الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهناك الذين فترت- أول الأمر- هممهم، فلما جدّ الرحيل وانطلق الجيش أحسوا خطر التخلف على إيمانهم فنهضوا يدركون ما يوشك أن يفوتهم، منهم (أبو خيثمة) عاد يوما إلى أهله- بعد مسير النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه- وكان اليوم قائظا، فوجد امرأتيه كلتيهما، قد أعدتا له الطعام الشهيّ والماء البارد الرّويّ، ووجد مسكنه مبللا رطبا، وسط بستانه الذي أخذ بسره الأحمر ينضج ويسودّ. فاستيقظ ضمير الرّجل، وقال: رسول الله في الشمس والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلّ بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ والله ما هذا بالنّصف!.
ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيئا لي زادا، ففعلتا، ثم قدّم ناضحه فارتحله.
وأسرع الرجل المؤمن يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك.
[مصاعب وصبر وعزيمة] :
وعانى الجيش الذاهب إلى تبوك مصاعب ثقيلة؛ روى الإمام أحمد في تفسير قول الله عز وجل: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة: 117] ؛ قال: خرجوا في غزوة (تبوك) الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حرّ شديد، وأصابهم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها، ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظهر.
وعن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أنّ رقابنا ستنقطع، حتى إنّ الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله! إنّ الله عوّدك في الدعاء خيرا فادع الله لنا! فقال: «أو تحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء، فلم يرجعهما حتى قالت السماء- أي اذنت بمطر- فأطلت، ثم سكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر «1» .
(1) ذكره ابن كثير في التاريخ: 5/ 9، من رواية عبد الله بن وهب بسنده عن ابن عباس، ثم قال:«إسناده جيد» ، وهو عندي غير جيد؛ لأنّه من رواية عتبة بن أبي عتبة. وقد ذكره-
قال ابن إسحاق: وكان في الجيش رجل منافق، فقالوا: ويحك هل بعد هذا من شيء؟ فقال: سحابة مارة!.
وفي الطريق مرّ المسلمون بالديار التي كانت ثمود تسكنها، وهي أطلال هامدة، واثار بقيت تذكّر بغضب الله على من كذّبوا رسله، وتعجّلوا عقابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» «1» .
والظاهر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يريد ألا يغافل المسلمون عن مواطن العظة، وألا يستهينوا بما خلا قبلهم من مثلات، فإنّ المرء لو قيّض له أن يزور السجون، ويشهد مثلا غرفة الإعدام؛ فليس يليق أن ينظر إلى حبل المشنقة وهو شارد أو ضاحك، لا أقلّ من بعض الأسى لأحوال المجرمين ومصارعهم!.
وروى أحمد عن جابر: لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر، قال:«لا تسألوا الايات خوارق العادات- فقد سألها قوم صالح، فبعث الله لهم ناقة، فكانت ترد من هذا الفجّ، وتصدر من هذا الفجّ، فعتوا عن أمر ربّهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فأخذتهم صيحة أهمد الله بها من تحت أديم السّماء منهم» «2» .
- الحافظ في (اللسان) : 4/ 129، وذكر أنّ العقيليّ أورده في:(الضعفاء) ثم ساق له حديثين، ثم قال:«ولا يتابع على الحديثين جميعا» ، نعم قد أورد الحديث الهيثمي في (المجمع) : 6/ 194- 195، ثم قال:«رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات» ، فإذا صحّ هذا، فالحديث حسن- إن شاء الله- أو صحيح.
(1)
صحيح، أخرجه أحمد، رقم (5225، 5342، 5404، 5441، 5645، 5705، 5931، 6561) ، من حديث ابن عمر، وهذا أحد ألفاظه، وأخرجه البخاري: 8/ 102؛ ومسلم: 8/ 221، نحوه.
(2)
في المسند: 3/ 296، من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر. وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه (5/ 11) :«إسناده صحيح» ، وكذلك صحّحه الحاكم من هذا الوجه: 2/ 340- 341؛ ووافقه الذهبي. واقتصر الحافظ في (الفتح) : 6/ 294، على تحسينه، وهذا أقرب. وفي كل ذلك عندي نظر! فقد تعلمنا منهم أن أبا الزبير مدلس، وأنّه لا تقبل روايته المعنعنة، إلا إذا كانت من رواية الليث بن سعد عنه وهذه ليست منها! وقد قال الذهبي:«وفي صحيح مسلم عدّة أحاديث لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر ولا هي من طريق الليث منه، ففي القلب منها شيء» . قلت: فكيف يصحّ إذن ما ليس منها في صحيح مسلم كهذا؟!.