماحة-، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجّب قلّبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسّم ويفترّ عن مثل حبّ الغمام.
وقال ابن أبي هالة يصف مخرجه- على الناس-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا عمّا يعنيه، يؤلّف أصحابه ولا يفرّقهم، يكرم كريم كل قوم، ويولّيه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره.
- 268؛ وقال الترمذي: «حديث صحيح» ، وقال الحاكم:«صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. ورواه الدارمي: 1/ 41، بنحوه، وسنده صحيح أيضا على شرط مسلم، وهو رواية للحاكم وأحمد: 3/ 122.
يتفقّد أصحابه، ويسأل النّاس عما في النّاس، ويحسّن الحسن ويصوّبه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يملّوا.
لكلّ حال عنده عتاد، لا يقصّر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره
…
الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
ثم قال- يصف مجلسه-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطّن الأماكن- لا يميّز لنفسه مكانا- إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كلّ جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره، حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبّن فيه الحرم- لا تخشى فلتاته- يتعاطفون بالتقوى، يوقّرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب.
وقال يصف سيرته: كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عتّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي ولا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك النّاس من ثلاث: لا يذمّ أحدا، ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلّم أطرق جلساؤه، كأنّما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلّم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق ويقول:«إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه. ولا يطلب الثناء إلّا من مكافئ» «1» .
(1) حديث ضعيف، أخرجه بطوله الترمذي في (الشمائل) : 1/ 38، من طريق جميع بن عمرو بن عبد الرحمن العجلي، قال: حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي. وهذا سند ضعيف، -
هذه خطوط قصار لما يراه الناس من مظاهر الكمال في سيرة النبي (المحمد) صلى الله عليه وسلم.
أما حقيقة ما بني عليه هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أمجاد وشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ومعرفة العظماء لا يطيقها كلّ أحد، فكيف بعظيم خلائقه القران؟ إنّ الأمة التي أخرجت للناس في المدينة بلغت الأوج، كانت تعمل وتجاهد لله واحده، وتسعى إلى غايتها المرموقة في جذل وثّقه، التفّت حول نبيّها التفاف التلامذة بالمعلم، والجند بالقائد، والأبناء بالوالد الحنون، وتساندت فيما بينها بالأخوة المتبادلة المتناصرة، فهم نفس واحدة في أجسام متعددة، ولبنات مشدودة في بناء متسق صلب، وأدارت علاقاتها بالاخرين على العدل والبر، فليس يظلم في جوارهم بريء، أو يحرم من ألطافهم عان.
وبرغم ما وقع عليها من بغي قديم، فقد جعلت الإسلام يجبّ ما قبله.
فمن تطهر من جاهليته، وتاب إلى ربه، فلا نظر إلى ماضيه، بل ينضمّ إلى الأمة المسلمة عضوا كريما فيها، تغفر سيئاته ليستقبل- بصالح عمله- كتابه الجديد، أما الذين بقوا يكفرون ويصدّون، فلا بد من الإعداد لهم، حتى تخلص الأرض من كفرهم وصدهم:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)[النساء] .
كانت هذه الأمة تكدح لله، وتصل مساءها بصباحها في عبادته، وقد حزمت أمرها على واحد من اثنين: إمّا أن تحيا لله، وإمّا أن تموت فيه!.
ولو ذهبت توازن بين المسلمين يومئذ وبين سائر العالم، لرأيت عناصر الغلب والامتياز تتجمّع- لديهم- صاعدة، على حين تفور- في كيان الملل
- وجميع بن عمرو هذا ضعيف، وقال أبو داود:«أخشى أن يكون كذّابا» . وأبو عبد الله التميمي مجهول، كما في (التقريب) ، وابن أبي هالة اسمه هند بن أبي هالة، وهو مستور، ترجمه ابن أبي حاتم: 4/ 2/ 117، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. ونقل الحافظ في ترجمة أبيه من (التهذيب) عن أبي داود: أنه قال في هذا الحديث: «أخشى أن يكون موضوعا» ، وأشار البخاريّ إلى أنّه لا يصح. راجع ترجمة هند بن أبي هالة في (الجرح والتعديل) مع التعليق عليه.
الاخرى- زلازل حاطمة؛ فلا غرو إذا صاروا بعد سنين معدودات دولة فتية، تقضي لربها ولنفسها ما تشاء.
ثمّ إنّ الشرائع المفصّلة أخذت تنزل في المدينة منظّمة أحوال المسلمين الخاصة والعامة، ومبيّنة قواعد الحلال والحرام على تدرّج، إلى أن وصلت إلى وضعها الأخير كما سجلها تاريخ التشريع.
فقامت الحدود، وفرضت الزكاة والصيام، وزيدت ركعات الصلاة لأول العهد بيثرب.
عن عائشة: فرضت الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين، فأقرّت صلاة السّفر، وزيد في صلاة الحضر «1» .
ومما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالسيدة عائشة في غضون السنة الأولى للهجرة، وكان قد عقد عليها قبل الهجرة «2» .
وسنتحدّث عن تعدّد الزواج، وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم في موضع اخر.
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 368- 369؛ ومسلم: 2/ 142- 143، عنها، وفي رواية للبخاري: 7/ 214، قالت:«فرضت الصلاة ركعتين؛ ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربع، وتركت صلاة السفر على الأولى» .
(2)
هذا معنى ما صحّ عن عائشة، قالت: تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل مخرجه إلى المدينة بسنتين أو ثلاث، وأنا بنت سبع سنين، فلمّا قدمنا المدينة جاءتني نسوة
…
ثم أتين بي رسول الله، فبنى بي، وأنا بنت تسع سنين. رواه البخاري: 7/ 178، وأحمد: 6/ 280، واللفظ له؛ ومسلم أيضا: 4/ 140، وفي رواية له عنها: «تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوّال، وبني بي في شوّال
…
» .