الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي
دخول العلوم العقلية
…
السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي:
كان من أهم السمات العامة للتربية الإسلامية في هذه الفترة دخول العلوم العقلية وإنشاء المدارس وظهور الآراء التربوية المتميزة وهو ما سنفصل الكلام عنه في السطور التالية:
1-
دخول العلوم العقلية:
يميز علماء المسلمين بين العلوم النقلية وهي علوم العقيدة والشريعة الإسلامية وبين العلوم العقلية. يقصد بها: علوم الفلسفة والرياضيات والهندسة والجبر والفلك والطب والطبيعية والكيمياء والموسيقى والتاريخ والجغرافيا.
وقد سبق أن أشرنا إلى فضل المسلمين على هذه العلوم. بيد أنه لا يمكن أن تغفل أثر حركة الترجمة الهائلة التي قام بها المسلمون في العصر العباسي لترجمة علوم الإغريق وكتبهم. ويقول ابن خلدون في "المقدمة" في كلامه عن العلوم العقلية: "واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما فارس والروم.. وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما. ولما فتحت أرض فارس وجدوا فيها كتبا كثيرة". وقد بلغت الثقافة العربية قمة ازدهارها عندما انفتحت على الثقافات الأخرى وتفاعلت معها، وقد قام المسلمون بترجمة علوم اليونان ودراستها وكان للخليفة المنصور شرف المبادرة في اتخاذ الخطوة الأولى وسار على نهجه الخلفاء من بعده المهدي والرشيد والمأمون. ويذكر صاعد الأندلس في كتابه "طبقات الأمم" "ص47": أن الخليفة المأمون طلب من ملوك الروم كتب حكماء اليونان فأرسلوا إليه على سبيل الهدية مؤلفات أفلاطون وأرسطو وبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس. وبلغ من اهتمام الخليفة المأمون بهذه الكتب أنه أمر بترجمتها وحث الناس على قراءتها ودراستها. وقد نالت هذه الكتب شهرة ورواجا في عصره وراجت الفلسفة اليونانية وكثر المشتغلون بها وأغدق عليهم
المأمون من كرمه بالجوائز والمناصب الرفيعة. وأصبحت الدول العباسية منافسة للدولة الرومية في هذه العلوم.
ومن المعروف أنه عندما نفي الإمبراطور الروماني جستنيان فلاسفة الإغريق وعلماءهم من "أثينا" لوثنيتهم فروا إلى بلاد الفرس لما وجدوه من ترحيب كسرى أنو شروان "531-578". وكان قد أسس في "جند يسابور" من أعمال خوزستان في وسط آسيا دارا للعلم قام فيها هؤلاء العلماء بتدريس الفلسفة والطب. وبقي أثرها في تلك البلاد حتى ظهرت الدولة العباسية. كما غدت "حران" مركزا من مراكز الثقافة اليونانية ببلاد العراق. وتكلم أهلها وهم "الصابئة" اللغة العربية في سهولة ويسر، وساعدوا إلى حد كبير على نشر الثقافة اليونانية بين المسلمين. وإليهم يرجع الفضل في ترجمة كثير من الكتب عن اللغات الأجنبية، وشهد العالم الإسلامي حركة علمية كبيرة بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري. وكان قوام هذه الحركة ترجمة المسلمين لعلوم الإغريق واليونان والرومان والفرس والهنود من علوم مختلفة في الطب والفلسفة والرياضيات والطبيعة والفلك والموسيقى. وقد أعجب المسلمون إعجابا كبيرا بهذه العلوم الجديدة وأقبلوا على دراستها، بل ولقبوا أرسطو أحد مشاهير روادها بالمعلم الأول. والحسن بن الهيثم "965-1039م" وهو من أكبر علماء الفيزياء على مر العصور وله جهود عظيمة في علم البصريات ودرس العلوم المختلفة من طب وفلسفة ورياضيات والإلهيات كتب يقول موضحا سر اهتمامه بهذه العلوم ومعلنا إعجابه بأرسطو:
"ازدريت أعوام الناس ولم ألتفت إليهم واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئا أجود ولا أشد قربة من الله من هذين الأمرين. فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع العلوم والبيانات، فلم أحظ من شيء منها للحق منهجا ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا جددا، فرأيت أنني لا أصل إلا عن آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطو من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات. فلما تبينت ذلك أفرغت وسعى في طلب الفلسفة وهي ثلاثة
علوم رياضية وطبيعية وإلهية" "ابن أبي أصيبعة: ج2 ص92".
والفيلسوفان المعروفان الفارابي "ب339هـ" وابن سينا "ت428هـ" اعترفا بعظمة أرسطو. وابن رشد "ت595هـ" يفوق السابقين في تعظيمه لأرسطو وتقدير مكانته لدرجة لا مثيل لها. وهناك من ناحية أخرى من علماء المسلمين في الفلسفة من رفض في أول الأمر فلسفة أرسطو ومنطقه. وتصدى كثير منهم للرد عليه. وكان علماء المعتزلة أول من فعل ذلك. منهم النظام وأبو علي الجبائي. وفي القرن الثالث الهجري ألف حسن بن موسى النويختي كتاب "الآراء والديانات" رد فيه على بعض المسائل المنطقية عند أرسطو. وفي القرن الرابع الهجري ألف الإمام أبو بكر الباقلاني كتاب بعنوان "الدقائق" فند فيه الفلسفة وأثبت فضل منطق العرب على اليونان، وفي القرن الخامس الهجري قام الشهرستاني صاحب كتاب "الملل والنحل" المعروف وألف كتابا في الرد على برقلس وأرسطو. ونقض فيها أولهما وفق أصول المنطق وقواعده. وقام الغزالي في نهاية القرن الرابع الهجري بتأليف كتابه المعروف "تهافت الفلاسفة في نقد الفلسفة". وفي القرن السادس الهجري قام أبو البركات البغدادي بتأليف كتاب "المعتبر" أبطل فيه أفكار أرسطو "أبو الحسن الندروي: 1987، ص165". وقام ابن تيمية بنقد الفلسفة اليونانية ونقد أرسطو مؤيدا حججه بالأدلة والبراهين. ويمكن الرجوع إلى تفصيل نقده في الجزء الخاص به من هذا الكتاب.
وفي القرن السابع الهجري تبرز شخصية نصر الدين الطوسي "المتوفى 672هـ" الذي عرف باسم المحقق الطوسي في أوساط وحلقات الفلسفة. ودافع عن فلسفة أرسطو ونفخ فيها روحا جديدة. ومن المعروف عنه أنه عاش إبان غزو التتار وسقوط بغداد بل إن كان من مستشاري زعيم التتار هولاكو ومن المقربين إليه. وقد توفي بعد عشر سنوات من مولد ابن تيمية "المرجع السابق: 166".
ولا شك أن العرب في نقلهم لعلوم اليونان والرومان قد نقلوها بعد تطويعها لثقافتهم الإسلامية فالإسلام لا يعرف التعصب ولا يعرف الانغلاق وقد لعب العرب دور الوسيط في نقل هذه العلوم. وقد عبر أحد المؤرخين بقوله، وهي
شهادة شاهد من غير أهله:
"كان العرب مستعدين استعدادا عجيبا لتمثيل دور الوسيط وكانوا ذوي نشاط منقطع النظير يعتبر آية على دورهم الممتاز في تاريخ الدنيا. وكانوا على عكس بني إسرائيل المتعصبين راغبين في مصاهرة الأمم المغلوبة من غير جحود لخلقهم القومي وتقاليدهم على الرغم من تغلبهم في مختلف الأمصار".
"ولو أن دور الحضارة الإسلامية اقتصر على إنقاذ علوم القدماء وعلى الاحتفاظ بها ذخيرة كاملة تسلم إلى الأجيال القادمة لاعتبر هذا الدور خدمة جليلة للإنسانية لا تقدر بثمن. بيد أن دور العرب والمسلمين لم يقتصر على مجرد حفظهم لعلوم اليونان والرومان وإنما أضافوا لها وزادوا عليها. ذلك أنهم لم يتلقوا هذه العلوم كتلامذة وإنما كأساتذة". ويعتقد كثير من المؤرخين أنه بدون هذا الدور الذي قام به العرب بالنسبة لعلوم اليونان والرومان لتعذر ظهور عصر النهضة الأوربية. ويقول المؤرخ الفرنسي "سيديللو" في كتابه عن تاريخ العرب "باريس 1854""إن العرب وحدهم كانوا ممثلي الحضارة في القرون الوسطى فدحروا توحش أوربا التي زلزلتها غارات أمم الشمال". ومع هذا ردد كثير من الأوربيين الدعوى القائلة بأن حضارة العرب في القرون الوسطى لم تكن إلا ظل الحضارة اليونانية وأن العرب كانوا مجرد ناقلين أو حافظين لهذه الحضارة. وفي هذه الدعوى كثير من الزيف والخطأ والتعصب وقد رفضها المنصفون من علماء الأوربيين أنفسهم. وفي هذا القول يقول درابر DRAPER "ادعينا طويلا أن المسلمين لم يفعلوا شيئا أكثر من نقل علوم اليونان ونحن لا نستطيع أن نسير في مثل هذا النهج الغامض دون أن نتهم بالجهل والخطأ". وفي هذا يقول أيضا جورج سارتون SARTON أنه من سذاجة الأطفال أن نفترض أن العلم بدأ في بلاد الإغريق لأن المعجزة الإغريقية سبقتها آلاف الجهود العلمية في مصر وفي بلاد ما وراء النهرين وغيرها من البلاد، إن العلم اليوناني كان إحياء أكثر منه اختراعا وكفانا سوءا أننا أخفينا الأصول الشرقية المصرية والبابلية التي لم يكن التقدم الهليني ممكنا بدونها.
ويقول العالم الفرنسي سيديللو SIDILLOT الذي سبقت الإشارة إليه في كتابه