الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفاوضات
ظنّ المشركون أن بطشهم بالمستضعفين، ونيلهم من غيرهم سوف يصرف الناس عن الاستجابة لداعي الله، وظنّوا أن وسائل السخرية والتهكّم التي جنحوا إليها ستهدّ قوى المسلمين المعنوية، فيتوارون خجلا من دينهم، ويعودون كما كانوا إلى دين ابائهم، غير أن ظنونهم سقطت جميعا، فإنّ أحدا من المسلمين لم يرتد عن الحقّ الذي شرفه الله به، بل كان المسلمون يتزايدون! ولم تفلح طرق الاستهزاء في الصدّ عن سبيل الله، أو تشويه معالمها، إنها زادت شعور المسلمين بما تزخر به الوثنية من معرّات ومخاز، تستحق الفضيحة والاستئصال، ما تصنع سخرية الجهول بالعالم؟!.
إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
…
[هود] .
رأت قريش أن تجرّب أسلوبا اخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد صلى الله عليه وسلم تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذره مغبة هذا التأييد، حتى يكلّم هو الاخر محمدا أن يسكت، فلا يجرّ المتاعب على كافله ووليه.
أرسلت قريش (عتبة بن ربيعة) - وهو رجل رزين هادئ- فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا بن أخي! إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم؛ فرّقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلّك تقبل بعضها:
إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا.
وإن كنت تريد شرفا، سوّدناك علينا، فلا نقطع أمرا دونك.
وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا.
وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.
فلما فرغ من قوله، تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام عليه صدر سورة فصّلت:
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) .
حتى وصل إلى قوله تعالى:
…
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13)«1» .
تخيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الايات من الوحي المبارك، ليعرّف محدّثه حقيقة الرسالة والرسول؛ إنّ محمدا عليه الصلاة والسلام يحمل كتابا من الخالق إلى خلقه يهداهم من ضلال، وينقذهم من خبال، وهو- قبل غيره- مكلّف بتصديقه، والعمل به، والنزول عند أحكامه، فإذا كان الله يطلب من عباده أن يستقيموا إليه ويستغفروه، فمحمد عليه الصلاة والسلام ألهج الناس بالاستغفار، وألزمهم للاستقامة، وما يطلب ملكا، ولا مالا، ولا جاها، لقد أمكنه الله من هذا كله فعفّ عنه، وترفّع أن يمدّ يده إليه، وبسط العطاء مما سيق إليه من خيرات، فأنفق واديا من المال في ساعة من نهار، وترك الحياة غير معقّب لذريته درهما.
إن عتبة- باسم قريش- يريد أن يترك محمد عليه الصلاة والسلام الدعوة إلى الله، وإقامة العدالة بين الناس! ماذا تصير إليه الحياة لو أن صخرة من الأرض انخلعت عنها وصعدت إلى دارات الفلك تطلب من الشمس أو أي
(1) هذه القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي: 1/ 185، من سيرة ابن هشام، بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي مرسلا، ووصله عبد بن حميد، وأبو يعلي، والبغوي من طريق أخرى من حديث جابر رضي الله عنه، كما في تفسير ابن كثير: 4/ 90- 91، وسنده حسن إن شاء الله.
كوكب اخر أن يقف مسيره وإشعاعه، ويحرم الوجود من ضيائه وحرارته؟!.
ألا ما أغرب هذا الطلب! وما أجدر صاحبه أن يرتدّ إلى مكانته لا يعدوها! ولذلك بعد ما استمع عتبة إلى ايات القران توقظ ما كان نائما من فكره، استمع إلى الوعيد يهدر، فيحرك ما كان هاجعا من عاطفته: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13)[فصلت] . لقد وضع عتبة يده على جنبه، وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش يقترح عليها أن تدع محمدا وشأنه!!.
أما وفد قريش إلى أبي طالب، فقد أخذ يقول: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سبّ الهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل اباءنا، فإمّا أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولا جميلا، وردّهم ردّا رفيقا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو عليه، ثم استشرى الأمر بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال فتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتامروا فيه فمشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب إن لك فينا سنّا وشرفا، وإنا قد استنهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل، وإنا- والله- لا نصبر على هذا من شتم الهتنا وابائنا، وتسفيه أحلامنا حتى تكفّه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك؛ إلى أن يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.
عظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له، ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلمه ما قالت قريش، وقال له: أبق على نفسك وعليّ، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه رأي، وأنه خذله، وضعف عن نصرته، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه:«يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه؛ ما تركته» «1» .
(1) حديث ضعيف، أخرجه ابن إسحاق: 1/ 170، ومن طريقه ابن جرير: 2/ 67، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس به. وهذا إسناد معضل، يعقوب هذا لم يدرك أحدا من الصحابة، فهو من أتباع التابعين. وقد أخرج هذه القصة مختصرا الطبراني في الأوسط والكبير من حديث عقيل بن أبي طالب، وفيه مكان قوله: «لو وضعوا-
ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلما ولّى ناداه عمه أبو طالب، فأقبل عليه وقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا، وأنشد:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتى أوسّد في التّراب دفينا
وهكذا أخفق الإغراء والإرهاب في تعويق الدعوة، وأدركت قريش أن ما تصبوا إليه بعيد المنال، فعادت سيرتها الأولى، تصبّ جام غضبها على المؤمنين، وتبذل اخر ما في وسعها للتنكيل بهم، ومحاولة فتنهم عن دينهم.
وحزن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للماسي التي تقع لأصحابه، وهو عاجز عن كفّها، فأوعز إلى من قلّ نصيره، ونبا به المقام في مكة أن يهجرها إلى الحبشة، وكان ذلك لخمس سنين من مبعثه، أو بعد سنتين من جهره بالبلاغ.
- الشمس
…
» ما نصه: «والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار» ، وفيه عقب هذا: فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، ارجعوا راشدين. قال الهيثمي في (المجمع: 6/ 15) : «رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح» .