الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باحثون عن الحقّ
قلنا: إن الوثنية تزيّن باطلها بطلاء من الحقّ؛ ليسهل على النفوس ازدراد ما فيها من مرارة، فهي تزعم الإيمان بإله خلق السموات والأرض، وفي الوقت نفسه تشرك معه الهة أخرى هي مزدلف إليه ووسيلة، ولمّا كان خالق السموات والأرض بعيدا عن مرأى الأعين، فقد أنس العبّاد المشركون بالالهة القريبة من أيديهم، والتي يتردّدون عليها صباحا ومساء، حتى صارت صلتهم بها أحكم من الصلة بالإله الأصيل، وأصبح ذكر هذا الإله- المتوسّل إليه بغيره- لا يرد إلا في معرض الجدال والاعتذار:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)[الزخرف] .
غير أنّ التعصب لهذا السّخف جاوز الحدود، فأما العامة فهم بهم، أحلاس ما توارثوا، فقدوا نعمة العقل الحرّ، بل العقل المدرك، وعاشوا يهرفون بما لا يعرفون.
وأمّا الذين أوتوا حظّا من التفكير، فإنّ تفكيرهم يرتطم بحدود شهواتهم، وربما كتموا ما عرفوا، بل ربما حاربوا ما عرفوا، وقليل من الناس من يتجرّأ على التقاليد المستحكمة، ويجهر بالحق، وأقلّ من ذلك من يعيش له ويضحّي في سبيله.
وقد وجد قبل البعثة من نظر إلى وثنية العرب نظرة استهزاء، ومن عرف أنّ قومه يلتقون على أباطيل مفتراة، ولكنه لم يجد الطريق أو الطاقة على كفّهم.
أخرج البخاري «1» : أنّ ابن عمر رضي الله عنهما حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لقي
(1) أخرجه الإمام أحمد، رقم (5369) ، من حديث ابن عمر، وقد رواه أيضا من حديث سعيد بن زيد بن عمرو (1648) ، وفيه زيادة منكرة، وهي تتنافى مع التوجيه الحسن الذي وجّه به الحديث حضرة المؤلف، وهي قوله بعد: (إني لا اكل مما تذبحون على-
زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل (بلدح) - وذلك قبل أن ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إنّي لا اكل مما تذبحون «1» على أنصابكم، ولا اكل إلا ممّا ذكر اسم الله عليه، وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، وأنتم تذبحونها على غير اسم الله- إنكارا لذلك.
وفي رواية: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينهم، وقال: لعلّي أن أدين دينكم! فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!! قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنا أستطيعه!! فهل تدلّني على غيره؟ فقال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم عليه السلام؛ لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد، فلقي عالما من النصارى، فذكر له مثل ذلك، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله! قال: ما أفرّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله شيئا أبدا وأنا أستطيع!! .. فهل تدلّني على غيره؟ فقال: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ فقال: دين إبراهيم عليه السلام، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قوله في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم عليه السلام..
وهذا الحديث يبيّن مقدار الحيرة التي سادت الدنيا، وغطّت بضبابها الكثيف على الأديان الظاهرة؛ اليهود يشعرون بأنّهم مطاردون في الأرض، منبوذون من
- أنصابكم) قال: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكل شيئا مما ذبح على النصب. «وعلة هذه الزيادة: أنها رواية من المسعودي، وكان قد اختلط! وراوي هذا الحديث عنه يزيد بن هارون، سمع منه بعد اختلاطه، ولذلك لم يحسن صنعا حضرة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر حيث صرّح في تعليقه على المسند أن إسناده صحيح» ، ثم صرح بعد سطور أنه إنما صحّحه مع اختلاطه، لأنه ثبت معناه من حديث ابن عمر بسند صحيح، يعني هذا الذي في الكتاب، وليس فيه هذه الزيادة المنكرة، فكان عليه أن ينبه عليها لكي لا يتوهم أحد أن معناها ثابت أيضا في حديث ابن عمر.
(1)
توهّم زيد أن اللحم المقدّم إليه من جنس ما حرم الله، ومن المقطوع به أن بيت محمد صلى الله عليه وسلم لا يطعم ذبائح الأصنام، ولكن أراد الاستيثاق لنفسه والإعلان عن مذهبه، وقد حفظ محمد صلى الله عليه وسلم له ذلك وسرّ به.
أقطارها، فعلى الداخل في دينهم أن يحمل وزرا من المقت المكتوب عليهم.
والنصارى وقع بينهم شقاق رهيب في طبيعة المسيح ووضعه، ووضع أمّه، من الإله الكبير، وقد أثار هذا الخلاف بينهم الحروب المهلكة، وقسمهم فرقا يلعن بعضها بعضا.
وكان نصارى الشّام الذين سألهم زيد (يعاقبة) ، يخالفون المذهب الرسمي لكنيسة الرومان، فلا غرابة إذا أشعروا زيدا بما يقع عليه من عذاب لو دخل في دينهم، أو لعل هذه اللعنة المرهوبة هي تبعات الخطيئة التي اقترفها ادم، واستحقّها من بعده بنوه كما يدّعي ذلك النصارى وهم يبرّرون صلب المسيح، ومن حقّ زيد أن يدع هؤلاء وأولئك، ويرجع إلى دين إبراهيم عليه السلام يبحث عن أصوله وفروعه.
وأخرج البخاريّ: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول:«يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم عليه السلام غيري» ، وكان يحيي الموؤدة، يقول للرجل- إذا أراد أن يقتل ابنته-: أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها «1» .
إنّ زيدا واحد من المفكّرين القلائل الذين سخطوا ما عليه الجاهلية من نكر، وإنه ليشكر على تحرّيه الحقّ، ولا يغمط هو ولا غيره أقدارهم بين قومهم، لكن القدر كان يتخيّر رجلا يبصر الحقّ، ويملك من الطاقة ما يدفعه به إلى افاق العالمين، في وجه مقاومة تسترخص النفس والنفيس للإبقاء على الضّلال، والإمساك بليله البارد الثقيل.
كان القدر يعدّ لهذه الرسالة الضخمة رجلها الضّخم، والعظائم كفؤها العظماء!.
(1) حديث صحيح، والبخاري إنما خرجه: 7/ 114- 115، معلّقا، فكان يحسن تقييد العزو إليه بهذا، وقد وصله جماعة ذكرهم الحافظ في الفتح، وفاته أنّ الحاكم وصله أيضا في المستدرك: 3/ 440، وقال:«صحيح على شرط الشيخين» .