الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما أبو جهل فقد سقط مكانه يلفظ أنفاسه، وتفرّق المشركون بعده بددا، وتركوا سيقانهم للريح تبعثرهم في فجاج الصحراء، كما تبعثر كثيبا من الرمل المنهار.
ومرّ عبد الله بن مسعود بالقتلى، فوجد أبا جهل فيهم لا يزال به رمق، فجثم على صدره يبغي الإجهاز عليه، وتحرّك أبو جهل يسأل: لمن الدائرة اليوم؟
فقال عبد الله: لله ورسوله، ثم استتلى عبد الله: هل أخزاك الله يا عدو الله؟! قال له: وبماذا أخزاني؟! هل أعمد من رجل قتله قومه؟! وتفرّس في عبد الله، ثم قال له: ألست رويعينا بمكة؟!.
فجعل عبد الله يهوي عليه بسيفه حتى خمد «1» .
ولقي مثل هذا المصير الفاجع سبعون صنديدا من رؤوس الكفر بمكة، دارت عليهم كؤوس الردى فتجرّعوها صاغرين، وسقط في الأسر سبعون كذلك، وفرّ بقية التسعمئة والخمسين يروون لمن خلفهم أنّ الظلم مرتعه وخيم، وأن البطر يجر في أعقابه الخزي والعار.
[بشاشة الفوز تضحك للمؤمنين] :
وفتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز تضحك لهم خلال الأرض والسماء. إنّ هذا الظفر المتاح رد عليهم الحياة والأمل والكرامة، وخلّصهم من أغلال ثقال:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)[ال عمران] .
وكانت عدة من استشهد منهم أربعة عشر رجلا، استأثرت بهم رحمة الله، فذهبوا إلى عليّين.
ثبت عن أنس بن مالك: أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر، وكان في
- ضعف هذه الرواية أنّ معاذ بن عمرو مات في زمن عثمان، كما جزم به البخاري وغيره. (راجع: ابن هشام: 2/ 72) .
(1)
رواه بنحوه ابن هشام: 2/ 72، عن ابن إسحاق بدون إسناد، وبعضه في المسند، رقم (4246)، والبيهقي: 9/ 62، عن ابن مسعود بسند منقطع، وقصة قتل ابن مسعود لأبي جهل صحيحة رواها البخاري: 7/ 235؛ ومسلم: 5/ 183- 184؛ وأحمد: 3/ 115، 129، 236، من حديث أنس.
النظّارة، أصابه سهم طائش فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله! أخبرني عن حارثة؟ فإن كان في الجنة صبرت، وإلا فليرينّ الله ما أصنع- تعني من النياحة- وكانت لم تحرّم بعد!! فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «ويحك أهبلت؟ إنّها جنان ثمان، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى
…
» «1» .
فإذا كان هذا جزاء النظّارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض إلى المنايا الغمرات الصعاب؟!.
في هذه المعركة التقى الاباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهم المبادئ، ففصلت بينهم السيوف، وفي عصرنا هذا قاتل الشيوعيون مواطنيهم، ومزّقوا أغلى الأواصر الإنسانية في سبيل ما يعتقدون؛ فلا عجب إذا رأيت الابن المؤمن يغاضب أباه الملحد، ويخاصمه في ذات الله!! والقتال الذي دار ب (بدر) سجّل صورا من هذا النوع الحاد: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابنه عبد الرحمن يقاتله مع أبي جهل، وكان عتبة بن ربيعة أول من بارز المسلمين، وكان ولده أبو حذيفة من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سحبت جثّة عتبة لترمى في القليب نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي حذيفة فإذا هو كثيب، قد تغيّر لونه، فقال له:«يا أبا حذيفة! لعلّك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟» فقال: لا والله يا رسول الله! ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنّي كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلمّا رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك!.
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا.. «2» .
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين فطرحوا في القليب، وروي أنه قال عند مراهم:«بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم؛ كذّبتموني وصدّقني النّاس، وأخرجتموني واواني النّاس، وقاتلتموني ونصرني النّاس» «3» .
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 6/ 20- 21، 7/ 243.
(2)
حديث ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 75، عن ابن إسحاق بلاغا.
(3)
حديث ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 74، عن ابن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم. وهذا إسناد معضل. وقد رواه أحمد: 6/ 170، من طريق إبراهيم عن عائشة مرفوعا بلفظ:«جزاكم الله شرا من قوم نبيّ، ما كان أسوأ الطرد وأشدّ التكذيب» ، ورجاله ثقات، لكنّه منقطع بين إبراهيم وهو النخعي، وبين عائشة.
فلما ووريت جثثهم، وأهيل التراب على رفاتهم، انصرف الناس وهم يشعرون أنّ أئمة الكفر قد استراح الدين والدنيا من شرورهم؛ إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استعاد ماضيه الطويل في جهاد أولئك القوم، كم عالج مغاليقهم، وحاول هدايتهم؟! وكم ناشدهم الله، وخوّفهم عصيانه، وتلا عليهم قرانه؟! وهم- على طول التذكير- يتبجّحون، وبالله وآياته ورسوله يستهزئون، فخرج «1» النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل حتى بلغ القليب المطويّ على أهله، وسمعه الصحابة يقول:«يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! يا أمية بن خلف! يا أبا جهل بن هشام! هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقا» !.
فقال المسلمون: يا رسول الله! أتنادي قوما جيّفوا؟! قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم! ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني «2» » .
كانت واقعة بدر في السابع عشر من رمضان لسنتين من الهجرة، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثا، ثم قفل عائدا إلى المدينة يسوق أمامه الأسرى
(1) حديث صحيح، أخرجه ابن إسحاق: 2/ 74، حدثني حميد الطويل عن أنس به، وهذا سند صحيح، وحميد وإن كان مدلّسا، فإنّ ما يرويه معنعنا عن أنس بينهما ثابت البناني، كما ذكروا في ترجمته، وهو ثقة من رجال الشيخين؛ وقد أخرجه أحمد: 3/ 104، 182، من طرق عن حميد به. وقال الحافظ ابن كثير 3/ 292: إنّه على شرط الشيخين. قلت: وقد وصله مسلم: 8/ 163؛ وأحمد: 2/ 219، 287، من طريق حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس؛ ورواه أحمد: 3/ 145، من طريق قتادة عن أنس، لكن رواه البخاري: 7/ 240- 241، من طريقه قال: ذكر لنا أنس عن أبي طلحة، فجعله من سند أبي طلحة، وهو الأصحّ كما قال الحافظ ابن كثير وابن حجر؛ ثم أخرجه مسلم والطيالسي: 2/ 97- 98، ترتيب الشيخ أحمد البنا؛ وأحمد، رقم (182) من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، عن عمر. فالظاهر أن أنس لم يسمعه منه صلى الله عليه وسلم، إنما رواه عنه بواسطة الصحابة؛ فكان تارة يرسله، وتارة يوصله، والحديث رواه غير من ذكر من الصحابة عبد الله بن عمر؛ أخرجه البخاري: 7/ 242، وغيره. وفي الباب عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. وأما إنكار عائشة الذي ذكره المؤلف في التعليق فقد أنكره العلماء، وبيّنوا أنّ الصواب بجانب الذين رووا هذا الحديث. راجع: البداية، لابن كثير؛ والفتح، لابن حجر. وعندي أنّه لا تعارض بين روايتهم وروايتها، بل يمكن الجمع بينهما، وهو الصواب كما بيّنته في (أحكام الجنائز وبدعها) .
(2)
تنكر عائشة هذا الحديث محتجّة بقول الله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)[فاطر] وتقول: إنّ اللفظ الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم بأعلم لما أقول منهم» .