الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدفعان الأفكار في مجرى ضيق كالح، على أنّ هذه الأزمات إن أخرجت العامة، وأهاجتهم إلى طلب الغذاء والكساء لأنفسهم وذراريهم بحرص ومجاهرة، فإن المؤمنين الكبار ينبغي أن يتماسكوا، وأن يكتموا أحاسيس الفاقة الملحّة فلا يتنازعوا على شيء. وذلك الأدب هو ما أخذ الله به المسلمين، وافتتح به السورة التي تحدثت عن القتال في بدر.
ذلك أنّ الخاصة من الرجال هم قدوة غيرهم، فإذا ساءت أخلاقهم للضوائق العارضة، واضطرب مسلكهم فسيكون سواد الشعب إلى مزالق الفوضى أسرع.
وقد رأينا (الألمان) في الحرب العالمية الأولى و (الإنكليز) في الحرب العالمية الثانية شدّد عليهم الحصار، حتى هزلت الأجسام، واصفرّت الوجوه، وما صابرت الجماهير هذه المجاعات إلا وراء قادتها المصابرين المتجمّلين.
[في الأسرى] :
ومما حاسب الله عليه المسلمين حسابا شديدا موقفهم بإزاء الأسرى، فإنّ الرغبة في استبقائهم للانتفاع من ثرواتهم غلبت الاراء الاخرى بضرورة الاقتصاص من ماثمهم السابقة، حتى يكونوا نكالا لما بين أيديهم وما خلفهم وموعظة للمتقين.
استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هؤلاء بنو العمّ والعشيرة والإخوان، وإنّي أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهداهم الله فيكونوا لنا عضدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا بن الخطاب؟» قال: قلت: والله! ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكّنني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكّن عليا من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكّن حمزة من فلان- أخيه- فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنّه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلمّا كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وهما يبكيان! فقلت: يا رسول الله! أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» - لشجرة قريبة-.
وأنزل الله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68)[الأنفال]«1» .
إن الوقوع في الأسر لا يعني صدور عفو عام عن الجرائم التي اقترفها الأسرى أيّام حريتهم، وهؤلاء الطغمة من كبراء مكة لهم ماض شنيع في إيذاء الله ورسوله، وقد أبطرتهم منازلهم، فساقوا عامة أهل مكة إلى حرب ما كان لها من داع، فكيف يتركون بعد أن استمكنت الأيدي من خناقهم؟.
أذلك لأنّ لهم ثروة يفتدون بها؟ ما كان يليق أن ينظر المؤمنون إلى هذه الأعراض التافهة متناسين ما فرط من أولئك الكفّار في جنب الله.
إنهم مجرمو حرب- بالاصطلاح الحديث- لا أسرى حرب، وقد ندّد القران بخيانتهم لقومهم بعد كفرهم بنعمة الله عليهم فقال:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29)[إبراهيم] .
وهناك نصوص توصي برعاية الأسرى وإطعامهم، وتشرع القوانين الرحيمة في معاملتهم، وهذا ينطبق على جماهير الأسرى من الأتباع والعامة.
أمّا الذين تاجروا بالحروب لإشباع مطامعهم الخاصة، فيجب استئصال شأفتهم، وذلك هو الإثخان في الأرض.
إنّ الحياة كما تتقدّم بالرجال الأخيار، فإنّها تتأخر بالعناصر الخبيثة؛ وإذا كان من حقّ الشجرة لكي تنمو أن تقلّم؛ فمن حقّ الحياة لكي تصلح أن تنقّى من السفهاء والعتاة والاثمين. ولن يقوم عوض أبدا عن هذا الحق، ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب، وقد أسمع الله نبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته هذا الدرس، حتى إذا وعوه وتدبّروه عفا عنهم، ثم أباح لهم- من رحمته بهم- الانتفاع بما أخذوا من فداء فقال:
(1) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 5/ 156- 157؛ وأحمد، رقم (208، 221) ؛ والبيهقي: 9/ 67- 68، من حديث عمر رضي الله عنه.