المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌معنى العبادة وسرّ الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه صحابة محمّد صلى - فقه السيرة للغزالي

[محمد الغزالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمة

- ‌حول أحاديث هذا الكتاب

- ‌رسالة وإمام (مدخل إلى السيرة النبوية)

- ‌الوثنيّة تسود الحضارة القديمة

- ‌طبيعة الرّسالة الخاتمة

- ‌العرب حين البعثة

- ‌رسول معلم

- ‌منزلة السنّة من الكتاب الكريم

- ‌النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات

- ‌من الميلاد إلى البعث (العهد المكي)

- ‌[نسب النبي صلى الله عليه وسلم ومولده ورضاعه]

- ‌[نسبه ومكانته في قومه] :

- ‌[قلة ماله عليه الصلاة والسلام] :

- ‌[تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[كيفية استقبال جدّه لمولده] :

- ‌[عرضه على المراضع] :

- ‌شق الصدر

- ‌بحيرا الراهب

- ‌حياة الكدح

- ‌[أهداف التعليم] :

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌قوة ونشاط

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌[الزواج الميمون] :

- ‌الكعبة

- ‌باحثون عن الحقّ

- ‌في غار حراء

- ‌ورقة بن نوفل

- ‌جهاد الدّعوة (في مكة)

- ‌[محمد صلى الله عليه وسلم يحمل أعباء الدعوة إلى الله]

- ‌إلام يدعو الناس

- ‌1- الواحدانية المطلقة:

- ‌2- الدار الاخرة:

- ‌3- تزكية النفس:

- ‌4- حفظ كيان الجماعة المسلمة:

- ‌الرعيل الأوّل

- ‌إظهار الدعوة

- ‌أبو طالب

- ‌الاضطهاد

- ‌عمار بن ياسر رضي الله عنه:

- ‌بلال رضي الله عنه:

- ‌خباب رضي الله عنه:

- ‌مفاوضات

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌[التحذير من الإسرائيليات] :

- ‌[الهجرة الثانية إلى الحبشة] :

- ‌إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما

- ‌المقاطعة العامة

- ‌عام الحزن

- ‌في الطائف

- ‌[في جوار المطعم بن عدي] :

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌[لماذا المسجد الأقصى

- ‌حكمة الإسراء:

- ‌إكمال البناء:

- ‌سلامة الفطرة:

- ‌فرض الصلاة:

- ‌[صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين] :

- ‌قريش والإسراء:

- ‌[عرض الإسلام على القبائل] :

- ‌الهجرة العامّة مقدّماتها ونتائجها (العهد المدني)

- ‌[تمهيد]

- ‌[التحول الجديد] :

- ‌[بشارة اليهود بالنبي الجديد وكفرهم به] :

- ‌فروق بين البلدين

- ‌صنع اليهود

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌بيعة العقبة الكبرى

- ‌طلائع الهجرة

- ‌في دار الندوة

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌درس في سياسة الأمور:

- ‌في الغار:

- ‌في الطريق إلى المدينة:

- ‌دعاء:

- ‌[خبر الهجرة ينتشر في جوانب الصحراء] :

- ‌الوصول إلى المدينة

- ‌استقرار المدينة:

- ‌[النفس العظيمة] :

- ‌[مشكلات وحلول إيجابية] :

- ‌أسس البناء للمجتمع الجديد

- ‌[دعائم المجتمع الجديد]

- ‌[أولا] : المسجد:

- ‌[ثانيا] : الأخوة:

- ‌[ثالثا] : غير المسلمين:

- ‌المصطفون الأخيار

- ‌معنى العبادة

- ‌قيادة تهوي إليها الأفئدة

- ‌[أوصافه وبعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الكفاح الدّامي

- ‌[مرحلة الإعداد للجهاد]

- ‌[تمارين ومناورات ومعارك] :

- ‌سرايا

- ‌[حكمة بعث السرايا] :

- ‌سرية عبد الله بن جحش:

- ‌معركة بدر

- ‌[فرار أبي سفيان بالقافلة، واستصراخه أهل مكة] :

- ‌[استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه] :

- ‌[دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر] :

- ‌[بداية المعركة] :

- ‌[مقتل أبي جهل] :

- ‌[بشاشة الفوز تضحك للمؤمنين] :

- ‌محاسبة وعتاب (في الغنائم) :

- ‌[في الأسرى] :

- ‌في أعقاب بدر:

- ‌بدء الصراع بين اليهود والمسلمين

- ‌طرد يهود بني قينقاع:

- ‌[سر نقمة اليهود على الإسلام والمسلمين] :

- ‌مقتل كعب بن الأشرف:

- ‌مناوشات مع قريش

- ‌[بين بدر وأحد] :

- ‌معركة أحد

- ‌عبر المحنة:

- ‌[من بطولات الصحابة وتضحياتهم] :

- ‌[إصابة النبي صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[دروس وعبر] :

- ‌شهداء أحد:

- ‌[حمراء الأسد] :

- ‌اثار أحد:

- ‌[قصة الرجيع] :

- ‌[شهداء القرّاء في بئر معونة] :

- ‌[المصاب الفادح] :

- ‌[استعادة هيبة المسلمين] :

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌[الثأر لأصحاب الرجيع وبئر معونة] :

- ‌بدر الاخرة

- ‌دومة الجندل

- ‌غزوة بني المصطلق

- ‌حديث الإفك

- ‌غزوة الأحزاب

- ‌مع بني قريظة

- ‌[علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين] :

- ‌[نزول بني قريظة على حكم سعد] :

- ‌[قتل أبي رافع بن أبي الحقيق] :

- ‌طور جديد

- ‌عمرة الحديبية

- ‌[عدم الرغبة في القتال] :

- ‌[مفاوضات] :

- ‌[محاولات للاعتداء] :

- ‌[بيعة الرضوان] :

- ‌[شروط صلح الحديبية] :

- ‌[ردة فعل المسلمين على الشروط] :

- ‌[أحداث ما بعد الحديبية] :

- ‌مع اليهود مرة أخرى (يهود خيبر)

- ‌[حصون اليهود تتداعى] :

- ‌[نماذج من الشهادة] :

- ‌[أحداث ما بعد المعركة] :

- ‌[الأرض لله يورثها من يشاء] :

- ‌عودة مهاجري الحبشة

- ‌تأديب الأعراب

- ‌مكاتبة الملوك والأمراء

- ‌[كتابه إلى قيصر ملك الروم] :

- ‌[ردّ ملك غسان] :

- ‌[ردّ المقوقس ملك القبط] :

- ‌[ردّ فعل كسرى ملك فارس] :

- ‌[ردّ أمير البحرين] :

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة مؤنة

- ‌[التربية الجهادية للمجتمع المسلم] :

- ‌[مكانة القادة الثلاثة في الجنة] :

- ‌ذات السلاسل

- ‌[فقه عمرو] :

- ‌الفتح الأعظم

- ‌[أبو سفيان يحاول إصلاح ما أفسده قومه] :

- ‌[إنه شهد بدرا

- ‌[إسلام العباس رضي الله عنه] :

- ‌[تعمية أخبار الجيش] :

- ‌[دعوة أبي سفيان إلى الاستسلام] :

- ‌[دخول جيش المسلمين مكة] :

- ‌[مشاهد بعد الفتح] :

- ‌[ذكريات الشهداء] :

- ‌[إسلام فيه دخن] :

- ‌معركة حنين

- ‌هزيمة:

- ‌الثبات والنصر:

- ‌الغنائم:

- ‌حكمة هذا التقسيم:

- ‌عودة وفد هوازن:

- ‌حصار الطائف:

- ‌إلى دار الهجرة:

- ‌موقف المنافقين:

- ‌غزوة تبوك

- ‌[دعوة إلى البذل والعطاء] :

- ‌[مصاعب وصبر وعزيمة] :

- ‌[تحقيق أهداف الغزوة] :

- ‌المخلّفون

- ‌مسجد الضّرار:

- ‌طليعة الوفود

- ‌حج أبي بكر بالناس

- ‌وفد للأميين، ووفد لأهل الكتاب

- ‌أمّهات المؤمنين

- ‌[زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين و‌‌كلمة عن تعدّد الزوجات]

- ‌كلمة عن تعدّد الزوجات]

- ‌[زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة] :

- ‌[عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة رضي الله عنهن] :

- ‌[زواجه بالسيدة زينب رضي الله عنها] :

- ‌[زوجات أخريات] :

- ‌فأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب

- ‌وصفية بنت حيي

- ‌وجويرية بنت الحارث

- ‌حجّة الوداع

- ‌استقرار:

- ‌ حجة الوداع

- ‌إلى المدينة:

- ‌الرّفيق الأعلى

- ‌[شكوى النبي صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[اشتداد المرض] :

- ‌[أوامر ووصايا] :

- ‌[حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته] :

- ‌[وفاته صلى الله عليه وسلم واثارها على المسلمين] :

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ‌معنى العبادة وسرّ الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه صحابة محمّد صلى

‌معنى العبادة

وسرّ الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه صحابة محمّد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا موصولين بالله على أساس صحيح، فلم يشعروا في العمل له بما يشعر به الكثيرون من عنت وتكلّف، ولا بما يعانون من شرود وحيرة.

هناك طبيعتان في الإنسان غير منكورتين: الإعجاب بالعظمة، والعرفان للجميل، فعند ما ترى الة دقيقة، أو جهازا عجيبا، أو صورة رائعة، أو مقالا بليغا فإنك لا تنتهي من تبيّن حسنه حتى تنطوي جوانحك على الإعجاب بصاحبه، فإنّ الذكاء العميق والاقتدار البارز يجعلانك تهتزّ من تلقاء نفسك احتراما للرجل الذكيّ القدير!.

وكذلك عند ما يسدى إليك معروف، أو تمتدّ يد إليك بنعمة إنّك تذكر هذا الصنيع لمن تطوّع به، وعلى ضخامة ما نلت من خير يلهج لسانك بالثناء، ويمتلئ فؤادك بالحمد كما قال الشاعر:

أفادتكم النعماء منّي ثلاثة

يدي، ولساني، والضّمير المحجّبا!!

ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم جاء يثير هاتين الطبيعتين نحو أحقّ شيء بهما، ألست تعجب بالعظمة، وتحتفي بصاحبها؟! ألست تقدّر النعمة وتشكر مسديها؟!.

إنك ترمق بإجلال مخترع الطيارة، وكلّما رأيتها تشقّ الفضاء زدت إشادة بعبقريته! فما رأيك فيمن يدفع الألوف المؤلّفة من الكواكب تطير في جوّ السماء من غير توقف ولا عوج! وما رأيك فيمن خلق عقل هذا المخترع، وأودع في تلافيف مخّه الذكاء الذي وصل به إلى ما راعك واستثار إعجابك؟.

أليس ربّك وربّ كلّ شيء أحقّ بأن تعرف عظمته، وتفتح عيونك على اثار قدرته

؟!.

فإذا عرفت عظمته من عظمة الوجود الذي يحيط بك، خجلت من التهجّم عليه، ونسبة ما لا يليق إليه!! وقلت مع العارفين: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [ال عمران: 191] .

ص: 203

إنّك لو استضافك شخص كريم، ورأيت البشاشة في وجهه، والسماحة في قراه، حفظت له- ما حييت- هذه المنّة، وسعيت جهدك كي تكافئه عليها، وحدّثت من تعرف بسجايا هذا المضياف الكريم، فما رأيك فيمن تولّى أمرك بنعمائه من المهد إلى اللحد؟! فأنت لا تطعم إلا من رزقه، ولا تكسى إلا من ستره، ولا تأوي إلا إلى كنفه، ولا تنجو من شدة إلّا بإنقاذه

!!.

إنّ محمدا صلى الله عليه وسلم وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة، فهم إذا انبعثوا لطاعته، كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات بأشواق من نفوسهم، ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم.

والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنّها طاعة الرضا والحب!.

والعبادة ليست طاعة الجهل والغافلة، ولكنّها طاعة المعرفة والحصافة!.

قد تصدر الحكومة أمرا بتسعير البضائع فيقبل التجار كارهين، أو أمرا بخفض الرواتب، فيقبل الموظفون ساخطين.

وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك، لا تدري إلى مرتعها تسير أم إلى مصرعها.

تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التي شرع الله للناس، فالعبادة التي أجراها الله عن الألسنة في الاية الكريمة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)[الفاتحة] والتي جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء في قوله:

وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)[الذاريات] .

تعني الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة، أي الناشئ عن الإعجاب بالعظمة والعرفان للجميل..

وقد اطّردت ايات القران، تبني سلوك المؤمنين على هذه العمد الراسية.

فهي- إذ تعرّف الناس بالله- تريهم صحائف مشرقة من خلقه البديع، وفضله الجزيل، تمزق ما نسجته الغافلة على الأعين من جهالة وجحود.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)[إبراهيم] .

ص: 204

إنّ الرجل لا يقوم بالعمل العظيم وهو منساق إليه بالسياط الكاوية، إنما تولد الإجادة، ويبلغ الشيء درجة الإحسان بما يقارنه من رغبة ورضا.

فإذا أقبل المرء بفكره وقلبه على معتقد وهب له نفسه وحسه، وعاش يحلم به في منامه، وينشط له في يقظته، فذلك يرقى به صعدا في فهم مبدئه، وإجادة خدمته.

ومن ثمّ فإنّ الإسلام لا يحفل بالإيمان النظري البحت، ولا يقبله إلا ليكون سلّما إلى ما بعده، وهو الإيمان بالعقل والعاطفة معا.

لا بدّ من تلوين الوجدان في قضايا الإيمان، ليس بمسلم من يعرف الله ويكرهه، ولا قيمة لمسلم يعرف الله ووجدانه خال باهت، فلا إعجاب فيه ولا شكران، كما أنه لا غمط فيه ولا جحود.

والمسلم كلّ المسلم هو الذي يعرف الله معرفة اليقين، ويضم إلى هذه المعرفة إحساسا يعترف بمجادة المجيد ونعماء المنعم، تباركت أسماؤه!.

والإيمان بهذه المثابة هو الإيمان المنتج، وهو صانع العجائب، وباني الدول، ومقيم الحضارات السنية، هو الذي يجعل الفرد يستحلي التكاليف المنوطة بعنقه، فيقبل على أدائها، وكأنّها رغبات نفس لا واجبات دين..

أتظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما قام يصلي حتى تورمت قدماه، كان يغالب الألم الناتج في بدنه كما يغالبه التلميذ المذنب عند ما يوقف الساعات الطوال معذبا مهانا؟.

كلا.. كلا.. إنّ استعذابه للمناجاة، واستغراقه في الخشوع، أذهلاه عمّا به، وغلبا على بوادر الألم الناشئ من طول الوقوف.

والرجل الموفور الحماس، الفائر العاطفة، قد يظل يعمل ويدأب حتى يصل في عمله ودأبه إلى درجة يصعب منالها على القاعدين الباردين.

ووزن الأمور عند أصحاب الإيمان والهمم غير وزنها عند أصحاب الريبة والعجز، ألا ترى حذيفة بن اليمان عند ما انطلق يتعرّف أحوال المشركين في غزوة الخندق، في ليلة باردة قارصة الجوّ، لافحة السبرات:

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا!

لقد انطلق وهو يقول عن نفسه: كأنّما أسير في حمّام!!

ص: 205

هذه حرارة الإيمان غمرت- بدفئها- الرجل، وجعلته ينفذ في كبد الليل البارد وكأنّه سهم مسدّد.

هذا الإيمان المرتكز على العواطف المتقدة، هو الذي أشعل المعارك الطاحنة، وقاد إلى النصر المظفّر، وهو الذي هدم ما تركّز قرونا طويلة من سلطان الظلم والبغي، بعد ما ظنّ أنه لن يطاح به أبدا.

وأساسه ما علمت، من تغلغل الإيمان في العقل والعاطفة معا، يغذو شجرته الباسقة مزيد من معرفة الله والشعور بعظمته ونعمته.

ذلكم أسلوب القران في تعريف الناس بالله؛ إنّه أسلوب يقيمهم على عبودية الحب والتفاني، لا على عبودية التحقير والهوان، عبودية الإعجاب بالعظمة، والإقرار بالإحسان، لا العبودية المبهمة التي تصادر الإرادة، وتزري بالإنسان.

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)[النمل] .

إنّ هذا التساؤل المتواصل السريع، يفتح على النفس افاقا بعيدة من الإيمان الذكي، ويجعلها تهرع إلى الله متجرّدة، تنفر من شوائب الشرك نفور الرجال الكبار من عبث الصبية.

وايات النظر والتفكير يدور- أغلبها- على هذا المحور الثابت.

وربّما احتاجت النفس- في ساعات غرورها- إلى لون من أدب القمع والتوعد يكبح جماحها، وهذا لا يتنافى- ألبتة- مع الأصل الذي قرّرناه انفا، فإنّ قسوة الأب مع ولده- حينا- لا تغيّر من طبيعة الحنان فيه.

والقران إذ يحرّك المواهب السامية في الإنسان- بعرض اثار القدرة العليا

ص: 206

عليه- قد يردف ذلك بوخزات توقظ الإحسان المخدّر؛ ليلتفت ويعقل، لا لينكمش ويجبن.

قال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)[الزمر] .

ويقول بعد ذلك:

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)[الزمر] .

وقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنهج نفسه في غرس الإيمان ورعاية ثماره.

وكانت سيرته في الإقبال على الله درسا حيّا، يفعم الأفئدة بإجلال الله وإعظامه، والمسارعة إلى طاعته، والنفور من عصيانه.

وكانت القلوب تتفتّح على هدى الله ورسوله، فما تسع بعده شيئا.

عن جبير بن مطعم: سمعت النبيّ عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ الاية:

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)[الطور] .

كاد قلبي أن يطير..!! «1» .

ومدّ الإيمان من فكرة في الرأس إلى عاطفة في القلب تجعل الرجل ينبض باليقين والإخلاص هو من صميم السنّة، وهو مهاد الخلال الفاضلة التي سادت المسلمين وأعلت شأنهم، وهو معنى الحديث المشهور:«ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، ومن أحبّ عبدا لا يحبّه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النّار» «2» .

ومن ذلك أيضا أن يتغلغل الإيمان بالرسالة والمغالاة بصاحبها إلى حدّ

(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 9/ 489، من حديث جبير بن مطعم.

(2)

حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 51- 52؛ ومسلم 1/ 48، وغيرهما من حديث أنس.

ص: 207

ينسى الإنسان معه نفسه فهو- عن حب واندفاع، لا عن تكليف ورهبة- يفدي الرسالة وصاحبها بالنفس والنفيس.

عن عبد الله بن هشام قال: كنّا مع النبيّ عليه الصلاة والسلام، وهو اخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله! لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلا نفسي! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا- والذي نفسي بيده- حتّى أكون أحبّ إليك من نفسك» ، فقال عمر: فإنّه الان لأنت أحبّ إليّ من نفسي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الان يا عمر» «1» ، أي: الان فقط تمّ إيمانك.

وهذا الحديث يحتاج إلى إيضاح: إنّ الفضائل لا يجوز أن تطيش بها كفة.

وقد احترم الناس خلق الوفاء في السموءل لمّا ترك ابنه يذبح، مؤثرا أن تسلم ذمته، ويرد إلى من ائتمنه وديعته.

والمرء إذا ضحى بنفسه فداء شرفه، فقد أدى واجبه.

ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب من الناس أن يقدّسوا فيه صورة اللحم والدم، ولا أن يرغبوا بنفسه عن أنفسهم، ليموتوا كي يحيا، أو ليهونوا كي يعظم، أو ليفتدوا أمجاده الخاصة بأرواحهم وأموالهم، أو ليتألّه فوقهم، كما تألّه فرعون وأمثاله من الجبارين.

كلّا كلّا، فمحمد صلى الله عليه وسلم يريد من المؤمنين أن يقدّسوا فيه معنى الرسالة وأن يفتدوا فيه مثلها العالية، وأن يصونوا- في شخصه- معالم الحق المنزل، وماثر الرحمة العامة.

إنّ الأنبياء لم يحيوا لأنفسهم، والمصيبة فيهم لا تنزل بهم أو بأهلهم خاصة.

إنّهم يحيون للعالم كله؛ أليسوا مناط هدايته التامة، وسعادته العامة؟

فلا غرو إذ كانت تفديتهم من أصول الإيمان ومعاقد الكمال.

وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أهلا لأن يحبّ؛ وما تعرف الدنيا رجلا فاضت القلوب بإجلاله، وتفانى الرجال في حياطته وإكباره مثل ما يعرف ذلك لصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.

(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 11/ 445؛ وأحمد: 4/ 223، من حديث عبد الله بن هشام.

ص: 208