الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إظهار الدعوة
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت الاية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)[الشعراء] ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصّفا، فجعل ينادي:«يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الذي لم يستطع أن يخرج، يرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟» قالوا: ما جرّبنا عليك كذبا.
قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد!!» ، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
…
[المسد]«1» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنزل الله عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)[الشعراء] فقال: «يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا» «2» .
هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد فاصل الرسول عليه الصلاة والسلام قومه على دعوته، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التّصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبيّة القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الاتي من عند الله.
لقد كان محمد عليه الصلاة والسلام كبير المنزلة في بلده، مرموقا بالثقة
(1) حديث صحيح أخرجه البخاري: 8/ 406- 408، 509- 510؛ ومسلم 1/ 134.
(2)
حديث صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 408؛ ومسلم 1/ 133، من طريقين عن أبي هريرة.
والمحبة، وها هو ذا يواجه مكة بما تكره، ويتعرّض لخصام السفهاء والكبراء، وأول قوم يغامر بخسران مودّتهم هم عشيرته الأقربون، لكنّ هذه الالام تهون في سبيل الحق الذي شرح الله به صدره، فلا عليه أن يبيت بعد هذا الإنذار ومكة تموج بالغرابة والاستنكار، وتستعدّ لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة، وتخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها.
وبدأت قريش تسير في طريقها، طريق اللّدد، ومجانبة الصواب، ومضى محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في طريقه، يدعو إلى الله، ويتلطّف في عرض الإسلام، ويكشف النقاب عن مخازي الوثنية، ويسمع ويجيب، ويهاجم ويدافع.. غير أن حرصه على هداية اله الأقربين، جعله يجدّد مسعاه محاولا عرض الإسلام عليهم مرة أخرى، فإنّ منزلتهم الكبيرة في العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج.
وهم- قبل ذلك- أهله الذين يودّ لهم الخير، ويكره لهم الوقوع في مساخط الله.
روى ابن الأثير: قال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم «1» : لما أنزل الله على رسوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)[الشعراء] ، اشتد ذلك عليه، وضاق به ذرعا، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عمّاته يعدنه، فقال:«ما اشتكيت شيئا، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي» . فقلن له: فادعهم، ولا تدع أبا لهب فيهم، فإنه غير مجيبك، فدعاهم، فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا، فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصّباة! واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة! وأنا أحق من أخذك! فحسبك بنو أبيك. وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدّهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشرّ مما جئتهم به.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلّم في ذلك المجلس، ثم دعاهم ثانية، وقال: «الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد ألاإله إلا الله
(1) لم أجد في الرواة هذا الراوي، وإنما فيهم «جعفر بن عبد الله بن الحكم» وهو أنصاري أوسي تابعي صغير، يروي عن أنس والتابعين، فإذا كان هو هذا، فالإسناد مرسل ضعيف، ولم أقف على إسناده إليه، وإن كان غيره فلم أعرفه.
واحده لا شريك له» . ثم قال: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنها للجنة أبدا، أو النار أبدا» .
فقال أبو طالب: ما أحبّ إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشدّ تصديقنا لحديثك!! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمرت به، فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك؛ غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
فقال أبو لهب: هذه والله السّوءة!! خذوا على يديه قبل أن يأخذكم غيركم.
فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا.