الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوة ونشاط
عند ما انتهت حرب الفجار، وأبرم حلف الفضول، كان محمد عليه الصلاة والسلام يستقبل المرحلة الثالثة من عمره، وهذه الفترة وما قبلها هي عهد الشباب الحار، والغرائز الفائرة، والطماح البعيد. ومحمد عليه الصلاة والسلام رجل قوي البدن، عالي الهمة، رفيع المكانة، وقد لو حظت طاقته الواسعة حتى بعد هذه السنّ بنحو أربعين سنة؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه:«ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم! كأنّ الشمس تجري في وجهه! وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم! لكأنما الأرض تطوى له! كنّا إذا مشينا معه نجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث» «1» .
ومثل هذا الرجل تقبل عليه الحياة لو لم يقبل هو عليها، وعلى من تقبل الحياة بعده؟! على الواهمين والمنكمشين والمتشائمين؟!.
لكن محمدا عليه الصلاة والسلام على ما يملك من وسائل المتاع- ما أثرت عنه قطّ شهوة عارضة، أو نزوة خادشة، أو حكيت عنه مغامرة لنيل جاه، أو اصطياد ثروة، بل على العكس؛ بدأت سيرته تومض في أنحاء مكة بما امتاز به على أقرانه- إن صحّت الإضافة- من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين.
وليس شرف النفس أن تنتهي شهوة الإنسان إلى الحياة، أو توجد الشهوة وتنتفي وسائل بلوغها، بل الشرف أن تكون قوة العفاف أربى من نوازع الهوى، فإذا ظلّت النفس في حالة سكون، فلتعادل القوى السالبة والموجبة فيها، وقد تجد رجلا تافها هزيلا لا يخفى له طمع، ولا تنحبس له شهوة، لو قست غرائزه
(1) هذا الحديث ضعيف الإسناد، أخرجه الترمذي في سننه: 4/ 206؛ وفي الشمائل: 1/ 117، وضعّفه بقوله:«هذا حديث غريب» ، والسبب أنه من رواية ابن لهيعة، وهو ضعيف لسوء حفظه، واحتراق كتبه.
المنفلتة بغرائز غيره المضبوطة ما بلغت عشر قوتها، لكن هذه وجدت زماما من الرّشد، فكظم عليها، وتلك لم تجد عقلا يردع، ولا خلقا يعصم، فثارت وتمردت
…
وقد كانت رجولة محمد عليه الصلاة والسلام في القمّة، بيد أن قواه الروحية، وصفاءه النفسيّ جعلا هذه الرجولة تزداد بمحامد الأدب والاستقامة والقنوع، ثم إنه كان معافى من العقد الكريهة التي تزيّن للشباب تعشّق العظمة عن طريق التظاهر والرياء، أو تطلّب الرياسة عن طريق المداهنة واشتراء العواطف، فإذا انضمّ لهذا كرهه الشديد للأصنام التي عكف عليها قومه، وازدراؤه للأوهام والأهواء التي تسود الجزيرة وما وراءها، وإدراكه أنّ الحق شيء اخر وراء هذه الخرافات الغالبة.. تبينا السر في استئناسه للجبال والفضاء، واستراحته إلى رعي الغنم في هذه الأنحاء القصيّة، مكتفيا بالقليل الذي يعود عليه من كسبها.
أهذا زهد في المال، أو إعراض عن الحياة الدنيا؟ لا؛ إنما هو انشغال بالحقائق العليا التي تصلح بها ويسخّر فيها المال، والرجال الكبار لا تشبعهم كنوز الذهب والفضة إذا ظمئوا إلى الحق، ولا يريحهم أن يكونوا ملوك قومهم أو ملوك الحياة إذا رأوا المساخر الشائنة تسير بالحياة كلها إلى منحدر تسقط فيه أقدار الناس، وتعتري فيه الدنيا جمعاء من كل خير وبر.
كذلك استقبل محمد عليه الصلاة والسلام المرحلة الثالثة من عمره؛ وهي المرحلة التي تعرّف فيها إلى زوجه الأولى (خديجة بنت خويلد) رضي الله عنها.