الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا أنّ هذا التفكير تزلزل إثر ما عرفت قريش أنّ المسلمين عبّؤوا قواهم، وخرجوا يستأنفون القتال.
وحار المشركون في أمرهم: أيعودون لحرب لا يأمنون مغبتها، وربما أفقدتهم ثمار النصر الذي أحرزوه؟ أم يمضون- لتوهم- إلى مكة؟ وفي هذه الحال يتحسن مركز المسلمين، وتخفّ مرارة الهزيمة التي لحقتهم.
وقد رأى أبو سفيان أن يغنم الأوبة الرابحة، وأن يبعث إلى المسلمين من يقذف بالرعب في قلوبهم، ويخبرهم أن قريشا عادت لاستئصال شأفتهم بعد أن تبيّن لها خطؤها في تركهم.
وعسكر المسلمون ب (حمراء الأسد) ثم جاءهم دسيس أبي سفيان يغريهم بالعودة إلى يثرب نجاة بأنفسهم من كرّة المشركين عليهم، وهم لا يقدرون على ملاقاتهم!.
بيد أنّ المسلمين قبلوا التحدّي، وظلوا في معسكرهم يوقدون النار طيلة ثلاث ليال، في انتظار قريش التي ترجّح لديها أنّ النجاة بنفسها أولى، فعادت إلى مكة، وعاد المسلمون إلى المدينة ليدخلوها مرة أخرى، أرفع رؤوسا، وأعزّ جانبا.
وفي هذه المظاهرة الناجحة، وفيمن اشتركوا فيها على ألم الجراح وإرهاق التعب، وفي ثباتهم على التثبيط واطمئنانهم إلى جانب الله، نزلت الايات الكريمة:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)[ال عمران] .
اثار أحد:
انتقض على الإسلام كثير ممن هادنه أو داهنه.
وبرغم مظهر البأس الذي أبداه المسلمون في مطاردة المشركين حتى (حمراء الأسد) ؛ فإنّ هزيمة (أحد) كانت أبعد غورا مما يظنون.
لقد جرّأت عليهم أعراب البادية، وفتحت لهم أبواب الأمل في الإغارة على المدينة، وانتهاب خيرها.
كما أنّ اليهود عالنوا بسخريتهم، وتركوا وساوس الغش تلحّ عليهم، وتكدّر سيرتهم مع المسلمين.
ومن أصعب الأمور قياد الأمم عقب الهزائم الكبيرة، وقياد الدعوات بعد الانكسارات الخطيرة، وإن كان الرجال يستسهلون الصعب، ويصابرون الأيام حتى يجتازوا الأزمات.
وقد جاءت السّنة الرابعة للهجرة والمسلمون لمّا يداووا جراحاتهم في (أحد) ؛ إلّا أنّ الأحداث لا تنتظر، فقد أخذ البدو يتحرّكون نحو المدينة، يحسبون أنّ ما فيها أصبح غنيمة باردة، وأول من تهيّأ لغزو المدينة بنو أسد، فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعث أبي سلمة على رأس مئة وخمسين رجلا؛ ليبغت القوم في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم «1» .
ولم يلق أبو سلمة عناء في تشتيت أعدائه واستياق نعمهم أمامه، حتى عاد إلى المدينة مظفرا، وأبو سلمة يعدّ من خيرة القادة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقوا إلى الإيمان والجهاد معه، وقد عاد من هذه الغزاة مجهودا؛ إذ نغر عليه جرحه الذي أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات.
وحاول خالد بن سفيان الهذلي أن يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس فقتله «2» وهو يجتهد في تأليب القبائل للهجوم على المدينة.
وثارت هذيل لرجلها بأن أعانت على تسليم أسرى المسلمين إلى أهل مكة في غزوة الرّجيع.
(1) ذكر هذه السرية ابن كثير في (البداية) : 4/ 61- 62، من طريق الواقدي بإسناد له معضل! والواقدي متروك!.
(2)
رواه أبو داود: 2/ 196؛ والبيهقي: 3/ 256؛ وأحمد: 3/ 496، من طريق ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه، وقال الحافظ ابن كثير في (تفسيره: 1/ 295) : «إسناده جيد» ، وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح: 2/ 350) : «إسناده حسن» . قلت: وابن عبد الله بن أنيس سماه البيهقي في روايته «عبيد الله» ، وكأنه تحريف من الناسخ أو الطابع، فقد أورده ابن أبي حاتم فيمن اسمه «عبد الله» مكبرا. وقال:«روى عن أبيه، وروى عنه محمد بن إبراهيم التيمي» ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وقد روى عنه محمد بن جعفر بن الزبير أيضا، وهو الذي روى عنه هذا الحديث، والله أعلم.