الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم هاجت في نفوس المسلمين مرة أخرى خيبة الأمل، لقد حدّثوا أنهم داخلون في المسجد الحرام، وها هم أولاء قد ارتدوا عنه، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن أنهم عائدون إلى دخوله كما وعدوا، فهو لم يذكر لهم أنّهم سيطوفون به هذا العام.
وعرا المسلمين وجوم ثقيل لهذه النهاية الكئيبة، وزاغت نظراتهم لما ركبهم من الحرج المفاجئ، فلمّا فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب، قال لهم:«قوموا فانحروا ثمّ احلقوا» - ليتحللوا من عمرتهم، ويعودوا إلى المدينة- فلم يقم منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات! فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من النّاس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحبّ ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلّم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج، فلم يكلّم أحدا منهم حتى فعل ذلك.
فلمّا رأى المسلمون ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم زاح عنهم الذهول، وأحسوا خطر المعصية لأمره، فقاموا- عجلين- ينحرون هداهم، ويحلق بعضهم بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل الاخر لفرط الغمّ «1» .
[أحداث ما بعد الحديبية] :
ليت نيات الخير والشر تؤتي ثمارها الحلوة والمرة بالسرعة التي ظهرت في عهد الحديبية الانف، إنّه لم تمر أيام طوال على إبرامه حتى كان تشدد المشركين فيه وبالا عليهم، فأخذوا يتشكون من النصوص التي فرضوها أو فرضتها حميتهم الغليظة.
ونظر المسلمون كذلك مبهورين إلى عواقب التسامح البعيد الذي أبداه النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوا من بركاته ما ألهج ألسنتهم بالحمد!.
لقد انفرط عقد الكفار في الجزيرة منذ تمّ هذا العقد، فإنّ قريشا كانت تعتبر رأس الكفر وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعند ما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها، وتبعثرت القبائل الوثنية في أنحاء الجزيرة؛ وخصوصا لأنّ قريشا جمدت على سياستها النفعية واهتمت
(1) صحيح، وهو من تمام قصة الحديبية عند البخاري وأحمد.
بشؤونها التجارية، فلم تجتهد في ضمّ أحلاف لها، في الوقت الذي اتسع فيه نشاط المسلمين الثقافي والسياسي والعسكري، ونجحت دعايتهم في تألف قبائل غفيرة، وإدخالها في الإسلام.
وكثيرون من المؤرّخين يعدّ صلح الحديبية فتحا، بل إنّ الزهري يقول فيه:
ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، لم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تيناك السنتين- بعد الحديبية- مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئة، ثم خرج عام فتح مكة- بعد ذلك بسنتين- في عشرة الاف.
أما المسلمون المعذّبون في مكة، فقد فرّ منهم أبو بصير عبيد بن أسيد، وهاجر إلى المدينة يبغي المقام فيها مع المسلمين، فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها يرجعان به إليها تنفيذا لنصوص المعاهدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بصير! إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر! وإنّ الله جاعل لك ومن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك» . وحزن أبو بصير، وقال: يا رسول الله! أتردني إلى المشركين ليفتنونني في ديني؟ فلم يزد النبي عن تكرار رجائه في الفرج القريب. ثم أرسل أبا بصير مع القرشيّين، ليعودوا جميعا إلى مكة «1» .
ورفض أبو بصير أن يستسلم لهذا المصير، فاحتال أثناء الطريق على سيف أحد الحارسين، وقتله به، ففرّ الاخر مذعورا، وقفل راجعا إلى المدينة يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وقع لصاحبه، وإذا أبو بصير يطلع متوشّحا السيف، يقول: يا رسول الله! وفّت ذمتك، وأدّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي.
(1) رواه ابن إسحاق بدون إسناد، وعنه ابن هشام: 2/ 223؛ وقد أخرجه البخاري مختصرا على قوله: فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا:«العهد الذي جعلت لنا» ، فدفعه إلى الرجلين.
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ويل أمّه، مسعر حرب لو كان معه رجال» «1» .
وأدرك أبو بصير أنّه لا مقام له في المدينة، ولا مأمن له في مكة، فانطلق إلى ساحل البحر، في ناحية تدعى العيص، وشرع يهدّد قوافل قريش المارة بطريق الساحل، وسمع المسلمون بمكة عن مقامه، وعن كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:«مسعر حرب لو كان معه رجال» . فتلاحقوا بأبي بصير، يشدّون أزره، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين ثائرا، فيهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو.
وألّف أولئك المعذّبون الناقمون جيشا، ضيّق الخناق على قريش، فلا يظفر بأحد منهم إلا قتله، ولا تمرّ بهم عير إلا اقتطعوها.
وإذا قريش ترسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده الرّحم أن يؤوي إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم.
وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتا، وقبله المسلمون كارهين.
وقصة أبي بصير وأبي جندل وإخوانهما لها دلالة مثيرة، فهي قصة العقيدة المكافحة في لؤم من الأعداء، ووحشة من الأصحاب! وهي توضّح أنّ الإيمان بالله أخذ طريقه إلى قلوب أولئك النفر مجرّدا من كل شيء إلا سلامة جوهره.
إنّهم قد فقدوا الأمداد الروحية التي تجيئهم من مخالطة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإصغاء إليه، وهو يتلو وينصح، بيد أنهم عوّضوا عنها من الاتصال بكتابه والاقتباس من ادابه، فكانوا- في اهتدائهم للحق، وإبائهم للضيم، وإيثارهم للمغامرة- مثلا حسنى للإسلام المكافح العزيز.
ولم يعد أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الإذن بالمقام معه جاء وهو يحتضر، وروى موسى بن عقبة أنّ رجال أبي بصير صادروا قافلة كان فيها أبو العاص بن الربيع صهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو لما يدخل الإسلام بعد- وأسروا من فيها ما عدا أبا العاص- لمكانته- فذهب أبو العاص إلى زينب امرأته، وشكا لها ما وقع لأصحابه، وما ضاع لهم من أموال، وحدّثت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب النّاس قائلا: «إنّا صاهرنا أناسا، وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصّهر وجدناه، وإنّه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو
(1) صحيح: وهو من تمام القصة عند البخاري وأحمد.
جندل وأبو بصير، وأخذوا ما كان معهم؛ وإنّ زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟» فقال المسلمون: نعم «1» .
وبلغ هذا الحوار أبا جندل، فأفرجوا عن الأسرى، وردّوا عليهم كلّ شيء أخذ منهم حتى العقال.
ثم جاء كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير ليترك مكانه، ويرجع حيث يحبّ، وكان أبو بصير يجود بأنفاسه الأخيرة، فمات والكتاب على صدره، ودفنه أبو جندل. أمّا أبو العاص بن الربيع فارتحل ببضائع قريش حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس أموالهم حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم أردّه عليه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، قد وجدناك وفيا كريما.
قال: والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بأموالكم، فإنّي أشهد ألاإله إلا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله.
وعاد إلى المدينة، فردّ عليه رسول الله امرأته زينب «2» ، وكان اختلاف الدين قد فرّق بينهما، ولم ينشئ في ذلك عقدا جديدا.
وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردّوا النسوة المهاجرات بدينهنّ إلى أوليائهنّ، إما لأنّهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهنّ لا يستطعن مضطربا في الأرض وردّا للكيد، كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما.
(1) لا يصحّ، لأن ابن عقبة رواه عن الزهري مرسلا. كما في (الفتح) : 5/ 369؛ و (الاستيعاب) لابن عبد البر في ترجمة أبي بصير، غير أنّ ابن إسحاق أخرج القصة بسياق اخر، ومن طريقه أخرجه ابن هشام في (السيرة) : 2/ 82- 83، مرسلا، وقد وصله الحاكم في (المستدرك) : 3/ 236- 237، من حديث عائشة وإسناده جيد، فالأولى الاعتماد على هذا السياق دون ما في الكتاب. وله شاهد من حديث أم سلمة عند البيهقي في سننه: 9/ 95.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 1/ 250؛ والترمذي (196) ؛ والحاكم: 3/ 237؛ وأحمد، رقم (1876، 2366، 3290) ؛ وابن هشام في السيرة: 2/ 83، من حديث ابن عباس. وإسناده جيد، وقال الترمذي:«ليس به بأس» ، وصحّحه أحمد.
وأيّا ما كان الأمر؛ فإنّ احتجاز من أسلم من النساء تمّ بتعليم القران، وكلف المسلمون أن يدفعوا لأزواجهنّ المشركين عوضا يستعينون به على زواج اخر إذا لم يشاؤوا الدخول في الإسلام، والعودة إلى أزواجهم الأوليات.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ [الممتحنة: 10] .
والاية تشير- بجانب ما فيها من أحكام- إلى ما كانت تستمتاع به المرأة من استقلال فكريّ، وكيان أدبيّ محترم.
ولو حدث ذلك اليوم لتساءل فريق كبير من المسلمين: من الذي يمتحن؟
أهو رجل أم امرأة، وإن كان رجلا، فهل يكون شابا أو شيخا؟ وهل تمتحن المرأة مباشرة أو من وراء حجاب؟.