الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمدينة؛ بل لرعاية رسالته، التي تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعد ما تبرّمت مكة بها وبصاحبها وبمن حوله
…
إنّه أرسخ أهل الأرض يقينا بأنّ الله ناصره ومظهر دينه، بيد أنّه أسيف للفظاظة التي قوبل بها، وللجحد الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطرّه إلى الهجرة على هذا النحو العنيف، ها هو ذا يخرج من مكة، وقد أعلن سادتها عن الجوائز المغرية لمن يغتاله
…
روى أبو نعيم «1» : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله، قال:«الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعنّي على هول الدّنيا، وبوائق الدّهر، ومصائب الليالي والأيام، اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذلّلني، وعلى صالح خلقي فقوّمني، وإليك ربّ فحببني، وإلى النّاس فلا تكلني، رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والاخرين أن تحلّ علي غضبك، وتنزل بي سخطك، وأعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك، وجميع سخطك، لك العتبى عندي خير ما استطعت، ولا حول ولا قوّة إلا بك» .
[خبر الهجرة ينتشر في جوانب الصحراء] :
ومما يلفت النظر أنّ انطلاق الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة شاع في جوانب الصحراء، وكأنّ أسلاك البرق طيّرته إلى أقصى البقاع، فعلم به البدو والحضر على طول الطريق حتى يثرب، بل إنّ المحال التي عرّج بها وصل نبؤها إلى أهل مكة، بعد أن انصرف عنها.
والنّاس يعجبون بقصص البطولة، وتستثيرهم ألوان التحدي، وهم يتناقلون الأخبار السيالة على الألسن، فيضفون عليها ثياب الأساطير، وقد سرّت قلوب كثيرة بغلب محمد عليه الصلاة والسلام على من تبعوه، وترجمت عواطفها هذه شعرا يتغنى به، ولا يعرف قائله!! ..
(1) عزاه إليه ابن كثير: 3/ 187، من طريق محمد بن إسحاق، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة، قال
…
فذكر الدعاء، قلت: وهذا إسناد ضعيف معضل.
من ذلك ما روي عن أسماء «1» بنت أبي بكر، قالت: مكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من أسفل مكة يتغنّى بأبيات من الشّعر:
جزى الله ربّ النّاس خير جزائه
…
رفيقين حلّا خيمتي أمّ معبد
هما نزلا بالبرّ ثمّ تروّحا..!
…
فأفلح من أمسى رفيق محمّد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت أسماء: فلمّا سمعنا قوله عرفنا حيث توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ وجهه إلى المدينة!.
من القائل؟ تذكر الرواية أنّه من الجن! وتلك عادة العرب في نسبة شعرها، فلكلّ شاعر عندهم شيطان..! «2» .
والرّاجح أنّ الأبيات المذكورة من إنشاد مؤمن يكتم إيمانه بمكة، ويتسمّع أخبار المهاجرين، فيبدي فرحته بما يلقون من توفيق، ويجد متنفسا لمشاعره المتوارية في هذا الغناء المرسل.
والأبيات تشير إلى واقعة عرضت للرسول عليه الصلاة والسلام في أثناء رحلته، فقد مرّ على منازل خزاعة، ودخل خيمة أمّ معبد، فاستراح بها قليلا، وشرب من لبن شاتها.
(1) إسناده معضل؛ قال ابن إسحاق كما في السيرة (3/ 4، 5) : «فحدّثت أسماء بنت أبي بكر أنّها
…
» قالت: «.. فمكثنا ثلاث ليال، وما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإنّ الناس ليتبعونه، يسمعون صوته، وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة، وهو يقول
…
» فذكر الأبيات. وبعضها عن غير ابن إسحاق كما قال ابن هشام.
(2)
أقول: إذا جاز هذا على العرب في جاهليتهم؛ أفيجوز ذلك عليهم في إسلامهم، وقد نوّر الله به قلوبهم أن تتدنّس بشيء من الأوهام؟ أيجوز أن يقال في حقّ أسماء: إنّها أطلقت اسم (الجن) بل (الشيطان) على (المؤمن) ؟ وما هي الضرورة التي تلجئ حضرة المؤلف إلى هذه التأويلات البعيدة، بل الباطلة؟! ألا ترى في الرواية- كما ذكرنا- أنّ الجني كان الناس يتبعونه، يسمعون صوته، وما يرونه؟! أفهذا من صفات الإنسي؟! خير للمؤلف أن يعرض عن ذكر هذه الرواية مطلقا- ولا سيما وهي ضعيفة- من أن يتأوّلها هذا التأويل المستنكر، ثم وجدت الحديث موصولا أخرجه الحاكم: 3/ 9- 10، من حديث هشام بن حبيش، وقال:«صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي، وفيما قالاه نظر، وقال الهيثمي (6/ 58) :«رواه الطبراني، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم» لكن للحديث طريقين اخرين، أوردهما الحافظ ابن كثير في (البداية: 3/ 192- 194) : فالحديث بهذه الطرق لا ينزل عن رتبة الحسن، والله أعلم.