الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [ال عمران: 179] .
فالجبن والنكوص هما اللذان كشفا عن طوية المنافقين، فافتضحوا أمام أنفسهم وأمام الناس قبل أن تعلن عن نفاقهم السماء.
فإذا تجاوزت السفوح التي يدبّ عليها أولئك المنافقون، وثبت إلى ذرا شامخة للإيمان البعيد الغور، النقيّ العنصر، يتمثل في مرحلة الهجوم المظفر الذي ابتدأ به القتال، ثم في مرحلة الدفاع النبيل الهائل الذي حمل المسلمون عبئه عند ما ارتدت الكرة للمشركين، ورجحت كفتهم.
إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم، ويوجّهون زمامه بعزماتهم؛ هم الذين صلوا هذه الحرب، وحافظوا بها مصير الإسلام في الأرض.
روي أن (خيثمة) قتل ابنه في معركة بدر فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت- والله- عليها حريصا حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج- في القرعة- سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا!!.
ثم قال: وقد أصبحت يا رسول الله مشتاقا إلى مرافقته، وقد كبرت سنّي، ورقّ عظمي، وأحببت لقاء ربّي؛ فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة ابني خيثمة في الجنة، فدعا رسول الله عليه الصلاة والسلام له، فقتل ب (أحد) شهيدا «1» .
[من بطولات الصحابة وتضحياتهم] :
وكان (عمرو بن الجموح) أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توجّه إلى (أحد) أراد أن يخرج معه، فقال له بنوه: إنّ الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد.
فأتى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّ بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أجاهد معك،
(1) لم أقف عليه الان.
وو الله إنّي لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة!! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أمّا أنت فقد وضع الله عنك الجهاد» . وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه لعلّ الله عز وجل أن يرزقه الشهادة» ، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل يوم أحد شهيدا «1» .
وقال نعيم «2» بن مالك: يا نبيّ الله لا تحرمنا الجنّة- وذلك قبل نشوب القتال- فو الذي نفسي بيده لأدخلنها!! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بم؟» قال: بأنّي أحبّ الله ورسوله، ولا أفرّ يوم الزّحف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صدقت» واستشهد يومئذ.
وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إنّي أقسم عليك أن ألقى العدوّ غدا فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: فيم ذلك؟ فأقول: فيك «3» !.
هذه صورة للرجولة الفارعة التي اصطدم بها الكفر أول المعركة واخرها، فماد أمامها، واضطربت من تحت أقدامه الأرض، فما ربح شيئا في بداية القتال، ولا انتفع بما ربح اخره.
وهذا اللون من البطولة مدفون تحت جدران التاريخ الإسلامي القائم إلى اليوم، وما يقوم للإسلام صرح، ولا ينكفّ عنه طغيان إلا بهذه القوى المذخورة المضغوطة في أفئدة الصدّيقين والشهداء.
(1) رواه ابن هشام: 2/ 139، عن ابن إسحاق، قال: وحدثني أبي إسحاق بن يسار عن أشياخ من بني سلمة به، وهذا سند حسن إن كان الأشياخ من الصحابة، وإلا فهو مرسل. وبعضه في المسند: 5/ 299، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وزاد: فقتلوا يوم أحد، هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«كأنّي أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة» . وسنده صحيح.
(2)
الصواب (النعمان بن مالك) ، وفي ترجمته أورد هذا الحديث الحافظ في (الإصابة) من طريق السدي. فهو مرسل.
(3)
أخرج هذا الأثر الحاكم: 3/ 199- 200، من طريق سعيد بن المسيّب: قال: قال عبد الله بن جحش
…
وقال: «صحيح على شرط الشيخين، لولا إرسال فيه» ووافقه الذهبي. قلت: لكن له شاهد موصول أخرجه البغوي كما في (الإصابة) من طريق إسحاق بن سعد بن أبي وقاص: حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال
…
فذكره بنحوه وزاد في اخره: قال سعد: «فلقد رأيته اخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط» .