الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون قيمة الطاعة، فالجماعة التي لا يحكمها أمر واحد، أو التي تغلب على أفرادها وطوائفها النزعات الفردية النافرة لا تنجح في صدام، بل لا تشرّف نفسها في حرب أو سلام.
والأمم كلّها- مؤمنها وكافرها- تعرف هذه الحقيقة، ولذلك قامت الجندية على الطاعة التامة، وعند ما تشتبك أمة في حرب، تجعل أحزابها جبهة واحدة، وأهواءها رغبة واحدة، وتخمد كلّ تمرّد أو شذوذ ينجم في صفوفها.
وإحسان الجندية كإحسان القيادة.
فكما أنّ إصدار الأوامر يحتاج إلى حكمة، فإن إنفاذها يحتاج إلى كبح وكبت، ولكن عقبى الطاعة في هذه الشؤون تعود على الجماعة بالخير الجزيل.
وأسرع الناس إلى الشغب والتمرد من أقصوا عن الرئاسة وهم إليها طامحون.
وكان عبد الله بن أبيّ مثلا لهذه الفئة، التي تضحّي بمستقبل الأمة في سبيل أطماعها الخاصة.
أمّا الرماة الذين عصوا الأوامر بلزوم أماكنهم مهما كانت أطوار القتال فقد مرّت بهم فترة ضعف وذهول، تيقظت- خلالها- بقية في أنفسهم من حبّ الدنيا، والإقبال على عرضها الزائل، فكان إثر ذلك ما كان!.
ولذلك لما دهش المسلمون للكارثة التي قلبت عليهم الأمور، بيّن الله لهم أنهم هم مصدرها، فما أخلفهم موعدا، ولا ظلمهم حقا.
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)[ال عمران] .
إن الإسلام يشترط لكمال العمل وقبوله الإيمان، والاحتساب، والتجرّد.
شهداء أحد:
أخذت قريش طريقها إلى مكة وقد استخفّها النّصر الذي أحرزته.
إنها طارت به على عجل، كأنّها غير واثقة مما نالت بعد الهزيمة التي حاقت بها أول القتال!!.
وأقبل المسلمون يتحسّسون مصابهم في الرجال، ويجهّزون القتلى لمضاجعهم التي يبرزون منها للقاء الله يوم ينفخ في الصور.
روى ابن إسحاق «1» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الرّبيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» فقال رجل من الأنصار: أنا.
فنظر، فوجده جريحا في القتلى، وبه رمق، فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي! وقل له: إنّ سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيّا عن أمته! وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إنّ سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيّكم وفيكم عين تطرف
…
!.
قال: ثم لم أبرح حتّى مات، وجئت النبيّ عليه الصلاة والسلام فأخبرته خبره.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن الشهداء حيث قتلوا، ورفض أن ينقلوا إلى مقابر أسرهم.
قال جابر بن عبد الله: لمّا كان يوم أحد جاءت عمّتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ردّوا القتلى إلى مضاجعهم» «2» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم
(1) أخرجه من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني مصرحا بسماعه منه، مرفوعا به، كما في سيرة ابن هشام: 2/ 140- 141، وهذا إسناد معضل، وقد رواه الحاكم: 3/ 201، من طريق محمد بن إسحاق: أنّ عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة حدّثه عن أبيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
…
فذكره. وأنا أخشى أن يكون سقط من السند محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن إسحاق، وعبد الله بن عبد الرحمن، فإنّهم لم يذكروا ابن إسحاق في الرواة عن عبد الله بن عبد الرحمن، وعليه يكون الحديث مرسلا، وبه أعلّه الذهبي؛ لأن عبد الله هذا تابعي، وأما أبوه عبد الرحمن ابن أبي صعصعة فصحابي، فلو أنّ سند الحاكم سلم من السقط لكان الحديث متصلا، ولما أعلّه الذهبي بالإرسال، والله أعلم. والحديث رواه مالك في الموطأ: 2/ 21، عن يحيى بن سعيد معضلا، ونقل السيوطي في (تنوير الحوالك) عن ابن عبد البر قال:«هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه إلا عند أهل السير، فهو عندهم مشهور معروف» قلت: قد رواه الحاكم أيضا من حديث زيد بن ثابت، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع
…
وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي، وفي سنده أبو صالح عبد الرحمن بن عبد الله الطويل، ولم أجد الان ترجمته.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 2/ 63؛ والنسائي: 1/ 284؛ وابن ماجه: 1/ 264؛ وأحمد: 3/ 297، 307، 397، 398، بسند صحيح عن جابر.
يقول: «أيّهم أكثر أخذا للقران؟» فإذا أشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد، وقال:
«أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة!» وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم، ولم يغسّلهم.. «1» .
ولما انصرف عنهم قال: «أنا شهيد على هؤلاء، إنّه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والرّيح ريح مسك» «2» .
إنّ معركة أحد تركت اثارا غائرة في نفس النبيّ عليه الصلاة والسلام ظلت تلازمه إلى اخر عهده بالدنيا.
في هذا الجبل الداكن الجاثم حول يثرب أودع محمد صلى الله عليه وسلم أعزّ الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه، فالصفوة النقية التي حملت أعباء الدعوة، وعادت في سبيل الله الأقربين والأبعدين، واغتربت بعقائدها قبل الهجرة وبعدها، وأنفقت وقاتلت، وصبرت وصابرت، هذه الصفوة اختطّ لها القدر مثواها الأخير في هذا الجبل الأشم، فتوسّدت ثراه راضية مرضية، وكان رسول الله يتذكّر سير أولئك الأبطال ومصائرهم فيقول:
«أحد جبل يحبّنا ونحبّه» «3» .
فلمّا حانت وفاته، جعل اخر عهده بذكريات البطولة أن يزور قتلى أحد وأن يدعو الله لهم، وأن يعظ الناس بهم!!.
عن عقبة بن عامر، قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 3/ 163- 165، 169، 7/ 300؛ والنسائي: 1/ 277؛ والترمذي: 2/ 147، وصححه، وابن ماجه: 1/ 461؛ وأحمد: 5/ 431، من حديث جابر أيضا.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد: 5/ 431، 432؛ وابن هشام: 2/ 142، كلاهما من طريق ابن إسحاق. حدّثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري مرفوعا، وهذا سند صحيح، وابن صعير صحابيّ صغير، فهو مرسل صحابي، وهو حجة. وكذلك أخرجه البيهقي: 4/ 11، من طريق ابن عيينة عن الزهري به، وأخرجه أيضا من طريق أخرى عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه به. وإسناده صحيح أيضا.
(3)
حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 302؛ ومسلم: 4/ 124، وغيرهما من حديث أنس وغيره.