الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحكمة- أو قل: القوّة والسياسة- لمحمد بن عبد الله، فعالج بها الاثام الجاثمة على صدر الأرض، فما استعصى على الأناة والحلم استكان للتأديب والحكم.
وبهذا المنهج الجامع بين العدل والرحمة أخذت رقعة الباطل تنكمش رويدا رويدا حتى اختفت الجاهلية ولوثاتها، وثبت الإسلام، ثم أصاخ العرب- بعد ما لان قيادهم- إلى صوت الحقّ الأخير في حجة الوداع.
وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله عز وجل:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
…
[المائدة: 3] .
وعند ما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنّه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنّه استشعر وفاة النبيّ صلوات الله عليه وسلامه.
والحقّ أن مشاعر التوديع للحياة والأحياء كانت تنضح بها بعض العبارات التي ترد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، منها ما سبق ذكره في خطبته بالموسم، ومنها ما يقع في أثناء تعليمه الوفود المحتشدة حوله، كقوله عند جمرة العقبة:«خذوا عنّي مناسككم فلعلّي لا أحجّ بعد عامي هذا» «1» .
إلى المدينة:
فلما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم مناسكه حثّ الرّكاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظّا من الراحة، بل ليستأنف حياة الكفاح والكدح لله.
إنّ المبطلين لا يدعون لأهل الحقّ مهلة يستجمّون فيها.
وأصحاب الرسالات أنفسهم لا يستعيدون نشاطهم في القعود عن العمل، بل يستمدّون الطاقة على العمل من الشعور بالواجب.
وراحتهم الكاملة يوم يرون بواكير نجاحه دانية القطاف.
قفل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعبّئ جيشا اخر يقاتل به الروم.
فإنّ كبرياء هذه الدولة على الإسلام، جعلتها تأبى عليه حقّ الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه.
(1) صحيح، رواه مسلم وغيره من حديث جابر المشار إليه انفا.
كان (فروة بن عمر الجذامي) واليا من قبل الروم على (معان) وما حولها من أرض الشام، فاعتنق الإسلام، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك.
وغضب الرومان، فجرّدوا على (فروة) حملة جاءت به، وألقي في السجن حتى صدر الحكم بقتله، فضربت عنقه على ماء لهم يقال له:(عفراء) بفلسطين، وترك مصلوبا ليرهب غيره أن يسلك مسلكه! وقيل: إنّه لما قدّم للقتل قال:
بلّغ سراة المسلمين بأنّني
…
سلم لربّي، أعظمي ودمائي
فأعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا كبيرا، وأمّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة.
وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبنّ أحد أنّ بطش الكنيسة لا معقّب له، وأنّ الدخول في الإسلام يجرّ على أصحابه الحتوف فحسب.
ولمّا كان (أسامة) شابا لا يتجاوز الثمانية عشر، فإنّ بعض الناس ساءتهم هذه الإمارة، واعترضوا أن يقود الرجال الكبار شابّ حدث.
ولا شكّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يلتفت في ولايته إلا إلى الجدارة.
فمن استحقّ منصبا بكفايته قدّمه له، غير مكترث بحداثة سنه.
فإنّ كبر السّنّ لا يهب للأغبياء عقلا، ولا الصغر ينقص الأتقياء فضلا:
فما الحداثة عن حلم بمانعة
…
قد يوجد الحلم في الشّبان والشّيب
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردا على اعتراض الناقدين-: «لئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإنّ ابنه من بعده لخليقا بها، وإن كان لمن أحبّ النّاس إليّ» «1» .
وانتدب الناس يلتفون حول (أسامة) وينتظمون في جيشه.
إلّا أنّ الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريّث حتى يعرفوا ما يقضي به الله
…
(1) صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 124، عن عبد الله بن عمر، وصحّحه الترمذي: 4/ 350.