الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حج أبي بكر بالناس
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك، فخرج من المدينة يسوق البدن أمامه مولّيا وجهه شطر المسجد الحرام، ونزل الوحي بسورة براءة بعد انصراف أبي بكر ووفد الحجيج، فأشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث بالايات إليه ليقرأها على أهل الموسم كافّة.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل بها عليّ بن أبي طالب قائلا: «لا يؤدّي عنّي إلا رجل من أهل بيتي» «1» ، وذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشّ مع عادة العرب في عهود الدماء والأموال.
ألا ترى أنه قبل هجرته وكل إلى عليّ ردّ الأمانات إلى أهل مكة؟ إنّ أواصر القربى تقتضي التكافل التامّ في هذه الشؤون، فكأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أدّى بيده ما أداه علي رضي الله عنه عنه، وكأنّه قال بلسانه في الموسم ما سيقرؤه عليّ بين الناس.
ورعاية هذا الإفهام ليست فريضة، بل هي من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة حيطة وإعذار.
قال ابن إسحاق: ثم دعا عليّ بن أبي طالب فقال له: «اخرج بهذه القصّة من صدر براءة، وأذّن في النّاس يوم النّحر إذا اجتمعوا بمنى: أنّه لا يدخل الجنّة كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدّته» .
فخرج عليّ يمتطي العضباء- ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدرك أبا بكر بالطريق.
فلما راه أبو بكر سأله: أأمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، ثم مضيا «2» .
(1) حديث حسن، رواه ابن هشام: 2/ 328، عن ابن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي مرسلا، لكن له شواهد يتقوّى بها، ذكرها ابن كثير في تاريخه: 5/ 37- 38.
(2)
حديث حسن، وهو تمام حديث أبي جعفر المتقدم.
أبو بكر- كما كلّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم للناس المناسك، وعليّ يؤذن في الناس بما أمر به، ويقرأ على العرب صدر السورة التي فصلت في أمرهم، وأجهزت على الوثنية في بلادهم.
وكان هناك مؤذّنون اخرون بثّهم أبو بكر في المجامع الكبيرة، يعينون عليا على إبلاغ رسالته، ويصيحون هنا وهناك: لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وعن زيد بن يثيع: سألنا عليا: بأيّ شيء بعثت في الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدّته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر «1» .
وقد تكلّمنا في موضع اخر عن مكانة المعاهدات في الإسلام «2» ، وشرحنا ما تضمنه صدر سورة التوبة من أحكام.
وليعلم من يشاء أنّ تشريع قانون بمحو الوثنية كتشريع قانون بمحو الأمية عمل إنساني نبيل، وأن اعتراضا عليه لا يصدر من رجل يؤثر الخير للأمم، ويتمنّى لها السمو والكرامة!.
وبحسب الإسلام أنّه ظلّ اثنين وعشرين عاما يحارب الخرافة بالتعليم والتربية كلّما أتيحت له فرص لنشر المعرفة وغرس الأدب، وبالقصاص والقتال كلّما وقف في طريقه الجهّال والضلّال يبطلون سعيه أو يصدّون عنه.
وقد منح الإسلام الوثنية أول الأمر حق الحياة، وترك من يرتد عنه يرجع إليها إذا شاء، ولم يفعل ذلك إعزازا لها، إنما هو حسن ظنّ بعقل الإنسان وضميره
…
فقلّ من يسفهون أنفسهم، ويتركون الله العظيم إلى صورة من حجر أو خشب أو طعام.
فلمّا تبين أن الوثنيين يستخفون بكل شيء، وأنهم يستغلون الحق الممنوح لهم في الفتنة والعدوان والقتل
…
لم يبق لتركهم من حكمة.
(1) صحيح، أخرجه أحمد، رقم (594) ؛ والترمذي: 4/ 116، وصحّحه.
(2)
في كتابنا (تأملات في الدين والحياة) .
إنّ الكلب العقور لا يترك طليقا، فإذا أفلت من قيده فأهدر دمه، فمن السّفه اعتبار ما حدث جريمة قتل.
والذين يظنون أو يحلو لهم الظنّ بأنّ الإسلام عند ما طارد الوثنية خنق حريّة الرأي هم أشخاص واهمون أو مغرضون.
وعلى هدى التجارب والمصائب التي عاناها المسلمون طوال اثنين وعشرين عاما تعرف سرّ الغضب الذي اشتغل اخر الأمر، ولم نزل الوحي يعالن المشركين بالقطيعة، ويرفض منهم كلّ اعتذار؟ ثم يسرد ما أسلفوا من سيئات على أنه خليقة فيهم لم ينفكوا عنها يوما، ولا يرجى أن ينفكوا عنها أبدا.
ومن ثمّ فلا مكان لأصنامهم بعد المهلة المضروبة لهم:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)[التوبة] .
ومن قبل هذا النذير المخوف ومن بعده كانت أفواج الوافدين تنطلق صوب المدينة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تخلع رداء الجاهلية، وتدخل في الدين الحق.
وهذه الوفود المقبلة، عرفت- خلال السنين السابقة- طرفا يسيرا عن الإسلام.
فقد شاع في أرجاء الجزيرة كلّها نبأ الرسالة الجديدة، وما تضمنته من عقائد، وما تفرضه على أتباعها من تعاليم.
وتتبع المحبون والمبغضون كفاحها الموصول في طلب الحياة، ومبلغ ما بذلت وبذل أعداؤها حتى انتهت الأمور بهذا الختام المبين.
ونحن نعلم أنّ الحزب الذي يبدأ نشاطه بأنصار قلائل يتضاعف الإقبال عليه عند ما تلمع له وقفات مشرفة، ويتاح له نصر كبير.
فكيف إذا اختفى خصومه وتألّقت نجومه؟.
فلا جرم أنّ المدينة تتدفق عليها سيول الراغبين في اعتناق هذا الدين، أو الراغبين في مسالمته، ورسم سياسة تقوم على التعاون معه.
ولسنا بسبيل إحصاء هذه الوفود القادمة من المشرق والمغرب.
لكنّنا نسوق مثلين لوفدين: أحدهما وثني أقبل يبغي الإسلام، والاخر نصرانيّ جاء يستطلع النبأ، ويفاوض ويعاهد بعد جدال ولجاجة.