المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌رسول معلم كانت الإشاعات قد فاضت بين أهل الكتاب الأولين أن - فقه السيرة للغزالي

[محمد الغزالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمة

- ‌حول أحاديث هذا الكتاب

- ‌رسالة وإمام (مدخل إلى السيرة النبوية)

- ‌الوثنيّة تسود الحضارة القديمة

- ‌طبيعة الرّسالة الخاتمة

- ‌العرب حين البعثة

- ‌رسول معلم

- ‌منزلة السنّة من الكتاب الكريم

- ‌النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات

- ‌من الميلاد إلى البعث (العهد المكي)

- ‌[نسب النبي صلى الله عليه وسلم ومولده ورضاعه]

- ‌[نسبه ومكانته في قومه] :

- ‌[قلة ماله عليه الصلاة والسلام] :

- ‌[تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[كيفية استقبال جدّه لمولده] :

- ‌[عرضه على المراضع] :

- ‌شق الصدر

- ‌بحيرا الراهب

- ‌حياة الكدح

- ‌[أهداف التعليم] :

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌قوة ونشاط

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌[الزواج الميمون] :

- ‌الكعبة

- ‌باحثون عن الحقّ

- ‌في غار حراء

- ‌ورقة بن نوفل

- ‌جهاد الدّعوة (في مكة)

- ‌[محمد صلى الله عليه وسلم يحمل أعباء الدعوة إلى الله]

- ‌إلام يدعو الناس

- ‌1- الواحدانية المطلقة:

- ‌2- الدار الاخرة:

- ‌3- تزكية النفس:

- ‌4- حفظ كيان الجماعة المسلمة:

- ‌الرعيل الأوّل

- ‌إظهار الدعوة

- ‌أبو طالب

- ‌الاضطهاد

- ‌عمار بن ياسر رضي الله عنه:

- ‌بلال رضي الله عنه:

- ‌خباب رضي الله عنه:

- ‌مفاوضات

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌[التحذير من الإسرائيليات] :

- ‌[الهجرة الثانية إلى الحبشة] :

- ‌إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما

- ‌المقاطعة العامة

- ‌عام الحزن

- ‌في الطائف

- ‌[في جوار المطعم بن عدي] :

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌[لماذا المسجد الأقصى

- ‌حكمة الإسراء:

- ‌إكمال البناء:

- ‌سلامة الفطرة:

- ‌فرض الصلاة:

- ‌[صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين] :

- ‌قريش والإسراء:

- ‌[عرض الإسلام على القبائل] :

- ‌الهجرة العامّة مقدّماتها ونتائجها (العهد المدني)

- ‌[تمهيد]

- ‌[التحول الجديد] :

- ‌[بشارة اليهود بالنبي الجديد وكفرهم به] :

- ‌فروق بين البلدين

- ‌صنع اليهود

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌بيعة العقبة الكبرى

- ‌طلائع الهجرة

- ‌في دار الندوة

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌درس في سياسة الأمور:

- ‌في الغار:

- ‌في الطريق إلى المدينة:

- ‌دعاء:

- ‌[خبر الهجرة ينتشر في جوانب الصحراء] :

- ‌الوصول إلى المدينة

- ‌استقرار المدينة:

- ‌[النفس العظيمة] :

- ‌[مشكلات وحلول إيجابية] :

- ‌أسس البناء للمجتمع الجديد

- ‌[دعائم المجتمع الجديد]

- ‌[أولا] : المسجد:

- ‌[ثانيا] : الأخوة:

- ‌[ثالثا] : غير المسلمين:

- ‌المصطفون الأخيار

- ‌معنى العبادة

- ‌قيادة تهوي إليها الأفئدة

- ‌[أوصافه وبعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الكفاح الدّامي

- ‌[مرحلة الإعداد للجهاد]

- ‌[تمارين ومناورات ومعارك] :

- ‌سرايا

- ‌[حكمة بعث السرايا] :

- ‌سرية عبد الله بن جحش:

- ‌معركة بدر

- ‌[فرار أبي سفيان بالقافلة، واستصراخه أهل مكة] :

- ‌[استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه] :

- ‌[دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر] :

- ‌[بداية المعركة] :

- ‌[مقتل أبي جهل] :

- ‌[بشاشة الفوز تضحك للمؤمنين] :

- ‌محاسبة وعتاب (في الغنائم) :

- ‌[في الأسرى] :

- ‌في أعقاب بدر:

- ‌بدء الصراع بين اليهود والمسلمين

- ‌طرد يهود بني قينقاع:

- ‌[سر نقمة اليهود على الإسلام والمسلمين] :

- ‌مقتل كعب بن الأشرف:

- ‌مناوشات مع قريش

- ‌[بين بدر وأحد] :

- ‌معركة أحد

- ‌عبر المحنة:

- ‌[من بطولات الصحابة وتضحياتهم] :

- ‌[إصابة النبي صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[دروس وعبر] :

- ‌شهداء أحد:

- ‌[حمراء الأسد] :

- ‌اثار أحد:

- ‌[قصة الرجيع] :

- ‌[شهداء القرّاء في بئر معونة] :

- ‌[المصاب الفادح] :

- ‌[استعادة هيبة المسلمين] :

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌[الثأر لأصحاب الرجيع وبئر معونة] :

- ‌بدر الاخرة

- ‌دومة الجندل

- ‌غزوة بني المصطلق

- ‌حديث الإفك

- ‌غزوة الأحزاب

- ‌مع بني قريظة

- ‌[علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين] :

- ‌[نزول بني قريظة على حكم سعد] :

- ‌[قتل أبي رافع بن أبي الحقيق] :

- ‌طور جديد

- ‌عمرة الحديبية

- ‌[عدم الرغبة في القتال] :

- ‌[مفاوضات] :

- ‌[محاولات للاعتداء] :

- ‌[بيعة الرضوان] :

- ‌[شروط صلح الحديبية] :

- ‌[ردة فعل المسلمين على الشروط] :

- ‌[أحداث ما بعد الحديبية] :

- ‌مع اليهود مرة أخرى (يهود خيبر)

- ‌[حصون اليهود تتداعى] :

- ‌[نماذج من الشهادة] :

- ‌[أحداث ما بعد المعركة] :

- ‌[الأرض لله يورثها من يشاء] :

- ‌عودة مهاجري الحبشة

- ‌تأديب الأعراب

- ‌مكاتبة الملوك والأمراء

- ‌[كتابه إلى قيصر ملك الروم] :

- ‌[ردّ ملك غسان] :

- ‌[ردّ المقوقس ملك القبط] :

- ‌[ردّ فعل كسرى ملك فارس] :

- ‌[ردّ أمير البحرين] :

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة مؤنة

- ‌[التربية الجهادية للمجتمع المسلم] :

- ‌[مكانة القادة الثلاثة في الجنة] :

- ‌ذات السلاسل

- ‌[فقه عمرو] :

- ‌الفتح الأعظم

- ‌[أبو سفيان يحاول إصلاح ما أفسده قومه] :

- ‌[إنه شهد بدرا

- ‌[إسلام العباس رضي الله عنه] :

- ‌[تعمية أخبار الجيش] :

- ‌[دعوة أبي سفيان إلى الاستسلام] :

- ‌[دخول جيش المسلمين مكة] :

- ‌[مشاهد بعد الفتح] :

- ‌[ذكريات الشهداء] :

- ‌[إسلام فيه دخن] :

- ‌معركة حنين

- ‌هزيمة:

- ‌الثبات والنصر:

- ‌الغنائم:

- ‌حكمة هذا التقسيم:

- ‌عودة وفد هوازن:

- ‌حصار الطائف:

- ‌إلى دار الهجرة:

- ‌موقف المنافقين:

- ‌غزوة تبوك

- ‌[دعوة إلى البذل والعطاء] :

- ‌[مصاعب وصبر وعزيمة] :

- ‌[تحقيق أهداف الغزوة] :

- ‌المخلّفون

- ‌مسجد الضّرار:

- ‌طليعة الوفود

- ‌حج أبي بكر بالناس

- ‌وفد للأميين، ووفد لأهل الكتاب

- ‌أمّهات المؤمنين

- ‌[زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين و‌‌كلمة عن تعدّد الزوجات]

- ‌كلمة عن تعدّد الزوجات]

- ‌[زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة] :

- ‌[عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة رضي الله عنهن] :

- ‌[زواجه بالسيدة زينب رضي الله عنها] :

- ‌[زوجات أخريات] :

- ‌فأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب

- ‌وصفية بنت حيي

- ‌وجويرية بنت الحارث

- ‌حجّة الوداع

- ‌استقرار:

- ‌ حجة الوداع

- ‌إلى المدينة:

- ‌الرّفيق الأعلى

- ‌[شكوى النبي صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[اشتداد المرض] :

- ‌[أوامر ووصايا] :

- ‌[حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته] :

- ‌[وفاته صلى الله عليه وسلم واثارها على المسلمين] :

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ‌رسول معلم كانت الإشاعات قد فاضت بين أهل الكتاب الأولين أن

‌رسول معلم

كانت الإشاعات قد فاضت بين أهل الكتاب الأولين أن نبيّا قد اقترب ظهوره، ولهذه الإشاعات ما يبرّرها، فإن عهد الناس بالرسل أن يتتابعوا فلا تطول فترة الانقطاع بين أحدهم والاخر، وكثيرا ما تعاصر المرسلون فجمعتهم أقطار واحدة أو متجاورة، ولكن الأمر تغيّر بعد عيسى عليه السلام فكادت المئة السادسة تتم بعد بعثته، ولما يأت نبي جديد.

فلما اكتظّت الأرض بالمفاسد والضلالات زاد التطلّع إلى مقدم هذا المصلح المرتقب، وكان هناك رجال ممن ينكرون الجهالة السائدة يستشرفون للمنصب الجليل، ويتمنّون لو اختيروا له؛ منهم:(أمية بن أبي الصلت) الذي حفل شعره بالتحدّث عن الله وما يجب له من محامد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

«كاد أمية أن يسلم» «1» . وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال:«هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟» قلت: نعم؟ قال:

«هيه» ، فأنشدته بيتا، فقال:«هيه» ، حتى أنشدته مئة بيت «2» .

غير أن القدر الأعلى تجاوز أولئك المتطلّعين من شعراء وناثرين، وألقى بالأمانة الكبرى على رجل لم يتطلّع إليها ولم يفكر فيها:

وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86)[القصص] .

إن الاصطفاء للرسالات العظيمة ليس بالأمل فيها، ولكن بالطاقة عليها.

وكم في الحياة من طامحين لا يملكون إلا الجرأة على الأمل، وكم من راسخين يطويهم الصّمت، حتى إذا كلّفوا أتوا بالعجب العجاب.

(1) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 7/ 49؛ وابن ماجه: 2/ 410، من حديث أبي هريرة، وأخرجاه أيضا من حديث ابن الشريد، وهو تمام الحديث الاتي بعده.

(2)

حديث صحيح، أخرجه مسلم وابن ماجه.

ص: 28

ولا يعلم أقدار النفوس إلا بارئها، والذي يريد هداية العالم أجمع يختار للغاية العظيمة أنفسا عظيمة، وقد كان العرب في جاهليتهم يرمقون محمدا صلى الله عليه وسلم بالإجلال، ويحترمون في سيرته شارات الرجولة الكاملة، إلّا أنهم لم يتخيّلوا قط أن مستقبل الحياة قد ارتبط بمستقبله، وأن الحكمة ستتفجّر من ذلك الفم الطّهور، فتطوي السهوب والجدوب، وتثب الوهاد والنّجاد.

إنهم لا يرون منه إلا ما يراه الطفل من سطح البحر، تشغله الصفحة الهادئة عن الغور البعيد.

كان اصطفاء الله لمحمد صلى الله عليه وسلم مفاجأة لم تلبث روعتها أن تكشفت عنه، ثم ثبت الكاهل الجلد لما ألقي عليه، ومضى على النهج مسددا مؤيدا.

ومكث الوحي ينزل ثلاثا وعشرين سنة كانت الايات تنزل خلالها حسب الحوادث والأحوال، وهذه الفترة الطويلة الحافلة هي فترة تعلّم وتعليم.

الله عز وجل يعلّم رسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى هذه المعارف الحية، فيديرها في نفسه حتى يحيلها جزا من كيانه، ثم يعلّمها الناس ويأخذهم بها أخذا.

ونزول القران على هذه الوتيرة مقصود للشارع الحكيم، فإن الزمن جزء من علاج النفوس، وسياسة الأمم، وتقرير الأحكام.

واتساق القران في أغراضه ومعانيه- على طول المدة التي استغرقها في تجمّعه- يعتبر من وجوه إعجازه؛ فإن خواتيمه- بعد ربع قرن- جاءت مطابقة مساوقة لفواتحه، يصدق بعضها بعضا ويكمله، كأنما أرسلت في نفس واحد.

وقد تساءل العرب: لم نزل القران كذلك؟ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)[الفرقان] .

إنّ القران يشرح حقيقة الدين عند الله وتاريخ هذه الحقيقة، وهو- في دعوته العامة- يبسط الشبهات العارضة ويفنّدها، ويسوق أدلته وهو على بينة من اراء خصومه، ويتتبع أقصى ما يثار ضدّه، ثم يكرّ عليه بالحجة فيمحقه، وقد بدأ القران بين قوم تشعّب الكفر في نفوسهم، ومرنت على الجدل ألسنتهم، وكأنّ القدر تخيّر هذه البيئة لتكون مجتمعا يمثل اخر ما يحيك في القلوب من ريبة، واخر ما يبذله الباطل من التحدي، فإذا أفلح الإسلام في

ص: 29

تبديد هذه الريب، وتذليل هذه العوائق، فهو على ما دونها أقدر.

والأسئلة التي توجّه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو التي ينتظر أن توجّه إليه في مختلف العقائد والأحكام؛ وجدت إجابتها الشافية في القران، باعتبار أن السؤال لا يمثل حاجة صاحبه واحدها، بل حاجات الناس على مر الأيام.

وفي هذا الجوّ المليء بالتساؤل استفهاما أو استنكارا؛ كان الإلهام يلاحقّ الرسول صلى الله عليه وسلم: قل كذا، قل كذا.

وما أكثر الايات التي صدرت بهذا الأمر إجابة لسؤال ورد أو سؤال مفترض.

وأنت تحسّ- إذ تقرأ هذه الأجوبة المستفيضة- فيضا من اليقين ينساب إلى قلبك، كأنها حسمت وساوس عرضت لك أو في الإمكان أن تعرض، والرسالة الخالدة هي التي تصلها بضمائر الناس هذه الأواصر المتينة.

إنّ القران رسول حي، تسائله فيجاوبك، وتستمع إليه فيقنعك.

انظر: كيف يؤسس عقيدة البعث والجزاء، وينوّه بشمول الإرادة والقدرة في ثنايا إجابة على سؤال موجّه، وكيف صيغت المعاني في أخذ وردّ، واعتراض ودفع، كأنها حوار سيّال، يتعدّى أصحابه حتى يجمع الناس إلى اخر الدهر:

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)[يس] .

إنّ هذا مثل للاستدلال القائم على النّظر الصائب، لا يختص به زمان دون زمان، ولا مكان دون مكان، فهو خطاب للعقل العام في البشر أجمعين، وهو بيان لحكمة نزول القران منجّما إذ جاءت الايات للرسول صلى الله عليه وسلم: قل كذا، ردّا على ما عرض له من أسئلة في أثناء تطوافه هنا وهناك يدعو إلى الله، ثم ثبت السؤال والجواب ليكون منهما علم ينفع الناس اخر الدهر.

ص: 30

وقد استوقف الأمر ب قالَ نظر العلماء؛ إنه تعليم من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وتعليم من الرسول للناس، وقد سيقت بعد هذا الأمر الأقوال التي تضمّنت ما شاء الله من النصائح والعظات والأحكام.

فعند ما أحبّ المشركون- على عادتهم- أن ينقلوا ميدان الجدل من حقيقة الدين، إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ نزلت الايات:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)[الملك] .

فانظر كيف يستخلص اللّباب وسط غبار الجدل! ما يجديكم تنقّص الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه؟ فكّروا في أنفسكم كيف أهلكتها الخرافات، وشردت بها عن الجادة! إنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه تفكير في أنفسهم وحظوظها، إنهم دعاة للرحمن، آمنوا به، وتوكّلوا عليه فإن شئتم فالطريق إلى الرحمن ميسرة.

وليس من الضروري أن يقع سؤال ما لتأتي الإجابة عليه من لدن الله قالَ!! فربما يجيء السياق على هذا النحو ابتداء عند عرض أصول الدعوة وادابها، وتكون الغاية منه التعريف بالإسلام ونبيّه تعريفا مشبعا مقنعا، يستأصل الرّيب قبل أن تولد:

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام] .

فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم هنا يتضمّن أمرا إلى كل حيّ وجد في عهده، أو يوجد من بعده: أن يتدبّر- بعقله- ما يلقى إليه، وأن يحكم- بضميره- على مدى صحته وإخلاصه.

فإذا تعلّق بقلبه إيمان فهو إيمان بربّ كل شيء، وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي عند هذا الحدّ، عند وصل العقول والقلوب ببارئها، وإيضاح الصراط المستقيم لها، وعلى كلّ إنسان تحمّل تبعته في فعل الخير أو الشرّ بعد ذلك.

فليس الرسول صلى الله عليه وسلم وسيطا يحمل لك خيرا قدمته، ولا قربانا يحمل عنك

ص: 31

عقابا استحققته، لأنه لا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وهنا يبدو بعد الشّقة بين المسيحية والإسلام.

الإسلام يغالي بقدر الإنسان، ويعطيه جزاءه الحق على الرفعة والضّعة.

أما النصرانية فالمرء عندها أنزل قدرا من أن يتّصل برب العالمين من تلقاء نفسه، لا بد من اخر يحمل قربته ويقبل توبته، ومن ذلك الاخر؟ شخص دعيّ! فإذا اقترف ذنبا فليس هو الذي يلقى قصاصه، إن القربان ذبح قديما من أجل خطيئته تلك، وعليه أن يصدق بذلك لينجو إن أراد النجاة، وهذا الخبط يحتاج إلى جرارات ثقيلة ليسير في الحياة مراغما للمنطق والعدالة.

أما إلاسلام فإن الله يقول لنبيّه عليه الصلاة والسلام قولا تتفتّح له الأعين والأفهام:

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)[الرعد] .

إن هذه الاستفهامات المترادفة سياط تلدغ الباطل، وتجعل العقل النائم يصحو من سباته، وتحفز الإنسان إلى اعتناق الحقيقة والتسامي بها.

وذلك ما يعلنه ويعمل له رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد لقي الإسلام مقاومة عنيفة أشدّ العنف من الوثنية السائدة، فهي لم تلفظ أنفاسها في معركة أو معركتين؛ بل قاتلت ببأس شديد على كلّ شبر من الأرض، وكان الظنّ أن قواها خارت وانماعت عند ما أدّى الرسول صلى الله عليه وسلم أمانته وذهب إلى الرفيق الأعلى، بيد أن الجزيرة انتفضت بأسرها في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وانحصر المسلمون وسط طوفان من الردة العمياء، شرعوا يكافحونه مرة أخرى، فما استطاعوا كسر شوكته إلا بعد ما تكبّدوا من الخسائر أكثر مما فقدوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام في مقاتلة أولئك المشركين «1» .

ص: 32

إنّ الرجال الذي ثبتوا على الحق بعد رحيل نبيهم صلى الله عليه وسلم عنهم هم المسلمون حقّا، فإن الإسلام رباط بمبادئ لا بأشخاص، وقد علّم الله نبيّه وعلّم المسلمين في شخصه أن يلتزموا الحقّ الذي عرفوا، وأن يتشبثوا به مهما غولبوا وحوربوا.

والدنيا طافحة بأسباب الزيغ، وهي تحاول أولا ألا تبقي للإيمان مكانا بها، فإذا ظفر بكسب بعد طول عناء، حاولت أن تلاينه حتى ينزل عن شيء ويكتفي بشيء، ولو أفلحت في استدراجه إلى هذه المنزلة لأمكنها الإجهاز عليه، ولذلك جاءت أوامر الله في كتابه حاسمة تقضي بأن الإيمان كلّ لا يتجزأ، وأن مناجزة الكافرين، على هذه الحقيقة لا يجوز أن تهدأ، فلا بد من الاستمساك بهذه التعاليم المترابطة! والحبّ والبغض عليها، والمسالمة أو المحاربة دونها، فإن نصيب العاطفة في خدمة العقيدة، لا يقل عن نصيب العقل.

والايات الواردة في ذلك هي أوامر للمسلمين تنزلت في شكل خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)[الأحزاب] .

فليس الرسول صلى الله عليه وسلم مظنة أن يطيع الكافرين والمنافقين حتى ينبّه إلى التحرّز منهم، ولكننا نحن المعنيون بهذا الإرشاد.

ومن ذلك: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص] .

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من بدء دعوته حربا على الشرك، وعلى الالهة الاخرى، ومنه تعلّم الناس هذه الخصومة، ويستحيل أن يتوقّع منه غيرها.

ومن ذلك: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)[الحجر] .

وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف] .

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95)[يونس] .

ص: 33

قال المفسّرون: خوطبت الأمة في شخص رسولها كما تصدر الأوامر إلى القائد، مع أنّ الجند هم المنفّذون.

وقيل: بل الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام على طريق الإهاجة واستثارة الهمّة، يقال للقوي البادي العزم: لا تهن، وللعاقل الصحيح الذهن: لا تغافل، وليس يخاف عليهما وهن ولا غفلة، ولكن الأمر تحريض على استدامة القوة والذكاء، والشجاع يزداد على الموت إقبالا إذا قيل له: لا تجبن.

وسواء كان هذا أم ذاك فإنّ الرسول عليه الصلاة والسلام مناط الأسوة الحسنة، ومن سلوكه يأخذ الناس مثلهم الأعلى، وقد أمر وأمرنا معه بالتوجس من الضالين، والتنائي عن خلقهم وعملهم، وازدراء متاعهم وغرورهم؛ وذلك لأن هناك أحيانا شتى يضعف فيها الحقّ، ويعزّ التمسّك به، ويقوى فيها الباطل، وتكثر المغريات على مصادقته، أو مهادنته.

ومن حقّ العقائد على أصحابها أن يتشدّدوا في تدعيم جانبها، وأن يتنكّروا لما يمسّها من بعيد.

والأوامر التي تنظّم هذه المشاعر لن تنقصها الصّرامة، وماذا بعد أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)[الزمر] .

إن هذا الخطاب يقرع اذاننا، وله مغزاه، كما قيل:«إياك أعني واسمعي يا جارة» «1» ، وقد كان لهذا الأسلوب أثره في تأليب المسلمين على الفساد، وترهيبهم من الرّكون إليه، بله الوقوع فيه.

وأقوال المفسّرين التي سردناها تنطبق أيضا على الاية: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] .

الخطاب للقارئ، أو السامع، أو للرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على جهة التهييج والتحريض كما علمت: إذ إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لن يقع

(1) مثل يضرب للتعريف بالشيء يبديه الرجل، وهو يريد غيره، وأول من قاله سهل بن مالك الفزاري في أخت حارثة بن لأم الطائي:

يا أخت خير البدو والحضاره

كيف ترين في فتى فزاره

أصبح يهوى حرّة معطاره

إياك أعني واسمعي يا جاره

انظر: الأمثال، لأبي عبيد الميداني: 1/ 49. (ن) .

ص: 34

منه شك في أمر نبوّته، والكلام هنا، فرض للمستحيل كما قيل في سورة أخرى:

قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)[الزخرف] ، ولكن ما معنى سؤال أهل الكتاب؟!.

قالوا: المراد: الثقات المنصفون منهم، فهم لن يكتموا شهادة الحق إذا طلبت إليهم.

وعندي: أن العدول الصادقين من أهل الكتاب قلة لا يعوّل على حكمها، وما أظن الاية تعني ذلك.

ولكن المرء يزداد تبصّرا بنفاسة ما عنده من خير إذا رأى ما عند غيره من خلط، ولو ارتبت لحظة في أن القران من عند الله، ثمّ تصفحت كتب العهدين القديم والجديد، لعدت- على عجل- إلى كتابك تتشبّث به، وتحمد الله ألف مرة أن هديت إليه!!.

وأحسب أن هذا ما تشير إليه الاية، فإنّ تبيّن ما في الإسلام من حقّ يزداد قوة عند اكتشاف ما طرأ على الأديان الأولى من تشويه، وهذا يتفق مع قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: 120]، ويزكي فهمنا هذا في الاية الكريمة ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال:«يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب؟! وكتابكم الذي أنزل على نبيّكم أحدث الكتب بالله، تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! ولا، والله ما رأينا منهم رجلا قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم!» .

إن الإسلام من الناحية العقلية معرفة للحقيقة، ومن الناحية العاطفية حبّ لها وإعزاز، وكراهية للباطل وعداء صريح.

إن هناك أناسا في مشاعرهم برودة يلقون بها الرأي وضدّه! وقد يتصوّر هذا في بعض المسائل التافهة، أما أن يتعلّق الأمر بالإيمان والإلحاد، والفجور والعفاف، فلا.

ص: 35

إن الله علّم رسوله صلى الله عليه وسلم الكتاب، والإيمان، فكان من عرفان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل الإلهي أن غالى بإيمانه واعتزّ بقرانه، فعاش بهما وعاش لهما، وخاصم وسالم فيهما، وطالما تمنّى عداته أن يركن إليهم شيئا قليلا، ولكن هيهات! وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)[القلم] ، والأمة الجديرة بالانتماء إليه هي الأمة التي تناضل على الحق؛ فلا تسمح بانتقاص له، ولا حيف عليه، ومن خصائصها أنها أمة فكر ومنهاج، يقوم كيانها المادي والأدبي على ما تبذل في ذلك من جهد وتثمر من نتاج.

ص: 36