الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على حين كان الجيش الزاحف يتقدّم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشّع لله، لقد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجمّ، حتى كاد عثنونه «1» يمسّ واسطة الرحل «2» .
إنّ الموكب الفخم المهيب الذي ينساب به حثيثا إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحفّ به ينتظر إشارة منه، فلا يبقى بمكة شيء امن، إنّ هذا الفتح المبين ليذكّره بماض طويل الفصول كيف خرج مطاردا؟ وكيف يعود اليوم منصورا مؤيدا..! وأيّ كرامة عظمى حفّه الله بها في هذا الصباح الميمون! وكلّما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعا وانحناء ويبدو أنّ هناك عواطف أخرى كانت تجيش في بعض الصدور.
فإنّ (سعد بن عبادة) زعيم الخزرج ذكر ما فعل أهل مكة، وما فرّطوا في جنب الله، ثم شعر بزمام القوة في يده فصاح: اليوم يوم الملحمة.. اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا.
وبلغت هذه الكلمة مسامع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «بل اليوم يوم تعظّم فيه الكعبة «3» . اليوم يوم أعزّ الله فيه قريشا» ، وأمر أن ينزع اللواء من سعد، ويدفع إلى ابنه مخافة أن تكون لسعد صولة في الناس.
[دخول جيش المسلمين مكة] :
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة من أعلاها «4» . وأمر قادة جيشه ألا يقاتلوا
(1) ما فضل من اللحية بعد العارضين. (ن) .
(2)
ضعيف؛ رواه ابن هشام: 2/ 269، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر مرسلا. ووصله الحاكم: 3/ 47، وكذا أبو يعلى من حديث أنس بنحوه. وقال الحاكم:«صحيح على شرط مسلم» ، وأقرّه الذهبي! وهو من أوهامهما؛ فإنّ في سنده عبد الله بن أبي بكر المقدمي وهو ضعيف، كما قال ابن عدي، ثم ساق له هذا الحديث كما في الميزان، وهذا المقدمي غير عبد الله بن أبي بكر شيخ ابن إسحاق؛ فإن هذا متأخّر من طبقة الإمام أحمد؛ وذاك تابعي صغير، يروي عن أنس رضي الله عنه وهو ثقة.
(3)
ضعيف، أخرجه البخاري وغيره من حديث عروة مرسلا؛ وقد سبق تخريجه قريبا؛ وأمّا باقي الحديث فقد رواه يحيى بن سعيد الأموي، كما في (شرح المواهب) للزرقاني: 2/ 306، ولم يتكلم على سنده بشيء ولا ساقه لينظر فيه؛ وقد أشار ابن كثير في (البداية: 4/ 295) ، لضعفه.
(4)
صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 14- 15، عن ابن عمر وعائشة.
إلا من قاتلهم «1» فدخلت سائر الفرق من أنحاء مكة الاخرى.
ودخل (خالد بن الوليد) من أسفل مكة. وكان هناك نفر من قريش غاظهم هذا التسليم، فتجمّعوا عند (الخندمة) يقودهم (عكرمة بن أبي جهل) و (سهيل بن عمرو) و (صفوان بن أمية) ، إلا أنّ الحقيقة الكبيرة صدمت غرورهم فبددته، فإن خالدا حصدهم حصدا، حتى لاذ القوم بالفرار، ومن طريف ما وقع أنّ (حماس بن خالد) من قبيلة بني بكر، كان قد أعدّ سلاحا لمقاتلة المسلمين، وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله: لماذا تعدّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، وقالت امرأته له يوما: والله ما أرى أنّه يقوم لمحمد وصحبه شيء! فقال: إنّي والله لأرجو أن أخدمك بعضهم
…
ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما علي علّه
…
هذا سلاح كامل وألّه «2»
وذو غرارين سريع السّله
فلما جاء يوم الفتح ناوش حماس هذا شيئا من قتال مع رجال عكرمة.
ثم أحسّ بالمشركين يتطايرون من حوله أمام جيش خالد، فخرج منهزما حتى بلغ بيته فقال لامرأته: أغلقي عليّ الباب..!.
فقالت المرأة لفارسها المعلم: فأين ما كنت تقول؟ فقال- يعتذر- لها:
إنّك لو شهدت يوم الخندمه
…
إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه
وأبو يزيد قائم كالمؤتمه «3»
…
واستقبلتهم بالسيوف المسلمه
يقطعن كلّ ساعد وجمجمه
…
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت «4» خلفنا وهمهمه
…
لم تنطقي باللّوم أدنى كلمه!!
وسكنت مكة، واستسلم سادتها وأتباعها، وعلت كلمة الله في جنباتها، ثم نهض رسول الله إلى البيت العتيق فطوّف به، وأخذ يكسّر الأصنام المصفوفة حوله، ويضربها بقوسه ظهرا لبطن، فتقع على الأرض مهشمة متناثرة.
كانت هذه الحجارة- قبل ساعة- الهة مقدسة، وهي- الان- جصّ وتراب
(1) ذكره ابن هشام: 3/ 273، عن ابن إسحاق بدون إسناد.
(2)
ألّة: حربة.
(3)
المؤتمة: الأسطوانة، وأبو يزيد: سهيل بن عمر.
(4)
النهيت: صوت الصدر.