الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا أزال أجاهد على الّذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» .
يعني: الموت- «1» .
[عدم الرغبة في القتال] :
ومضيّا مع الرغبة عن القتال، وتخليصا للنسك المقصود من شائبة تحدّ سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام:«من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم الّتي هم بها؟» «2» .
فجاء رجل من أسلم، فسلك بهم طريقا وعرا أجرد شقّ على المسلمين اجتيازه، ثم أفضى بهم إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، انثنى المسلمون عندها يمينا ليهبطوا عند الحديبية أسفل مكة!.
ولم تخف هذه الحركة عن فرسان قريش، فتراكضوا راجعين إلى مكة كي يحولوا بين المسلمين ودخولها.
[مفاوضات] :
ومضى النبي عليه الصلاة والسلام بأصحابه في وجهتهم المحددة، فإذا بناقته تبرك ولا تجاوز مكانها! ودهش النّاس لما عراها فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة! لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرّحم إلا أعطيتهم إيّاها» ، ثم أمر الناس أن يحلّوا حيث انتهى بالناقة المسير «3» .
ونزل المسلمون كما أمروا، ينتظرون من الغد القريب أن تفتح لهم أبواب مكة فيطوفوا ويسعوا، ثم يعودوا وافرين رابحين، إنّهم واثقون من إدراك بغيتهم،
(1) حديث صحيح، أخرجه ابن إسحاق بسند صحيح، عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، ومن طريقه أخرجه أحمد: 4/ 323- 326؛ وابن هشام: 2/ 226، وهو قطعة من حديث طويل في صلح الحديبية؛ وقد أخرجه البخاري: 5/ 351- 371؛ وأحمد: 4/ 328- 331، من طريق أخرى عنهما بطوله. لكن عند البخاري وكذا أحمد: أنّ هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد قصة الناقة الاتية عند مجيء بديل بن ورقاء إليه صلى الله عليه وسلم وإخباره إياه أنه لم يأت لحرب، وهذا صحّ قطعا من رواية ابن إسحاق.
(2)
حديث صحيح، رواه ابن إسحاق في حديث الحديبية المشار إليه انفا.
(3)
حديث صحيح من حديث الحديبية عند البخاري وغيره.
ولماذا يشكّون، وقد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريات كثيرة بأنهم سيدخلون المسجد الحرام امنين، محلّقين رؤوسهم ومقصّرين؟.
أما قريش فقد ذعرت لهذا الزحف المباغت، وفكّرت جادّة في إبعاده عن مكة مهما كلّفها من مغارم، وذلك أنّها نظرت إلى الأمر من زاوية ضيقة، فرأت أنّ مهابتها ستنزع من أفئدة الناس قاطبة إذا دخل المسلمون بلدهم على هذا النحو بعد ما وقع من حروب طاحنة.
غير أنّ قريشا تعرف حروجة موقفها إن نشب قتال جديد.
فحجّتها فيه أمام نفسها وأمام أحلافها داحضة، وقد ينتهي بكارثة تودي بكيانها كلّه، ولهذا سيّرت الوسطاء يفاوضون محمّدا صلى الله عليه وسلم، علّهم ينتهون معه إلى مخلص من هذه الورطة!!.
وكان أول من جاءه (بديل بن ورقاء) في رجال من خزاعة، فكلّموه وسألوه: ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظّما حرمته.
فرجعوا إلى قريش يقولون: يا معشر قريش! إنّكم تعجلون على محمد، إن محمدا لم يأت لقتال، وإنّما جاء زائرا لهذا البيت. فاتّهموهم وجبّهوهم، وقالوا:
وإن كان جاء لا يريد قتالا
…
فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدّث بذلك عنا العرب؟.
ثم بعثت قريش (مكرز بن حفص) فعاد بما عاد به بديل الخزاعي.
ثم بعثوا سيّد الأحابيش (الحليس بن علقمة) فلمّا راه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إنّ هذا من قوم يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتّى يراه» «1» .
فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي، عاد إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما شاهد، فقال لهم ذلك، فأجابوه: اجلس إنّما أنت أعرابيّ لا علم لك، فاستشاط الحليس وصاح: يا معشر قريش! والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاء معظّما له؟ والذي نفس الحليس بيده، لتخلّنّ بين محمّد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.. فقالوا: مه، كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
(1) حديث صحيح، رواه ابن إسحاق في حديث الحديبية.
ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (عروة بن مسعود)، وكره عروة أن يعود من مفاوضة المسلمين فيسمعه رجال قريش ما يسوءه فقال: يا معشر قريش! إنّي قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنّكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى اسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتّهم.
فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس بين يديه، ثم قال: يا محمد! أجمعت أوشاب الناس، ثم جئت إلى بيضتك لتفضّها- إلى قومك لتجتاحهم-؟ إنّها قريش خرجت معها العوذ المطافيل- يقصد النساء والأطفال- قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وايم الله، لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا!!.
وكان أبو بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فلمّا وصل في حديثه إلى التعريض بالمسلمين قال له هازئا: امصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه؟!.
فقال عروة: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أبي قحافة» ! فردّ عروة على أبي بكر يقول: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بهذه.
وعاود عروة حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يتناول لحيته وهو يكلّمه- كأنّه ينبهه إلى خطورة ما سيقع بقومه- إلا أنّ المغيرة بن شعبة كان يقرع يده كلّما فعل ذلك، وهو يقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل ألاتصل إليك، فقال عروة له: ويحك ما أفظّك وأغلظك!! ثم سأل النبيّ: من هذا يا محمد؟.
فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة!!» فقال عروة للمغيرة: أي غدر، هل غسلت سوءتك إلا بالأمس «1» ؟!.
وقد ردّ النبيّ عليه الصلاة والسلام على عروة بما يقطع اللجاجة وينفي الشبهة: (إنّه لا يبغي حربا، وإنما يريد أن يزور البيت كما يزوره غيره، فلا يلقى صادّا ولا رادّا) .
ورجع عروة ينوّه بإجلال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إني والله ما رأيت ملكا في قومه قطّ مثل محمد في أصحابه، لقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فروا رأيكم «2» .
(1) كان المغيرة قبل إسلامه داهية فاتكا، قتل نفرا، فوداهم عروة إطفاء للفتنة.
(2)
هذا كله من تمام قصة الحديبية عند ابن إسحاق. وهو عند البخاري بنحوه.