الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)[الأنفال] .
والذين كرهوا لقاء قريش ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنّهم لم يعرفوا الحكمة في خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغي لها من عدة وعدد، بيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد الإقدام خيرا من الإحجام، ومن ثمّ قرر أن يمضي، فإنّ الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو.
وقد اختفت- على عجل- مشاعر التردّد، وانطلق الجميع خفافا إلى غايتهم.
والمسير بإزاء طريق القوافل إلى (بدر) ليس سفرا قاصدا، أو نزهة لطيفة، فالمسافة بين (المدينة) و (بدر) تربو على (160) كيلو مترا، ولم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه غير سبعين بعيرا يعتقبونها.
روى أحمد «1» عن عبد الله بن مسعود، قال:«كنّا يوم بدر، كلّ ثلاثة على بعير- أيّ يتعاقبون-. وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له: نحن نمشي عنك- ليظلّ راكبا- فقال: «ما أنتما بأقوى منّي على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» !!.
وبثّ المسلمون عيونهم يتعرّفون أخبار قريش: أين القافلة، وأين الرجال الذين قدموا لحمايتها؟.
[فرار أبي سفيان بالقافلة، واستصراخه أهل مكة] :
حين أحسّ أبو سفيان الخطر على قافلته، بعث (ضمضم بن عمرو الغفاري) إلى مكة يستصرخ أهلها، حتى يسارعوا إلى استنقاذ أموالهم.
واستطاع (ضمضم) هذا إزعاج البلدة قاطبة؛ فقد وقف على بعيره بعد أن جدع أنفه، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، يصيح: يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان عرض لها محمّد وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث!.
(1) في المسند، رقم (3901، 3965)، وسنده حسن؛ وأخرجه الحاكم: 3/ 20، وقال:«حديث صحيح على شرط مسلم» .
فتجهّز الناس جميعا، فهم إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وانطلق سواد مكة وهو يغلي، يمتطي الصعب والذلول، فكانوا تسعمئة وخمسين مقاتلا، معهم مئتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين.
وولوا وجوههم إلى الشمال، ليدركوا القافلة المارّة تجاه يثرب هابطة إليهم.
لكنّ أبا سفيان لم يستنم في انتظار النجدة المقبلة، بل بذل أقصى ما لديه من حذر ودهاء لمخاتلة المسلمين، والإفلات من قبضتهم، وقد كاد يسقط بالعير جمعاء في أيديهم وهم يشتدون في مسيرهم نحو بدر، غير أنّ الحظّ أسعفه!.
روي أنه لقي مجديّ بن عمرو فسأله: هل أحسست أحدا؟ فقال: ما رأيت أحدا أنكره؛ إلا أنّي رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما، وتناول بعرات من فضلات الراحلتين، ثم فتّها فإذا النوى، فقال: هذه- والله- علائف يثرب! وأدرك أنّ الرجلين من أصحاب محمّد، وأنّ جيشه هنا قريب.
فرجع إلى العير يضرب وجهها عن الطريق شاردا نحو الساحل، تاركا بدرا إلى يساره
…
فنجا.
ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة، فأرسل إلى قريش يقول: إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجّاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل:
والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا.
وهذا الذي عالن به أبو جهل هو ما كان يحاذره الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن تدعيم مكانة قريش، وامتداد سطوتها في هذه البقاع- بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت- يعتبر كارثة للإسلام ووقفا لنفوذه، وهل كانت السرايا تخرج من المدينة إلا لإعلاء كلمة الله، وتوهين كلمة الشرك، وإظهار عبدة الأصنام بمظهر الذي لا يملك نفعا ولا ضرا؟.
لذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم لفرار القافلة التفاته لضرورة التجول المسلح في هذه الأنحاء، إبرازا لهذه المعاني القوية، وتمكينا لصداها في القلوب.