الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[محمد صلى الله عليه وسلم يحمل أعباء الدعوة إلى الله]
تقلّصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف محمد عليه الصلاة والسلام معرفة اليقين أنّه أضحى نبيّا لله الكبير المتعال، وأنّ ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء.. إلا أنّ الروعة التي انتابته من هذه الصلة بين إنسان وملك، تركت في نفسه أثرا من الجهد، كأنّما كان يعالج عملا مرهقا صعبا.
ولا عجب! فقد ظلّ يعاني من التنزيل شدّة أمدا طويلا، وشاء الله أن يفتر الوحي بعد ابتدائه على النحو الذي أسلفنا، حتى يكون تشوّف الرسول صلى الله عليه وسلم، وارتقابه لمجيئه؛ سببا في ثباته واحتماله عند ما يعود، ومع ذلك فإنّ الطاقة البشرية ناءت أمام وطأته.
جاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي، فقال لي في حديثه: «فبينا أنا أمشي، سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسيّ بين السماء والأرض، ففزعت منه حتى هويت على الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني
…
» . فأنزل الله عز وجل:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)[المدثر]«1» .
كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة إيذانا للرسول صلى الله عليه وسلم بأنّ الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه وسلامه، وأنّه أمام عمل جديد يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقو على عنائه، فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته.
والوحي إلهام ينضح على القلب بمراد الله في صورة واضحة لا تحتمل الريبة، وله مراتب شتّى بعضها أيسر من بعض؛ فعن عمر رضي الله عنه: «كان
(1) أخرجه البخاري: 8/ 549- 551؛ ومسلم: 1/ 98.
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، يسمع عند وجهه دويّ كدوي النحل» «1» .
وكان أحيانا يأتي في مثل صلصة الجرس- وكان أشدّه عليه- فيلتبس به الملك، حتى إنّ جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد «2» ، وحتى إنّ راحلته لتبرك به على الأرض إذا كان راكبها «3» ، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه إلى فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضّها «4» ، وقد يأتي أيسر من ذلك وأخفّ.
وربما قيل: لماذا كانت أوائل الوحي بهذه المثابة من الشدة؟ ولماذا لم يبدأ نزول القران إلهاما في منام، أو إلهاما في يقظة على نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب
…
» «5» ؟ أو ليس هذا أبعد عن دواعي الفزع والإعياء؟.
(1) حديث ضعيف أخرجه الترمذي: 2/ 151- 152، وذكر أن في سنده اختلافا. ومداره على يونس بن سليم، رواه عنه عبد الرزاق، ويونس هذا مجهول، ومن طريقه أخرجه أحمد، رقم (223) ؛ والحاكم: 1/ 535 و 2/ 392؛ والنسائي «كما نقلوا عنه، وقال: هذا حديث منكر لا نعلم أحدا رواه غير يونس، ويونس لا نعرفه» ، وقال الحاكم:«صحيح الإسناد» وهذا من تساهله، وأما الذهبي فتناقض، فإنه في الموضع الأول وافق الحاكم على تصحيحه، واغترّ بذلك الشيخ أحمد شاكر، وأما في الموضع الاخر فقد تعقّبه بقوله: قلت: «سئل عبد الرزاق عن شيخه ذا، فقال: أظنه لا شيء» ، وفي (الميزان) أقرّ النسائي على قوله:«هذا حديث منكر» ، وتوثيق ابن حبان لابن سليم هذا، مما لا يعتدّ به، لا سيما وتلميذه عبد الرزاق أدرى به من ابن حبان.
(2)
روى معنى هذا البخاري: 1/ 14- 17، من حديث عائشة.
(3)
أخرج معناه أحمد والحاكم: 2/ 505، من حديث عائشة، وقال الحاكم:«صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وله شاهد من حديث أسماء بنت يزيد عند أحمد: 6/ 455- 458؛ واخر عنده، رقم (6643) من حديث ابن عمرو.
(4)
أخرجه البخاري: 5/ 182، من حديث زيد بن ثابت.
(5)
حديث صحيح جاء من طرق: الأول: عن ابن مسعود، أخرجه الحاكم (2/ 4) . الثاني: عن أبي أمامة، أخرجه الطبراني في الكبير؛ وأبو نعيم في (حلية الأولياء) : 10/ 28. الثالث: عن حذيفة، أخرجه البزار كما في (الترغيب) : 3/ 7؛ والهيثمي في (مجمع الزوائد) : 4/ 71. -
والجواب: أن نزول القران اتخذ هذه الطريقة أول الأمر، ونزل الملك به في هذا المظهر «1» ؛ قطعا لكل شبهة، في أنه ألفاظ ومعاني من عند الله، وأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم حمّله تحميلا بعد أن اصطفي له، واختصّ به، فهو ليس افتعال عابد منقطع تخيّل فخال، ولا صناعة فيلسوف ماهر يجيد سوق الأدلة، وتنميق المقال، إنما هو كلام الأحد، الحق الكبير المتعال:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12)[النجم] .
- فهذه طرق يقوّي بعضها بعضا، ولهذا- والله أعلم- جزم ابن القيم في (زاد المعاد) بنسبة الحديث إليه صلى الله عليه وسلم.
(1)
إن اتصال الأبدان بعالم الغيب يرهق الطبيعة البشرية، واعتبر لذلك بما يعانيه الوسطاء مثلا في حالات التنويم المغناطيسي مع بعد الفارق.