الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكون والتطور:
تحدث علماء المسلمين عن الثبات والتغير على الكون. كما تحدثوا أيضا عن التطور. ويتفق مفكرو الإسلام ومفكرو الغرب في أن الكون يتطور، وأن التطور هو قانون الكون، لكنهم يختلفون في تفسير طبيعة عملية التطور، والكيفية التي تتم أو تحدث بها. فالقرآن الكريم يقول إن أصل العالم كان شيئا واحدا. أما بالنسبة لمفكري الغرب فإن بداية الكون لديهم غير معلومة، ويختلفون في شرحها. فمنهم من قال بنظرية الانفجار العظيم. وهي تذهب إلى أن الكون نتج عن انفجار كتلة واحدة من المادة، وأنه يتمدد باستمرار. ومنهم من قال بنظرية حالة الاستقرار ومعناها أن الكون كان له دائما تركيبه الحالي، وأن المادة تتشكل باستمرار، وهناك من قال بنظرية التذبذب وهي تعني أن الكون يتمدد ويتقلص بانتظام على مدى آلاف الملايين من السنين. وهذه النظريات هي مجرد نظريات تحتاج إلى البرهنة على صحتها. وعلى الرغم من هذا فإنها لا تقدم لنا إجابة شافية على السؤال الهام: من أين أتت المادة الأصلية أو الطاقة التي تنتج المادة لتشكيل الكون كله؟ وهكذا يظل التكهن ببداية الكون سرا مكنونا لا يزال بعيدا عن تصور العقل البشري "محفوظ على عزام: 167، 168".
ويعتبر القرن التاسع عشر قرن نظريات التطور في العالم الغربي. من هذه النظريات ما يعرف بنظرية التطور الطبيعي. ومن أهم روادها "لامارك""1744-1829" وهو عالم فرنسي في علم الأحياء أو البيولوجيا. ويعتبر أول من وضع نظرية عامة للتطور. وتقوم نظريته على أساس توارث الصفات المكتسبة. بمعنى أن جميع الصفات المكتسبة عن طريق الاستعمال أو غير الاستعمال، والتي تكون بتأثير البيئة، تبقى وتتوارث في الأجيال التالية. ومن رواد نظرية التطور الطبيعي أيضا "داروين""1809-1882" وهو عالم إنجليزي في علم الأحياء أو البيولوجيا، صاحب نظرية الاختيار الطبيعي والتطور العضوي. ومن مبادئ هذه النظرية: ميل جميع الكائنات للزيادة بنسبة هائلة للغاية، ومع ذلك يظل عدد كل نوع من الحيوان ثابتا لأن كثيرا منه يهلك نتيجة المرض أو الأعداء أو التنافس أو المناخ. ومن هنا استنتج "داروين" فكرة
التنازع على البقاء، والبقاء للأصلح، نتيجة الانتخاب الطبيعي في الأفراد التي تكون أكثر ملاءمة للحياة، والأصلح يولد صفاته في أجياله ويخلدها فيهم، وتنتقل من جيل لآخر.
ومن الأخطاء الشائعة عن نظرية داروين تسميتها بنظرية النشوء والارتقاء وصحة تسميتها نظرية أصل الأنواع Origin Of Species وهو اسم الكتاب المشهور الذي ضمنه الكلام عن نظريته. ومن الأخطاء الشائعة عنه أيضا أنه قال بأن أصل الإنسان قرد. وهذا غير صحيح. والذي ذكره دارون في كتابه المشار إليه هو أن الإنسان تطور من نوع سابق له من الكائنات بدون أن يحدد هذا النوع السابق. وجاء الفيلسوف البريطاني هاكسلي Huxley واستنتج بنفسه أن ذلك النوع السابق هو القرود، وذلك بمقارنة الهيكل العظمي للإنسان بهياكل الحيوانات الأخرى. إن "دارون" في كلامه عن أصل الأنواع لم يتعرض لأصل الإنسان، لكنه أشار إلى إمكانية الكشف عن أصل الإنسان وتاريخه من خلال نظريته التي تنتهي إلى أن الكائنات تنازعت البقاء وتواءمت مع حاجات هذا التنازع حتى بقي الأصلح الذي استطاع أن يوائم نفسه للمقاومة. أي مقاومة قوى الطبيعة والمخلوقات الأخرى "عمارة نجيب: 29". ومن نظريات التطور ما يعرف بنظرية التطور الكوني العام التي تنسب إلى زعيمها ورائدها "هربرت سبنسر" "1820-1903". وقد عرض نظريته في كتابه "المبادئ الأولى" الذي نشر لأول مرة عام 1860 أي بعد نشر كتاب داروين "أصل الأنواع بسنة واحدة فقط. ولا يمكن أن يقال بأن سبنسر استفاد من داروين لأن نظرية سبنسر تتعلق بالتطور الكوني العام أكثر من كونها في مجال التطور العضوي "محفوظ على عزام: 193".
وبالنسبة للفكر الإسلامي نجد ما يعرف بنظرية "الكمون" التي تفسر عملية التطور. وتنسب هذه النظرية إلى "النظام" أحد متكلمي المعتزلة. ويوضح الخوارزمي في كتابه "مفاتيح العلوم" معنى الكمون بقوله: "هو استتار الشيء عن الحس كالزبد في اللبن قبل ظهوره، وكالدهن في السمسم. ويذكر "الشهرستاني" في كتابه المعروف "الملل النحل" ما يذهب إليه النظام في نظريته عن الكمون وهو أن الله عز وجل قد خلق الموجودات دفعة واحدة علي ما
هي عليه الآن، معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا. ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده، غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض. فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها". وهكذا يكون "الكمون" طريقة في فهم التطور دون تحول نوع إلى نوع آخر، فلا يولد الإنسان من الحيوان، ولا القمح من الفول، ولا الجراد من السمك، والعكس صحيح. ولهذا نجد من الباحثين الغربيين من قام بعمل مقارنة بين نظرية الكمون ونظرية التطور كما عرضها "لامارك" و"داروين" و"سبنسر" "المرجع السابق: 129-130".
إن التطور عند مفكري المسلمين وعلمائهم يعني نوعا من الترتيب والتصنيف والتقسيم للكائنات يعتمد على بيان أفضلية بعضها على بعض، وشرف بعضها على بعض. فهم قسموا الكائنات الحية إلى نبات وحيوان، وقسموا كلا منهما إلى أقسام فرعية. كما قسموا الطير إلى أنواع رئيسية وأخرى فرعية. وعقدوا مقارنات لبيان وجه الشبه بين الإنسان والطير والحيوان من الناحية النفسية والتشريحية. فقارنوا بين الإنسان والحمام، وبين الإنسان والقرد والفرس وبعض الحيوانات الأخرى. وهم يستدلون من ذلك على وجود الخلق والخالق "محفوظ على عزام: 150" وانظر أيضا: كتاب الحيوان للجاحظ، وحياة الحيوان الكبرى للدميري. ويقولون بأن الله هو الخالق لكل الكائنات، وهو أيضا المطور لها والمغير لها ولأحوالها بالحركة والسكون والزيادة النقصان. قال تعالى في سورة الفرقان:{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} . وقال تعالى في سورة فاطر: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وقد اقتضت حكمة الله في الخلق وجود زوجين من كل شيء. قال تعالى في سورة الذاريات: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
إن أصل الحياة في الكون كما يؤكده القرآن هو الماء. قال تعالى في سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} . ويقول عز وجل في سورة النور: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . فالله سبحانه خلق جميع أنوع الحيوانات والدواب على اختلاف اشكالها وأنواعها وأصنافها. كما أنه خلق جميع أنواع النبات والزرع والثمار. وهي جميعا تسقى بماء واحد، وتنبت في أرض واحدة. قال تعالى في سورة الرعد:
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . وتكاثر الحيوان والنبات يتم من خلال التزاوج بين العناصر الذكرية والعناصر الأنثوية. قال تعالى في سورة يس: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} . فهناك عملية الإخصاب بالنسبة لتكاثر الإنسان والحيوان. وهناك عملية التلقيح بالنسبة لتكاثر النبات. وهناك الذكر والأنثى من النبات، كما أنه قد يجتمع في النبات الواحد عناصر الذكورة والأنوثة معا.
إن فكرة قانون البقاء للأصلح Survival of The Fittist التي استخدمها "داروين" ومن بعده هربرت سبنسر ترجع في أساسها إلى العالم الرياضي المتشائم المعروف "مالتس" Malthus المشهور بنظريته التشاؤمية عن تزايد السكان. وقبل هؤلاء جميعا تحدث المفكرون المسلمون عن هذا القانون على أنه خاصية أو سمة في الحيوان فطره الله عليها للدفاع عن نفسه والحفاظ على حياته دون أن يترتب على ذلك فناء أي نوع منها لأن الله سبحانه وتعالى أعطى لكل كائن وسيلة الدفاع عن نفسه. وقد تحدث عن ذلك "إخوان الصفا" وأشاروا إلى ما في جبلة الموجودات من محبة البقاء وشهوته وكراهية الفناء وبغضه. وما فيها أيضا من طلب المنافع وفرارها من الضرر. وهذا ينطبق على الإنسان والحيوان. ومن الحيوان ما يطلب المنافع بالغلبة والقهر كالسبع. ومنا ما يطلبها بالحيلة "كالعنكبوت" ومنها ما يدفع العدو عن نفسه بالقتال كالسباع وبعضها بالفرار كالأرانب والظباء والطير. وبعضها يتحصن في الأرض كالفأر والزواحف.
وابن مسكويه يرى أن الله عز وجل أعطى لكل حيوان آلة "وسيلة" يتناول بها حاجاته ويدفع بها الضرر عن نفسه، كما يجلب بها المنفعة. وتحدث ابن خلدون في مقدمته عن هذا القانون فيقول: "ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل الله سبحانه وتعالى لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعة ما يصل