الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وماذا يصنع؟ إنّ في الدنيا أقواما كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظلّ تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها امنة! فكذلك هذه الأصناف من البشر، تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهشّ له.
عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، قال: مر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء «1» .. إنّ هذا الأعرابي لا يعجبه المنطق الدقيق، ولا الطبع الرقيق، قدر ما يعجبه من عطاء يملأ جيوبه ويسكّن مطامعه.
ومن هنا قال صفوان بن أمية: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إليّ، حتى ما خلق الله شيئا أحبّ إليّ منه «2» .
حكمة هذا التقسيم:
وهذه السياسة البعيدة لم تفهم أول الأمر، بل أطلقت ألسنة شتى بالاعتراض، فهناك مؤمنون ظنّوا هذا الحرمان ضربا من الإعراض عنهم والإهمال لأمرهم.
روى البخاريّ عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع اخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال:«إنّي أعطي قوما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم: عمرو بن تغلب» .
قال عمرو: فما أحبّ أنّ لي بكلمة رسول الله حمر النعم..
فكانت هذه التزكية تطييبا لخاطر الرجل أرجح لديه من أثمن الأموال.
وكان الأنصار ممّن وقعت عليهم مغارم هذه السياسة.
(1) صحيح، أخرجه مسلم: 3/ 103؛ وكذا البخاري.
(2)
رواه مسلم: 7/ 75؛ والترمذي: 2/ 24؛ وأحمد: 3/ 401، عن سعيد بن المسيّب: أنّ صفوان بن أمية قال، كذا هو عند مسلم، وظاهره الانقطاع بين سعيد وصفوان؛ وعند أحمد والترمذي عن صفوان، وظاهره الاتصال، ولكنّ الترمذي رجح الأول، وأيده ابن العربي في العارضة فقال:«لأنّ سعيدا لم يسمع من صفوان شيئا» .
لقد حرموا جميعا أعطية حنين، وهم الذين نودوا وقت الشدة، فطاروا يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تبدّل الفرار انتصارا، وها هم أولاء يرون أيدي الفارين تعود ملأى.
أما هم.. فلم يمنحوا شيئا قط؟.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار شيء منها قليل ولا كثير، وجد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي والله- رسول الله قومه. فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم؟ قال: «فيم؟» قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني» .
فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة
…
حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! اجتمع لك هذا الحيّ من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فيهم خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:«يا معشر الأنصار! ألم اتكم ضلّالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟!» .
قالوا: وما نقول يا رسول الله، وبماذا نجيبك؟ المنّ لله ورسوله.
قال: «والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدّقتم: جئتنا طريدا فاويناك، وعائلا فاسيناك، وخائفا فامنّاك، ومخذولا فنصرناك
…
» .
فقالوا: المنّ لله ورسوله.
فقال: «أوجدتم في نفوسكم- يا معشر الأنصار- في لعاعة من الدنيا تألّفت
بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام!! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟.
فو الذي نفسي بيده، لو أنّ الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار.
اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» .
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم. وقالوا: رضينا بالله ربا، ورسوله قسما، ثم انصرف.. وتفرقوا «1»
…
والأنصار- في تاريخ الدعوات- مثل فريدة للرجال الذين تقوم بهم الرسالات العظمى؛ حتى إذا استوت على سوقها، وتجاوزت أيام محنتها ومؤنتها، وتدلّت ثمارها وحلا جناها، جاءت أيد غير أيديهم، فقطفت ما تشتهي، ولم تكتف بذلك! بل لطمت أيدي الغارسين حتى لا تلقط من الثمار الساقطة قليلا ولا كثيرا!!.
ولا نقول ذلك تعليقا على توزيع الغنائم في هذا المقام، فقد اتضح وجه الرشد في هذه القسمة الحصيفة
…
ولكنّا نذكر في مناقب الأنصار، وافتراض ترفّعهم عن الدنيا في سبيل الدين، وتأليف الناس عليه، أنّ شؤون الحكم ابتعدت عنهم، واحتازها غيرهم وهم لها أكفاء، فلم تمض ثلاثون سنة حتى كانت في أيدي الطلقاء.
ولا ريبة في أنّ أولئك المتجرّدين لله سوف يلقون جزاءهم الأوفى، وأن شأن الدنيا أنزل قدرا من أن يأسى عليه رجل العقيدة.
غير أننا نتساءل: أكان من مصلحة الرسالات نفسها أن تقع هذه الأثرة؟ أم كان سوء حظّ الإسلام أن يلقى هذا اللون من الحكام، فيقصى أصحاب السبق
(1) حديث صحيح، رواه أحمد: 3/ 76- 77؛ وابن هشام: 2/ 310- 311؛ وابن جرير: 2/ 360- 361، كلهم عن ابن إسحاق بسنده الصحيح عن أبي سعيد الخدري. وذكره ابن كثير في (البداية) : 4/ 358- 359، من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق والسياق له، ثم قال ابن كثير:«وهو صحيح» . والقصة في البخاري: 8/ 38- 42، بنحوها مختصرا.