المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات - فقه السيرة للغزالي

[محمد الغزالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمة

- ‌حول أحاديث هذا الكتاب

- ‌رسالة وإمام (مدخل إلى السيرة النبوية)

- ‌الوثنيّة تسود الحضارة القديمة

- ‌طبيعة الرّسالة الخاتمة

- ‌العرب حين البعثة

- ‌رسول معلم

- ‌منزلة السنّة من الكتاب الكريم

- ‌النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات

- ‌من الميلاد إلى البعث (العهد المكي)

- ‌[نسب النبي صلى الله عليه وسلم ومولده ورضاعه]

- ‌[نسبه ومكانته في قومه] :

- ‌[قلة ماله عليه الصلاة والسلام] :

- ‌[تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[كيفية استقبال جدّه لمولده] :

- ‌[عرضه على المراضع] :

- ‌شق الصدر

- ‌بحيرا الراهب

- ‌حياة الكدح

- ‌[أهداف التعليم] :

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌قوة ونشاط

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌[الزواج الميمون] :

- ‌الكعبة

- ‌باحثون عن الحقّ

- ‌في غار حراء

- ‌ورقة بن نوفل

- ‌جهاد الدّعوة (في مكة)

- ‌[محمد صلى الله عليه وسلم يحمل أعباء الدعوة إلى الله]

- ‌إلام يدعو الناس

- ‌1- الواحدانية المطلقة:

- ‌2- الدار الاخرة:

- ‌3- تزكية النفس:

- ‌4- حفظ كيان الجماعة المسلمة:

- ‌الرعيل الأوّل

- ‌إظهار الدعوة

- ‌أبو طالب

- ‌الاضطهاد

- ‌عمار بن ياسر رضي الله عنه:

- ‌بلال رضي الله عنه:

- ‌خباب رضي الله عنه:

- ‌مفاوضات

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌[التحذير من الإسرائيليات] :

- ‌[الهجرة الثانية إلى الحبشة] :

- ‌إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما

- ‌المقاطعة العامة

- ‌عام الحزن

- ‌في الطائف

- ‌[في جوار المطعم بن عدي] :

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌[لماذا المسجد الأقصى

- ‌حكمة الإسراء:

- ‌إكمال البناء:

- ‌سلامة الفطرة:

- ‌فرض الصلاة:

- ‌[صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين] :

- ‌قريش والإسراء:

- ‌[عرض الإسلام على القبائل] :

- ‌الهجرة العامّة مقدّماتها ونتائجها (العهد المدني)

- ‌[تمهيد]

- ‌[التحول الجديد] :

- ‌[بشارة اليهود بالنبي الجديد وكفرهم به] :

- ‌فروق بين البلدين

- ‌صنع اليهود

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌بيعة العقبة الكبرى

- ‌طلائع الهجرة

- ‌في دار الندوة

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌درس في سياسة الأمور:

- ‌في الغار:

- ‌في الطريق إلى المدينة:

- ‌دعاء:

- ‌[خبر الهجرة ينتشر في جوانب الصحراء] :

- ‌الوصول إلى المدينة

- ‌استقرار المدينة:

- ‌[النفس العظيمة] :

- ‌[مشكلات وحلول إيجابية] :

- ‌أسس البناء للمجتمع الجديد

- ‌[دعائم المجتمع الجديد]

- ‌[أولا] : المسجد:

- ‌[ثانيا] : الأخوة:

- ‌[ثالثا] : غير المسلمين:

- ‌المصطفون الأخيار

- ‌معنى العبادة

- ‌قيادة تهوي إليها الأفئدة

- ‌[أوصافه وبعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الكفاح الدّامي

- ‌[مرحلة الإعداد للجهاد]

- ‌[تمارين ومناورات ومعارك] :

- ‌سرايا

- ‌[حكمة بعث السرايا] :

- ‌سرية عبد الله بن جحش:

- ‌معركة بدر

- ‌[فرار أبي سفيان بالقافلة، واستصراخه أهل مكة] :

- ‌[استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه] :

- ‌[دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر] :

- ‌[بداية المعركة] :

- ‌[مقتل أبي جهل] :

- ‌[بشاشة الفوز تضحك للمؤمنين] :

- ‌محاسبة وعتاب (في الغنائم) :

- ‌[في الأسرى] :

- ‌في أعقاب بدر:

- ‌بدء الصراع بين اليهود والمسلمين

- ‌طرد يهود بني قينقاع:

- ‌[سر نقمة اليهود على الإسلام والمسلمين] :

- ‌مقتل كعب بن الأشرف:

- ‌مناوشات مع قريش

- ‌[بين بدر وأحد] :

- ‌معركة أحد

- ‌عبر المحنة:

- ‌[من بطولات الصحابة وتضحياتهم] :

- ‌[إصابة النبي صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[دروس وعبر] :

- ‌شهداء أحد:

- ‌[حمراء الأسد] :

- ‌اثار أحد:

- ‌[قصة الرجيع] :

- ‌[شهداء القرّاء في بئر معونة] :

- ‌[المصاب الفادح] :

- ‌[استعادة هيبة المسلمين] :

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌[الثأر لأصحاب الرجيع وبئر معونة] :

- ‌بدر الاخرة

- ‌دومة الجندل

- ‌غزوة بني المصطلق

- ‌حديث الإفك

- ‌غزوة الأحزاب

- ‌مع بني قريظة

- ‌[علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين] :

- ‌[نزول بني قريظة على حكم سعد] :

- ‌[قتل أبي رافع بن أبي الحقيق] :

- ‌طور جديد

- ‌عمرة الحديبية

- ‌[عدم الرغبة في القتال] :

- ‌[مفاوضات] :

- ‌[محاولات للاعتداء] :

- ‌[بيعة الرضوان] :

- ‌[شروط صلح الحديبية] :

- ‌[ردة فعل المسلمين على الشروط] :

- ‌[أحداث ما بعد الحديبية] :

- ‌مع اليهود مرة أخرى (يهود خيبر)

- ‌[حصون اليهود تتداعى] :

- ‌[نماذج من الشهادة] :

- ‌[أحداث ما بعد المعركة] :

- ‌[الأرض لله يورثها من يشاء] :

- ‌عودة مهاجري الحبشة

- ‌تأديب الأعراب

- ‌مكاتبة الملوك والأمراء

- ‌[كتابه إلى قيصر ملك الروم] :

- ‌[ردّ ملك غسان] :

- ‌[ردّ المقوقس ملك القبط] :

- ‌[ردّ فعل كسرى ملك فارس] :

- ‌[ردّ أمير البحرين] :

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة مؤنة

- ‌[التربية الجهادية للمجتمع المسلم] :

- ‌[مكانة القادة الثلاثة في الجنة] :

- ‌ذات السلاسل

- ‌[فقه عمرو] :

- ‌الفتح الأعظم

- ‌[أبو سفيان يحاول إصلاح ما أفسده قومه] :

- ‌[إنه شهد بدرا

- ‌[إسلام العباس رضي الله عنه] :

- ‌[تعمية أخبار الجيش] :

- ‌[دعوة أبي سفيان إلى الاستسلام] :

- ‌[دخول جيش المسلمين مكة] :

- ‌[مشاهد بعد الفتح] :

- ‌[ذكريات الشهداء] :

- ‌[إسلام فيه دخن] :

- ‌معركة حنين

- ‌هزيمة:

- ‌الثبات والنصر:

- ‌الغنائم:

- ‌حكمة هذا التقسيم:

- ‌عودة وفد هوازن:

- ‌حصار الطائف:

- ‌إلى دار الهجرة:

- ‌موقف المنافقين:

- ‌غزوة تبوك

- ‌[دعوة إلى البذل والعطاء] :

- ‌[مصاعب وصبر وعزيمة] :

- ‌[تحقيق أهداف الغزوة] :

- ‌المخلّفون

- ‌مسجد الضّرار:

- ‌طليعة الوفود

- ‌حج أبي بكر بالناس

- ‌وفد للأميين، ووفد لأهل الكتاب

- ‌أمّهات المؤمنين

- ‌[زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين و‌‌كلمة عن تعدّد الزوجات]

- ‌كلمة عن تعدّد الزوجات]

- ‌[زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة] :

- ‌[عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة رضي الله عنهن] :

- ‌[زواجه بالسيدة زينب رضي الله عنها] :

- ‌[زوجات أخريات] :

- ‌فأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب

- ‌وصفية بنت حيي

- ‌وجويرية بنت الحارث

- ‌حجّة الوداع

- ‌استقرار:

- ‌ حجة الوداع

- ‌إلى المدينة:

- ‌الرّفيق الأعلى

- ‌[شكوى النبي صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[اشتداد المرض] :

- ‌[أوامر ووصايا] :

- ‌[حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته] :

- ‌[وفاته صلى الله عليه وسلم واثارها على المسلمين] :

- ‌خاتمة

الفصل: ‌النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات

‌النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات

جرت حياة الرسول عليه الصلاة والسلام الخاصّة والعامة- على قوانين الكون المعتادة؛ فلم تخرج- في جملتها- عن هذه السنن القائمة الدائمة.

هو- من حيث إنه بشر- يجوع ويشبع، ويصحّ ويمرض، ويتعب ويستريح، ويحزن ويسر، ولكن الناس أنفسهم في هذه النواحي صنوف لا تجمعها قاعدة عامة، منهم المتهالك على ضروراته، فلو نقص حظه منها قليلا طاش لبّه، وخارت قواه، ومنهم الجلد الصبّار، يجزئه النزر اليسير، ويمضي لغايته رافع الرأس موطد العزم.

إن الالات التي تدار بالزيوت تتفاوت؛ منها الرديء الذي يستهلك أثقال الوقود ولا يجدي فتيلا، ومنها الجيد الذي يروع إنتاجه على قلة إمداده.

والبشر كذلك مع أبدانهم وضروراتها ومرفهاتها.

والمطالع لسيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يرى من طبيعة حياته الخاصة صلابة المعدن الذي صيغ منه بدنه صياغة أعجزت العمالقة، وأمكنت صاحبه من أن يحمل أعباء الحياة ومشاقّ الجهاد، ولأواء العيش، وهو منتصب مقدام.

نعم: هناك من العباقرة عمي، وصمّ، وممعودون، ومصدورون، غير أن العبقرية «1» شأن دون النبوة، ومن تمام نعمة الله على امرئ ما أن يرزق العافية من هذه الأدواء كلها، لتتم بهذه العافية السابغة العناصر التي تصحح نظرته إلى الحياة ومسلكه فيها.

وقد كان محمد عليه الصلاة والسلام من هذه الناحية- بشرا كاملا.

وكانت حياته متسقة مع سنن الله الكونية في البطولات الممتازة.

(1) راجع كتابنا (عقيدة المسلم) ، ص 199، دار القلم- دمشق.

ص: 47

أما حياته العامة- رسولا يبلّغ عن الله ويربّي المؤمنين، ويقاوم الكافرين، ويدأب على نشر دعوته، حتى تؤتي ثمارها في الافاق، فلا شكّ أن القران العزيز هو مهادها وبناؤها.

ومع أن القران كتاب معجز، إلا أنه يقوم على إيقاظ المواهب العليا في الإنسان، فهو أشبه بالأحداث الجليلة التي تعرض لك فتحملك على التفكير بأصالة وبصر، ومن ثمّ فهو كتاب إنساني يعين الوعي العام على النضج والسداد.

إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)[الزخرف] .

كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً [فصلت] .

والفارق بين توجيه العرب بالقران وتوجيه اليهود بنتق الجبل كالفارق بين صوت الإرشاد يهدي العاقل إلى الطريق، وسوط العذاب يلسع الدابة البليدة لتمضي إلى الأمام، فلا تسير خطوة إلا رمت بعجزها إلى الوراء خطوات.

وكان عبد الله بن رواحة ينشد:

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشقّ مكنون من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أنّ ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

ومن المحققين من يرى أنّ القران هو المعجزة الفريدة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وهم يلحظون في هذا الحكم التعريف اللفظي للمعجزة، من أنها خارق للعادة مقرون بالتحدي، ولم يعرف هذا التحدي إلا بالقران «1» .

وقد ملنا إلى قريب من هذا الرأي «2» ، لا بالنظر إلى التعريف اللفظي للمعجزة، بل بالنظر إلى القيامة الذاتية للخوارق الاخرى بالنسبة إلى الأهداف الرفيعة التي جاء بها الإسلام.

على ألاصلة للعقيدة ولا للعمل بهذه البحوث، فالرجل الفاسد لا يغفر

(1) أما انشقاق القمر، والإسراء والمعراج، وتكثير الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وحنين الجذع إليه، وغير ذلك من الخوارق، فسمّاها من لم يعتبر التحدي قيدا (معجزات) ، وسماها من اعتبره قيدا (دلائل النبوة) وهو اختلاف في التسمية فقط، وقديما قالوا: لا مشاحّة في الاصطلاح. (ن) .

(2)

راجع كتابنا (عقيدة المسلم) ، مبحث النبوّات، ص 181، دار القلم- دمشق.

ص: 48

له فساده إيمانه بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته غمامة، أو كلّمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق؛ فإن هذه البحوث ترجع إلى التقدير العلمي لأدلة الإثبات «1» ، والتقويم المحض لما في الوقائع نفسها من معان، وليس للخطأ والصواب فيها مساس بإيمان.

وقد سرت في المسلمين لوثة شنعاء في نسبة الخوارق إلى الصالحين منهم، حتى كادت جمهرتهم تقرن بين علو المنزلة في الدين وخرق قوانين الأسباب والمسببات، وحتى جاء من المؤلفين في علم التوحيد من يقول:

وأثبتن للأوليا الكرامه

ومن نفاها فانبذن كلامه!!

وصلة هذا الإثبات بعلم التوحيد كصلته بعلم النحو أو علم الفلك!! أي أنّ حقيقة الدين بعيدة عن هذه البحوث، سواء انتهت بالسلب أو بالإيجاب.

والخوارق التي يتهامس بها المفتونون لأوليائهم؛ هي تعبير سيّئ عن رذائل الكسل والحمق التي تكمن في طواياهم، كما أن الأحلام الطائشة التي تعتري النائم تعبير عن الاضطراب الذي يملأ نفسه، ويرهق أعصابه.

هذا فتح الباب الموصد من غير مفتاح، وهذا طار في الهواء بغير جناح، وهذا بال على حجر فانقلب ذهبا، وهذا اطّلع الغيب واتخذ عند الرحمن عهدا!.

وأمثال هذه السخافات كثير

وهي تدلّ على جهل بحقيقة الدين وحقيقة الدنيا، وتدل على أن مروّجيها أضل عقولا وقلوبا من أن يعرفوا سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسيرة أصحابه.

ما كان محمد عليه الصلاة والسلام رجل خيال يتيه في مذاهبه، ثم يا بني حياته ودعوته على الخرافة. بل كان رجل حقائق؛ يبصر بعيدها كما يبصر قريبها، فإن أراد شيئا هيّأ له أسبابه وبذل في تهيئتها- على ضوء الواقع المر- أقصى ما في طاقته من حذر وجهد، وما فكّر قط ولا فكّر أحد من صحابته أن السماء تسعى له حيث يقعد، أو تنشط له حيث يكسل، أو تحتاط له حيث يفرّط، ولم تكن خوارق العادات ونواقض الأسباب والمسببات أساسا، ولا طلاء في بناء رجل عظيم أو أمة عظيمة.

(1) الخوارق نوعان: منها ما ثبت بالقران والسنّة المتواترة؛ فهذا إنكاره كفر، ومنها ما ثبت بدليل ظني، وهذا إن أنكره المنكر لعدم ثبوته عنده فلا يكفر. (ن) .

ص: 49

إن محمدا وصحبه تعلّموا وعملوا، وخاصموا وسالموا، وانتصروا وانهزموا، ومدّوا شعاع دعوتهم إلى الافاق، وهم على كل شبر من الأرض يكافحون، لم ينخرم لهم قانون من قوانين الأرض، ولم تلن لهم سنة من سنن الحياة، بل إنهم تعبوا أكثر مما تعب أعداؤهم، وحملوا المغارم الباهظة في سبيل ربهم؛ فكانوا في ميدان تنازع البقاء أولى بالرسوخ والتمكين.

وقد لقّنهم الله عز وجل هذه الدروس الحازمة حتى لا يتوقّعوا محاباة من القدر في أيّ صدام، وإن كانوا أحصف رأيا من أن يتوقعوا هذا «1» .

قال الله لرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 102] .

فانظر: كيف يكلّفون- وهم في الصلاة وبين يدي الله- بأشدّ الحذر والانتباه! إن الله لم يدع أملا يخامر أنفسهم بأن الملائكة سوف تنزل لعونهم! إن لم يخدموا أنفسهم فلن يخدمهم أحد! ذلك هو خطاب الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه.

وعند ما ذهل المسلمون عن هذا الدرس في غزوة (أحد) ؛ لطموا لطمة موجعة جندلت من أبطالهم سبعين، وأمضّهم خزي الهزيمة، فوقف زعيم الكفر يومئذ- أبو سفيان- يقول: اعل هبل

وأبلى النبي عليه الصلاة والسلام بلاء شديدا لينقذ الموقف، وقاتل وقتل، وأصيب في نفسه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «اشتدّ غضب الله على قوم فعلوا بنبيّه هكذا- ويشير إلى رباعيته-، اشتدّ غضب الله على رجل يقتله

(1) الكرامة كأصل ثابتة بالكتاب والسنّة، كما حصل لأصحاب الكهف، وعزير وغيرهم، أما ما يحكيه بعض المتصوفة من كرامات تنسب لشيوخهم كالتي قصّ كثيرا منها الشعراني في طبقاته، فهذه ينطبق عليها قول الشيخ الغزالي. (ن) .

ص: 50

رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله» «1» .

وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول:«كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟!» ، فأنزل الله عز وجل قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)[ال عمران]«2» .

أرأيت التفريط في أسباب النصر جلب شيئا غير الهزيمة؟! أو لو كان الذين انهزموا هم ممثلي التوحيد الحق؟! أو لو كان الذين انتصروا هم سدنة الوثنية المحضة؟!.

وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، ويقول:

«الحرب خدعة» «3» ، ومع قيامه بالأسباب على ما أوجب الله، واحترامه للقوانين الطبيعية التي تنظّم حياة البشر؛ مع ذلك فقد استطاعت بعض قبائل العرب أن تخدعه، وأن تستدرج طائفة من القرّاء من أفضل أصحابه ليقتلوهم عن اخرهم في بئر معونة «4» ، فما دلّت على مصارعهم إلا الطيور تحلّق في الجو مرفوفة على أشلاء الشهداء

إنّ هؤلاء الرجال الذي ذهبوا ضحية الغدر من أحب خلق الله إلى الله، ومع ذلك فما أذن لأحد منهم أن يطير بغير جناح، أو يتحول عن هذا القدر المتاح كما يفكّر متأخّرة المسلمين اليوم.

ولئن كان الحذر والحيطة من سنن النبوة؛ فإن الإعداد واستنفاد الجهد فيه من اكد هذه السنن، وبماذا تحسب محمدا عليه الصلاة والسلام انتصر على الناس؟.

لقد أنضج رجاله بالإيمان كما ينضج الصيف بلهبه البطيء أطايب ثماره، فلمّا أرسلهم إلى أنحاء الدنيا طوّفوا بها، ولهم زئير كزئير العاصفة المكتسحة المهتاجة.

(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 298؛ ومسلم: 5/ 179، في صحيحيهما.

(2)

حديث صحيح، أخرجه الشيخان فيما تقدم أيضا.

(3)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 1/ 411، بسند صحيح من حديث كعب بن مالك، وهو في الصحيحين بنحوه.

(4)

انظر: ص 279 وما بعدها، من هذا الكتاب. (ن) .

ص: 51

بل إن الإسلام- من يوم بدئه- كان معركة يقودها الوحي، ولذلك شبّه الله بوادره الهامية بعاصفة ذات صواعق ورعود:

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)[البقرة] .

أترى للتراخي والتواكل ثغرة في هذه الصفوف المتزاحفة؟.

يا ويل مسلمي اليوم من انتظارهم لخوارق العادات في دنيا كشّرت عن أنيابها لاستئصال شأفتهم.

نحن لا ننكر أن هناك عجائب خارقة تقع للناس، بيد أنها تقع للمؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ فلو أنّ رجلا سار على الماء دون أن تبتلّ قدماه؛ ما دلّ ذلك على صلاحه، لأنّ مناط الصلاح بما شرع الله من عمل وإيمان فحسب، وإثبات هذه الخوارق لأصحابها مسألة تاريخية بحتة لمن شاء تقصي العجائب، ولا ارتباط لها بأصل الإيمان والتكليف، وذلك- بداهة- غير المعجزات المشاهدة للمرسلين بصحة التبليغ عن الله، على أن النبوّات بما قارنها من خوارق قد انتهت مع الماضي البعيد، فليس للتحكك بها من جدوى- وقد علمت أنّ معجزة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم تكن على غرار ما سبقها، بل كانت معجزة إنسانية عقلية دائمة، ثم نظم الله له حياته ودعوته وفق قوانين الأسباب والمسببات كما رأيت.

ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يعرف الغيب؛ كان كأيّ بشر اخر لا يدري ماذا يكسب غدا؟!.

ولا ينبغي أن ينتظر منه شيء من ذلك بعد أن انتهى إليه أمر الله:

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)[الأعراف] .

وربما اقترب منه من يضمر الشر ويظهر الود- وهو لا يعلم به- حتى تفضحه التجارب.

وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] .

وسيفاجأ يوم القيامة برجال تركهم وهو يعدّهم مؤمنين ثابتين، ثم تكشّفت

ص: 52

الفتن عن سواد باطنهم وسوء عقباهم «1» ، فيقول ما قال عيسى من قبل:

وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117]«2» .

وقد يطلعه الله على بعض الغيوب لحكم خاصة، كما جاء في التنزيل الإنباء بهزيمة الفرس أمام الروم، بعد النصر الكبير الذي سبق لهم أن أحرزوه، وسارت بحديثه الركبان، وشمت له الوثنيون، وحزن له المسلمون مظاهرة منهم لأهل الكتاب.

وقد وردت أحاديث صحاح تحسب على ظاهرها كأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ما يكون، مثل ما ورد عن عدي بن حاتم قال: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه اخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال:«يا عدي! هل رأيت الحيرة؟» قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، فقال:«إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله» قلت في نفسي: فأين دعّار طيئ الذين سعروا في البلاد؟! «ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى» ، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: «كسرى بن هرمز!!» .

قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز «3» .

والحق أن هذه الأحاديث وأشباهها لم تكن إخبارا بغيب «4» ، إنما كانت تصديقا لوعد الله بأن المستقبل للإسلام، وبأن هذا الدين سيسود المشارق والمغارب، فكانت تفسيرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله في كتابه:

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح: 28] .

(1) إشارة إلى حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا» . وللحديث روايات في الصحيحين عن ابن مسعود وأنس وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد رضي الله عنهم. (ن) .

(2)

معنى هذا في (صحيح البخاري) في كتاب التفسير، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري: 6/ 477- 479، وغيره عن عدي.

(4)

بل هي من الإخبار بالغيب بإعلام الله تعالى إياه، والتأويل المذكور لا مبرر له ما دام أن المؤلف حفظه الله يسلّم بأصل الإعلام كما ذكر انفا، وفي هذا الحديث ما يشير إلى ذلك؛ إذ إنه قال: «إن طالت بك حياة

» فهل هذا التحديد الدقيق للزمن يمكن أن يعرفه (الخبير) ، إلا بإعلام اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.

ص: 53

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور: 55] .

وقريب من ذلك الأحاديث المنبئة عن الفتن.

إنّ الرجل الخبير بالأسواق لا يلبث- بعد استعراض يسير لأحوالها- حتى يصدر حكما صائبا عليها، والخبير بطوايا النّفوس يستطيع من نظرة خاطفة أن يستشف ما وراءها، ويستكشف خباياها، ومن ذلك قول الشاعر:

والألمعيّ الذي يظنّ بك الظنّ

كأن قد رأى وقد سمعا

وكان محمد عليه الصلاة والسلام خبيرا بالنفوس ومعادنها، والدنيا وأطوارها، والزمان وتقلّبه، والأديان الأولى وما عانت وعانى رجالها وهم يشقون طريقهم في الحياة، وعقول الأنبياء من ورائها فطر مجلوة، وإلهام لمّاح، فكيف بشيخ الأنبياء الذي تعهده القدر من نشأته ليحمل رسالة معجزتها في أسلوبها، وأسلوبها يقوم على ترقية الفطر وتفتيق الألباب!!.

إنّ هذا يجعله أشد الناس تقديرا للواقع، وانتظارا لما يفد به، هل يستطيع السائر في مناطق الشمال أن يقدّر خلوّ الجوّ من الضباب الداكن؟! أو هل يستطيع السائر في مناطق خط الاستواء ألا يتوقع عواصف القيظ؟! فكيف يليق بصاحب دين خطير أن يتناسى الفتن العارضة لتعاليم دينه ولرجاله، ما قرب منها وما بعد، ما ظهر منها وما بطن؟!.

لذلك كثر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن، وليس القصد الإخبار عنها، بل التحذير منها؛ تحدّث عن الفتن التي تلحق الأشخاص من اختلاف أفكارهم وتنافر أمزجتهم، وتحدّث عن الفتن التي تصيب القلوب من إقبال الدنيا والتحاسد عليها، وتحدّث عن الفتن التي تصيب الأمّة بعد أن يثوب الكفر من هول الهزائم التي مني بها، ويتماسك مرة أخرى بعد ما انحلّت عراه، فكان أن خوّف أصحابه من ذلك كله في أحاديث يطول سردها.

وأخطر هذه الفتن ما يصيب تعاليم الإسلام نفسها من ذبول واضمحلال.

فالصلاة تفقد روحها، وهو الخشوع، ثم يتاكل جسمها فتتحوّل نقرا سخيفا.

ص: 54

والجهاد يفقد روحه، وهو الإخلاص، ثم يتحول انتهابا للغنائم، واستعبادا للأحرار. ثم تفتر حدته، ثم يبطل

والصيام ينتهي من صبر على الحرمان، وتأديب الغرائز المتطلّعة، إلى استعداد للولائم، ومضاعفة للنفقة

والحكم يتطوّر من خدمة الجمهور برضاه، إلى تألّه عليه عن بغي واستكراه، ثم يسقط ويضيع الحاكم والمحكوم معا.

وحتى محبة المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم تتحوّل بعد موته إلى سوق حول قبره تضج بالصياح المنكر والهمهمة الحائرة.

عند ما زرت المدينة توجّهت إلى قبر الرسول الجليل صلى الله عليه وسلم، وكانت المشاعر التي تنبعث من قلبي تطنّ في أذني، فلما تبيّنات لي معالم الضريح يمّمت شطره وأنا أتضاءل في نفسي، وكأني كرة تتدحرج تحت أقدام عملاق

وسلمت بالعبارة التي شرع الله، لم أزد عليها إلا بيتا من الشعر لم أدر ما وراءه، لما عراني من اضطراب غمغمت به شفتاي ولم تسمعه أذناي:

يا خير من دفنت في التّرب أعظمه

فطاب من طيبهنّ القاع والأكم

ثم انصرفت

بيد أني لاحظت أمواجا تفد فتصرخ بكلام طويل؛ هذا يقرأ في كتاب، وهذا يسمع من حافظ، وهذا يشوّش على ذلك، والكلّ يشوش على المصلّين، وتتواكب هذه الوفود في هرج ومرج لا ينقطعان.

ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعني تلك الحال عند ما قال: «اللهم لا تجعل قبري بعدي وثنا يعبد» ؟! «1» .

وما أن تعرفت أحوال العاكفين في المسجد والبادين، حتى كدت أدع الصلاة فيه، فإنّي أكره أشدّ الكراهية البدع والفوضى والجهل.

وتذكّرت قصة عروة بن الزبير لما بنى قصرا بوادي العقيق، وابتعد عن المدينة، فقال له الناس: قد جفوت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال: إني رأيت

(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد: 2/ 246؛ وابن سعد في الطبقات: 2/ 2/ 36، من حديث أبي هريرة، وسنده صحيح.

ص: 55

مساجدكم لاهية، وأسواقكم لاغية، والفاحشة في فجاجكم عالية، وكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية. وقيل: إنه لما عوتب في ذلك، قال: وما بقي؟ إنما بقي شامت بنكبة، أو حاسد على نعمة!!.

نسأل الله العفو والعافية.

ص: 56