الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنّ الإسلام تعاليم وأعمال شتى، فيها الفرائض وفيها النوافل.
ولا بدّ أن نعلم أنّ الله لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة، فالرجل الذي يستكثر من أعمال التطوع في الوقت الذي يهمل فيه فرائض لازمة رجل ضالّ.
والفرائض المطلوبة لحفظ الإيمان كالأغذية المطلوبة لحفظ الجسم.
وكما أنّ الجسم لا يقوم بالمواد النشوية واحدها، أو الزلالية واحدها، بل لا بد من استكمال جمل منوعة من الغذاء، وإلا تعرض الجسم لعلل قد تنهكه أو تقتله؛ فكذلك الدين؛ إنه لا قيام له في كيان الفرد أو في صفوف الجماعة إلّا بجملة من الفرائض الملونة، تصون حياته، وتضمن عافيته ونماءه.
وعلى المسلم أن يقسّم وقته، وأن ينظّمه على هذه الفرائض المطلوبة، فلا يشغله واجب عن واجب، وبالأحرى لا تشغله نافلة عن واجب!.
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مباغتة بني قريظة قبل أن يستكملوا عدتهم ويقوّوا حصونهم، هو الواجب الأول في تلك الساعة، فلا ينبغي أن ينشغل المسلم عنه ولو بالصلاة.
فحدود وقت الصلاة تذوب أمام ضرورات القتال.
وتستطيع- على ضوء هذا الإرشاد النبوي- أن تحكم على مسالك المسلمين اليوم؛ إنّ المدرس الذي ينشغل عن تعليم تلامذته، والتاجر الذي ينشغل عن تثمير ثروته، والموظّف الذي ينشغل عن أداء عمله، لا يقبل الله من أحدهم عذرا أبدا في تضييع هذه الفرائض، ولو كان أحدهم قد عاقه عن واجبه أنه صلّى مئة ركعة، أو قرأ ألف اية، أو عدّ أسماء الله الحسنى سبعين ألف مرة، كما يفعل جهّال المتصوفة؛ ذلك أنّه انشغال عن الفرائض المطلوبة بنوافل لم تطلب، وتعطيل لأمة يستحيل أن تنهض إلا إذا أجهدت نفسها في محاربة جهلها وفقرها وفوضاها.
والجهاد العام فريضة لا يغضّ من قدرها شيء، ولا يزاحمها على وقتها عبادة كما رأيت.
[علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين] :
حمل راية المسلمين إلى حصون قريظة عليّ بن أبي طالب، واستبق المسلمون يحتشدون حولها، حتى إذا اقترب الجيش من منازل اليهود كان القوم
لا يزالون على غوايتهم، فقد نظروا إلى المسلمين ثم سبّوا رسول الله ونساءه سبّا قبيحا.
فرأى عليّ أن يصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم بعيدا عن أولئك السفهاء، فاعترض طريقة وهو مقبل قائلا: يا رسول الله! لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث، فقال:
«لم؟ أظنّك سمعت لي منهم أذى؟» قال: نعم يا رسول الله! قال: «لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا» .
فلما دنا من حصونهم قال: «يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟» «1» قالوا: يا أبا القاسم! ما كنت جهولا.
هذه خلال اليهود، يسفهون إذا أمنوا، ويقتلون إذا قدروا، ويذكّرون الناس بالمثل العليا إذا وجلوا؛ ليستفيدوا منها واحدهم لا لشيء اخر.
أما العهود، فهي اخر شيء في الحياة يقفون عنده.
على أنّ سفاهتهم لم تغنهم، فقد أحكم المسلمون الحصار عليهم، وأمسكوا بخناقهم فاستيقن القوم أنّ الاستسلام لا محيص عنه، وامتلأت قلوبهم باليأس والفزع.
قال (كعب) سيد بني قريظة: يا معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟.
قال نتابع هذا الرجل ونصدّقه، فو الله لقد تبيّن لكم أنّه لنبيّ مرسل، وأنه للّذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.
قالوا: لا نفارق حكم التوارة أبدا، ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم عليّ فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، فإن نهلك، نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر، فلعمري لنجدنّ النساء والأبناء.
قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم.
قال: فإن أبيتم عليّ هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وإنّه عسى أن يكون
(1) ضعيف، أخرجه ابن إسحاق عن الزهري مرسلا؛ وعنه ابن هشام: 2/ 194- 195؛ ورواه الحاكم: 3/ 34- 35، من حديث ابن عمر؛ وإسناده ضعيف.
محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب منهم غرّة.
قالوا: نفسد سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا.
قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما.
وحاول بنو قريظة أن يظفروا بصلح كالذي ناله إخوانهم بنو النضير من قبل، بيد أنّ المسلمين أبوا عليهم إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط، فإنّ ما أسلف هؤلاء من جرم بيّن وغدر شائن أحفظ عليهم الصدور، فلم يبق فيها مكان لسماح، وتمحض الموقف للعدل المجرد، يقرّ الأمور في نصابها كيف يشاء.
واستقدم اليهود- وهم محصورون- أبا لبابة بن عبد المنذر يستشيرونه:
أينزلون على حكم محمد؟ فقال لهم: نعم، وأشار إلى حلقه، كأن ينبههم إلى أنه الذبح؟ ثم أدرك- لفوره- أنّه خان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمضى هائما على وجهه، حتى أتى مسجد المدينة، فربط نفسه في سارية فيه، وحلف ألا يفك منها حتى يتوب الله عليه.
وقد قبل الله منه ندمه، ونزلت فيه بعد أيام الاية: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)[التوبة] .
واستمرّ الحصار خمسا وعشرين ليلة، سمح المسلمون في أثنائها لليهود الذين رفضوا الغدر بالرسول عليه الصلاة والسلام أيام الأحزاب أن يخرجوا، فجزوهم عن وفائهم خيرا، وخلّوا سبيلهم ينطلقون حيث يبغون.
ثم قرّروا أن يهجموا على الحصون المغلقة ويقتحموها عنوة.
فصاح عليّ: يا كتيبة الإيمان- ومعه الزبير بن العوام- والله لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحنّ حصنهم، فقال بنو قريظة: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ.
فاستنزلوا من حصنهم، وسيقوا إلى محبسهم، حتى جيء بسعد بن معاذ ليقضي في حلفائه بما يرى.
وكان (سعد) سيد الأوس، وهم حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وقد توقّع يهود أنّ هذه الصلة تنفعهم، وتوقّع الأوس أيضا من رجلهم أن يتساهل مع أصدقائهم الأقدمين، فلما استقدمه الرّسول عليه الصلاة والسلام ليصدر حكمه، جاء من الخيمة التي يمرّض فيها إثر إصابته بسهام الأحزاب، واكتنفه قومه يقولون له: يا أبا عمرو! أحسن في مواليك
…