الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكاتبة الملوك والأمراء
كان الفرس يحتلون أجزاء كبيرة من جنوب الجزيرة، وكان الرومان يحتلون أجزاء أخرى من شمالها، وقد انتشرت ديانة المحتلّين في الأقاليم التي أخضعوها لنفوذهم، ومن العبث إرجاع هذا الانتشار للحرية العقلية المحضة، وعلى أية حال فإنّ المجوسية سادت الأقاليم التابعة لفارس، والنصرانية سادت الأقاليم التابعة للرومان، وكان أمراء هذه الأقاليم يعيّنون من قبل الدول الحاكمة، وينصاعون لأوامرها.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل بكتبه إلى رؤساء الدول الكبرى، وإلى أمراء الولايات المحتلة على سواء، يدعوهم إلى الله، ويعرض عليهم الإسلام.
روى مسلم عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي- وهو غير الذي صلّى عليه- وإلى كل جبّار؛ يدعوهم إلى الله عز وجل.
[كتابه إلى قيصر ملك الروم] :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (دحية بن خليفة) بكتابه إلى قيصر الروم، وليس الوصول إلى قيصر بدعوة غريبة على مسامعه أمرا سهلا، فكيف وهي- في نظر الرومان- من أعرابي ساذج ينتمي إلى قوم تحت سلطانهم!!.
وتقديرا لهذه الأوضاع اختار النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المهمة من يقوم بها إيمانا واحتسابا غير مبال بعواقبها عليه ولا نتائجها عند من يدعوه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ينطلق بصحيفتي هذه إلى قيصر، وله الجنّة؟» فقال رجل: وإن لم يقبل؟ قال: «وإن لم يقبل!» فأخذ دحية الكتاب، وسافر به إلى أرض الروم، فوافق هرقل وهو مقبل على بيت المقدس، يزوره عقب انتصاره على الفرس قربى إلى الله.
وتناول قيصر الكتاب، فقرأ فيه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد
رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد:
فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين:
ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [ال عمران: 64] » «1» .
وقد هاجت حاشية هرقل لاكتراث القيصر بهذه الرسالة، وازدادوا هياجا عند ما عرض عليهم- لا ندري جادا أم هازلا- أن يعتنقوا هذا الدّين!.
وهرقل- في نظرنا- رجل سياسيّ، وأمر الدين لا يعنيه إلا بقدر ما يدعم ملكه، وينمّي قوته، وقد تولّى شؤون الدولة في وقت كانت الخلافات الكنسيّة حول طبيعة المسيح تغلي غليان المرجل، وتثير في الأمة انقسامات مخيفة، وقد حاول التقريب بين وجهات النظر المتباينة، وجمع الكنائس المتخاصمة على مذهب واحد فعجز، وتمرّد عليه اليعاقبة وغيرهم في مصر والشام.
فالكلام في الإلهيات ليس غريبا عليه، والتقريب بين وجهات النظر لمصلحة الدولة- ديدنه، ولعلّه في أعماق قلبه يحسّ سخف أولئك المختلفين جميعا.
وربّما تألقت في نفسه لوقت محدود فكرة الخروج من عقيدة التثليث إلى بساطة التوحيد ثم انطفأت؛ لما ستجرّه على الدولة من خلاف أشقّ في وهمه، وأمر المملكة- عنده- أهمّ من أي شيء اخر.
وشاءت لباقة قيصر السياسي أن يستدعي دحية، وأن يحاول إيهامه بأنّه مسلم! ثم أعطاه قدرا من الدنانير.. وصرفه!.
وعاد دحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كذب عدوّ الله، ليس بمسلم» ، وأمر بالدنانير فقسمت على المحتاجين «2» .
(1) حديث صحيح من قوله: «وتناول قيصر
…
» إلى هنا، أخرجه البخاري: 3/ 31- 32؛ ومسلم: 5/ 165- 166، عن ابن عباس.
(2)
أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص 255، عن بكر بن عبد الله المزني، وإسناده صحيح، لكنه مرسل، بيد أن الزرقاني نقل في (شرح المواهب) : 3/ 240، عن «الفتح» : أنه في مسند أحمد أيضا، فلينظر فإنه لم يذكر صحابيه.