الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَا يَكْفِي الِاسْتِحْلَالُ إلَيْهِمْ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَيُكْثِرُ الْحَسَنَاتِ وَلَوْ رَضِيَ أَنْ يُشْتَمَ أَوْ يُغْتَابَ أَوْ يُجْنَى عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ) لِأَنَّ إسْقَاطَ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِهِ لَا يَصِحُّ وَإِذْنُهُ فِي عِرْضِهِ كَإِذْنِهِ فِي قَذْفِهِ وَدَمِهِ.
(وَيَأْتِي لِذَلِكَ تَتِمَّةٌ فِي بَابِ شُرُوطِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) وَبَيَانِ مَعْنَى التَّوْبَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
[بَابُ حَدِّ الْمُسْكِرِ]
(بَابُ حَدِّ الْمُسْكِرِ) السُّكْرُ اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّكْرَانُ خِلَافُ الصَّاحِي وَالْجَمْعُ سَكْرَى وَسُكَارَى بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا وَالْمَرْأَةُ سَكْرَى وَلُغَةُ بَنِي أَسَدٍ سَكْرَانَةُ وَالْمُسْكِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَسْكَرَ الشَّرَابُ إذَا جَعَلَ صَاحِبَهُ سَكْرَانَ أَوْ كَانَ فِيهِ قُوَّةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ مُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا نُقِلَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ وَابْنِ جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ أَنَّهَا حَلَالٌ فَمَرْجُوعٌ عَنْهُ.
نَقَلَهُ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَغَيْرُهُمَا وَسَنَدُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ} [المائدة: 90] الْآيَاتِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» .
وَفِي لَفْظٍ «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ (كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَمَّرَ الْعَقْلُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَيُسَمَّى) كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ (خَمْرًا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (وَلَا يَجُوزُ شُرْبُهُ) أَيْ الْمُسْكِرِ (لِلَّذَّةِ وَلَا لِتَدَاوٍ) لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حَجَرٍ «أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ وَكَرِهَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا
لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (وَلَا عَطَشَ بِخِلَافِ مَا نَجِسَ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ بِخِلَافِ الْمُسْكِرِ.
فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ رِيٌّ لِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ مَا يُزِيدُ الْعَطَشَ (وَلَا) يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمُسْكِرِ فِي (غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَا ذَكَرَ (إلَّا لِمُكْرَهٍ) فَيَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَقَطْ لِحَدِيثِ: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (أَوْ مُضْطَرُّ إلَيْهِ) خَافَ التَّلَفَ (لِدَفْعِ لُقْمَةِ غَصَّ بِهَا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُسِيغُهَا) فَيَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُهُ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وَلِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ مَطْلُوبٌ بِدَلِيلِ إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا (وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُسْكِرِ (بَوْلٌ) لِوُجُوبِ الْحَدِّ بِاسْتِعْمَالِ الْمُسْكِرِ دُونَ الْبَوْلِ (وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى الْمُسْكِرِ وَالْبَوْلِ (مَاءٌ نَجِسٌ) لِأَنَّ الْمَاءَ مَطْعُومٌ بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ حِلِّ اسْتِعْمَالِهِ نَجَاسَتُهُ (وَفِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ) كَالشَّرْحِ (إنْ شَرِبَهَا) أَيْ الْخَمْرَ (لِعَطَشٍ فَإِنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ) كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَكَإِبَاحَتِهَا لِدَفْعِ الْغُصَّةِ (وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ لَمْ تُبَحْ) لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا لِأَنَّهَا لَا تَرْوِي بَلْ تُزِيدُهُ عَطَشًا (وَعَلَيْهِ الْحَدُّ انْتَهَى) .
لِأَنَّ الْيَسِيرَ الْمُسْتَهْلَكَ فِيهَا لَمْ يَسْلُبْ عَنْهَا اسْمَ الْخَمْرِ (وَإِذَا شَرِبَهُ) أَيْ الْمُسْكِرَ (الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ مُخْتَارًا) لِحِلِّهِ لِمُكْرَهٍ (عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ سَوَاءٌ كَانَ) الشَّرَابُ الْمُسْكِرُ (مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ) لِمَا سَبَقَ (قَلِيلًا كَانَ) الَّذِي شَرِبَهُ مِنْ الْمُسْكِرِ (أَوْ كَثِيرًا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ الشَّارِبُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا جَلَدُوا شَارِبَهَا.
وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ خَمْرٌ فَيَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ (ثَمَانُونَ جَلْدَةً) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ وَكَتَبَ بِهِ إلَى خَالِدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِّ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي الْمَشُورَةِ: " إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ " رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُخْتَلَفِ
فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ اسْتَفَاضَتْ بِتَحْرِيمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ هُنَا فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عُذْرٌ فِي اعْتِقَادِ إبَاحَتِهِ وَقَدْ عَمَّمَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابُهُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ إبَاحَةَ مَا شَرِبُوهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدَاتِ (وَالرَّقِيقِ) إذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ وَكَانَ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا عَالِمًا بِهِ حَدُّهُ (أَرْبَعُونَ) عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةً كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ (وَلَا حَدَّ وَلَا إثْمَ عَلَى مُكْرَهٍ عَلَى شُرْبِهَا سَوَاءٌ أُكْرِهَ بِالْوَعِيدِ أَوْ بِالضَّرْبِ أَوْ أُلْجِئَ إلَى شُرْبِهَا بِأَنْ يُفْتَحَ فُوهُ) وَيُصَبَّ فِيهِ (الْمُسْكِرُ) لِمَا تَقَدَّمَ (وَصَبْرُهُ) أَيْ الْمُكْرَهِ (عَلَى الْأَذَى أَوْلَى مِنْ شُرْبِهَا وَكَذَا كُلُّ مَا جَازَ فِعْلُهُ لِمُكْرَهٍ) فَصَبْرُهُ عَلَى الْأَذَى أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ (وَلَا) حَدَّ أَيْضًا (عَلَى جَاهِلٍ تَحْرِيمَهَا) لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (فَلَوْ ادَّعَى الْجَهْلَ) بِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ (مَعَ نَشْأَتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقْبَلْ) مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
(وَلَا تُقْبَلُ) أَيْ لَا تُسْمَعُ (دَعْوَى الْجَهْلِ بِالْحَدِّ) فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْخَمْرَ يُحَرَّمُ لَكِنْ جَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِشُرْبِهِ حُدَّ وَلَمْ تَنْفَعْهُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالْعُقُوبَةِ كَمَا مَرَّ فِي الزِّنَا (وَيُحَدُّ مَنْ احْتُقِنَ بِهِ) أَيْ الْمُسْكِرِ (أَوْ اسْتَعَطَ) بِهِ (أَوْ تَمَضْمَضَ بِهِ فَوَصَلَ إلَى حَلْقِهِ أَوْ أَكَلَ عَجِينًا لُتَّ بِهِ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الشُّرْبِ (فَإِنْ خُبِزَ الْعَجِينُ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزه لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ (وَإِنْ ثُرِدَ فِي الْخَمْرِ أَوْ اصْطَبَغَ بِهِ أَوْ طَبَخَ بِهِ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقه حُدَّ) لِأَنَّ عَيْنَ الْخَمْرِ مَوْجُودَةٌ (وَلَوْ خَلَطَهُ) أَيْ الْمُسْكِرَ (بِمَاءٍ فَاسْتُهْلِكَ) الْمُسْكِرُ (فِيهِ) أَيْ الْمَاءِ (ثُمَّ شَرِبَهُ) لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ فِي الْمَاءِ لَمْ يُسْلَبْ اسْمُ الْمَاءِ عَنْهُ (أَوْ دَاوَى بِهِ) أَيْ الْمُسْكِرِ (جُرْحَهُ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ شَرَابًا وَلَا فِي مَعْنَاهُ (وَلَا يُحَدُّ ذِمِّيٌّ وَلَا مُسْتَأْمَنٌ بِشُرْبِهِ) أَيْ الْمُسْكِرِ (وَلَوْ رَضِيَ بِحُكْمِنَا لِأَنَّهُ يُعْتَقَدُ حِلَّهُ) وَذَلِكَ شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ.
(وَيَثْبُتُ شُرْبُهُ) أَيْ الْمُسْكِرِ (بِإِقْرَارِهِ) أَيْ الشَّارِبِ (مَرَّةً كَقَذْفٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ (وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ رَائِحَةُ) الْخَمْرِ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ (أَوْ) بِ (شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى بَيَان نَوْعِهِ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجِبُ الْحَدَّ (وَلَا أَنَّهُ شَرِبَهُ مُخْتَارًا عَالِمًا أَنَّهُ مُسْكِرٌ) أَوْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ (وَلَا يُحَدُّ بِوُجُودِ رَائِحَةِ) الْخَمْرِ (مِنْهُ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا أَوْ ظَنَّهَا مَاء فَلَمَّا صَارَتْ فِي فِيهِ مَجَّهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ (وَلَكِنْ يُعَزَّرُ حَاضِرُ شُرْبِهَا) لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا قَالَ: صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَبَائِعَهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ» (وَمَتَى رَجَعَ) الْمُقِرُّ بِالشُّرْبِ
(عَنْ إقْرَارِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ) لِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ (كَسَائِرِ الْحُدُودِ غَيْرِ الْقَذْفِ) لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ كَمَا سَبَقَ (وَلَوْ وُجِدَ سَكْرَانُ أَوْ تَقَايَأَهَا) أَيْ الْخَمْرَ (حُدَّ) لِأَنَّهُ لَمْ يَسْكَرْ أَوْ يَتَقَيَّأُهَا إلَّا وَقَدْ شَرِبَهَا (وَإِذَا أَتَى عَلَى عَصِيرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ حَرُمَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ غَلَيَانٌ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ يَشْرَبُهُ إلَى مَسَاءِ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى الْخَدَمُ أَوْ يُهْرَاقَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَحَكَى أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " الْعَصِيرُ أَشْرَبُهُ مَا لَمْ يَأْخُذْ شَيْطَانَهُ قِيلَ وَفِي كَمْ يَأْخُذُ شَيْطَانَهُ؟ قَالَ: فِي ثَلَاثَةٍ " وَلِأَنَّ الشِّدَّةَ تَحْصُلُ فِي ثَلَاثِ لَيَالٍ وَهِيَ خَفِيفَةٌ تَحْتَاجُ إلَى ضَابِطٍ وَالثَّلَاثُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ (إلَّا أَنْ يَغْلِيَ) كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ (وَيَقْذِفَ بِزَبَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَيُحَرَّمُ) وَلَوْ لَمْ يُسْكِرْ لِمَا رَوَى الشَّالَنْجِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «الْعَصِيرُ ثَلَاثًا مَا لَمْ يَغْلِ» وَلِأَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الشِّدَّةُ الْحَادِثَةُ فِيهِ وَهِيَ تُوجَدُ بِوُجُودِ الْغَلَيَانِ فَإِذَا خُلَّ حَرُمَ (وَلَوْ طُبِخَ) الْعَصِيرُ (قَبْلَ التَّحْرِيمِ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يَغْلِيَ وَقَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ (حَلَّ إنْ ذَهَبَ) بِطَبْخِهِ (ثُلُثَاهُ نَصًّا) ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ أَبَا مُوسَى " كَانَ يَشْرَب مِنْ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَلَهُ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ إنَّمَا يَغْلِي لِمَا فِيهِ مِنْ الرُّطُوبَةِ فَإِذَا غَلَى عَلَى النَّارِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ رُطُوبَتِهِ فَلَا يَكَادُ يَغْلِي وَإِذَا لَمْ يَغْلِ لَمْ تَحْصُلْ فِيهِ الشِّدَّةُ.
لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالرُّبِّ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ حِين قَالَ لَهُ أَبُو دَاوُد إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ يُسْكِرُ فَقَالَ: لَوْ كَانَ يُسْكِرُ مَا أَحَلَّهُ عُمَرُ (وَقَالَ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَغَيْرُهُمَا الِاعْتِبَارُ فِي حِلِّهِ عَدَمُ الْإِسْكَارِ سَوَاءٌ ذَهَبَ بِطَبْخِهِ ثُلُثَاهُ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ) لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَظِنَّةَ الْإِسْكَار وَحَيْثُ انْتَفَتْ فَالْأَصْلُ الْحِلُّ.
(وَالنَّبِيذُ مُبَاحٌ مَا لَمْ يَغْلِ أَوْ تَأْتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ أَيَّامٍ) بِلَيَالِيِهِنَّ (وَهُوَ) أَيْ النَّبِيذُ (مَاءٌ يُلْقَى فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ أَوْ نَحْوُهُمَا لِيَحْلُوَ بِهِ الْمَاءُ وَتَذْهَبُ مُلُوحَتُهُ) رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ كَانَ يَنْقَعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الزَّبِيبَ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إلَى مَسَاءِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ فَيُسْقَى ذَلِكَ الْخَدَمُ أَوْ يُهْرَاقَ» وَقَوْلُهُ: " إلَى مَسَاءِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ " يَكُونُ قَبْلَ تَمَام الثَّلَاثِ بِقَلِيلٍ فَيَسْقِي ذَلِكَ الْخَدَمَ إنْ شَاءَ أَوْ يَشْرَبُهُ أَوْ يُهْرَاقُ قَبْلَ أَنْ تَتِمَّ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ لِيُنْبَذَ غَيْرُهُ فِي وِعَائِهِ (فَإِنْ طُبِخَ) النَّبِيذُ (قَبْلَ غَلَيَانِهِ حَتَّى صَارَ غَيْرَ مُسْكِرٍ كَرَبِّ الْخَرُّوبِ وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ) إذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ وَظَاهِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ
بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ وَهُوَ وَاضِعٌ عَلَى قَوْلِ الْمُوَفَّقِ وَمَنْ تَابَعَهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ (وَجَعَلَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ وَضْعَ زَبِيبٍ فِي جَرْدَلٍ كَعَصِيرٍ) يَعْنِي يَحْرُم إذَا غَلَى أَوْ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ (وَإِنَّهُ إنْ صَبَّ عَلَيْهِ خَلٌّ أُكِلَ) وَلَوْ بَعْدَ الثَّلَاثِ (وَإِنْ غَلَى عِنَبَ وَهُوَ عِنَبٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ نَصًّا) نَقَلَهُ أَبُو دَاوُد وَعَلَى قِيَاسِهِ الرُّمَّانُ وَالْبِطِّيخُ وَنَحْوُهُمَا.
(وَلَا يُكْرَه الِانْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ) بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَهِيَ الْقَرْعُ وَالْوَاحِدَةُ دُبَّاءَةٌ وَالْمُرَادُ الْقُرْعَةُ الْيَابِسَةُ الْمَجْعُولَةُ وِعَاءً (وَالْحَنْتَمُ) الْجِرَارُ الْمَدْهُونَةُ وَاحِدُهَا حَنْتَمَةٌ (وَالْمُزَفَّتُ) أَيْ الْوِعَاءُ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ (وَالْمُقَيَّرُ) أَيْ الْإِنَاءُ الْمَطْلِيُّ بِالْقَارِ وَكَذَا مَا يُصْنَعُ مِنْ الْخَشَبِ وَالنَّقِيرِ وَهُوَ أَصْلُ النَّخْلَةِ يُنْقَرُ ثُمَّ يُنْبَذُ فِيهِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ (كَغَيْرِهَا) وَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ يَرْفَعُهُ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ إلَّا فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
(وَيُكْرَهُ الْخَلِيطَانِ وَهُوَ أَنْ يُنْتَبَذَ عِنَبَتَيْنِ كَتَمْرٍ وَزَبِيبٍ) مَعْنَاهُ كَتَمْرٍ (وَبُسْرٍ أَوْ مُذَنَّبٍ) وَهُوَ مَا نِصْفُهُ بُسْرٌ وَنِصْفُهُ رُطَبٌ (وَحْدَهُ) لِأَنَّهُ كَنَبِيذِ بُسْرٍ مَعَ رُطَبٍ رَوَى جَابِرٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الرُّطَبُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْلِطَ بُسْرًا بِتَمْرٍ أَوْ زَبِيبًا بِتَمْرٍ أَوْ زَبِيبًا بِبُسْرٍ وَقَالَ: مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا فَرْدًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَنْقَعُ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ الْهِنْدِيَّ وَالْعُنَّابَ وَنَحْوَهُ يَنْقَعُهُ غُدْوَةً وَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً لِلدَّوَاءِ " أَكْرَهُهُ لِأَنَّهُ نَبِيذٌ وَلَكِنْ يَطْبُخُهُ وَيَشْرَبُهُ عَلَى الْمَكَانِ "(مَا لَمْ يَغْلِ أَوْ تَأْتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) بِلَيَالِيِهِنَّ فَيَحْرُمُ لِمَا سَبَقَ (وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ) مِنْ الْخَلِيطِينَ (وَحْدَهُ) لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ (وَلَا بَأْسَ بِالْفُقَّاعِ) لِأَنَّهُ نَبِيذٌ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَا هُوَ مُشْتَدٌّ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِسْكَارُ وَإِنَّمَا يُتَّخَذُ لِهَضْمِ الطَّعَامِ وَصِدْق الشَّهْوَةِ (وَالْخَمْرَةُ إذَا فَسَدَتْ فَصُيِّرَتْ خَلًّا لَمْ تَحِلَّ وَإِنْ قَلَبَ اللَّه عَيْنَهَا فَصَارَتْ خَلًّا) بِنَفْسِهَا أَوْ بِنَقْلٍ لِغَيْرِ قَصْدِ تَخْلِيلٍ (فَهِيَ حَلَالٌ) لِقَوْلِ عُمَرَ عَلَى الْمِنْبَرِ " لَا يَحِلُّ خَمْرُ خَلٍّ أُفْسِدَتْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى إفْسَادَهَا وَلَا بَأْسَ عَلَى مُسْلِمٍ ابْتَاعَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَلًّا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ لِإِفْسَادِهَا " رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَعْنَاهُ (وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ) مُوَضَّحًا.