المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: الأخلاق في الإسلام مدخل إكسيولوجي - التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية

[محمد منير مرسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌نبذة تفصيلية عن المؤلف

- ‌مقدمة:

- ‌الفهرس:

- ‌تمهيد: مشكلات منهجية في الكتابة عن التربية الإسلامية

- ‌الفصل الأول: التربية الإسلامية

- ‌تربية العرب قبل الإسلام

- ‌مدخل

- ‌فضل القلم:

- ‌فضل الخط:

- ‌فضل الكتب:

- ‌مكانة العلم في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌فضل المسلمين على العلم:

- ‌لماذا أنطفأت شعلة العلم الخلاقة في المجتمعات الإسلامية

- ‌تأثير الفكر الإسلامي في الغرب:

- ‌الرحلة في طلب العلم:

- ‌التعليم الإسلامي بين الأصالة والتجديد:

- ‌كيف نبدأ

- ‌حول توصيات المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي:

- ‌الفصل الثاني

- ‌أهداف التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌لماذا خلقنا

- ‌ما يصلح به حال الإنسان:

- ‌العبادة غاية الوجود الإنسان وأساس السلوك الأخلاقي

- ‌التكسب واجب:

- ‌أسس التربية الإسلامية

- ‌التربية الإسلامية تربية تكاملية شاملة

- ‌ التربية الإسلامية تربية مثالية واقعية:

- ‌ التربية الإسلامية تربية سلوكية عملية:

- ‌ التربية الإسلامية تربية فردية واجتماعية معا:

- ‌ التربية الإسلامية تربية لضمير الإنسان:

- ‌ التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان وإعلاء لدوافعه:

- ‌ التربية الإسلامية تربية موجهة نحو الخير:

- ‌ التربية الإسلامية تربية مستمرة:

- ‌ التربية الإسلامية تربية متدرجة:

- ‌ التربية الإسلامية تربية محافظة مجددة:

- ‌ التربية الإسلامية تربية إنسانية عالمية:

- ‌أساليب التربية الإسلامية

- ‌أسلوب القدوة الصالحة

- ‌ أسلوب الثواب والعقاب:

- ‌ أسلوب التوجيه والنصح:

- ‌ أسلوب الحوار والمناقشة:

- ‌ أسلوب المعرفة النظرية:

- ‌أسلوب الممارسة العملية

- ‌ أسلوب الرسم والإيضاح:

- ‌ أسلوب التلقين والحفظ:

- ‌أسلوب الرسول الكريم:

- ‌التعليم الإسلامي

- ‌خصائص التعليم الإسلامي التقليدي

- ‌المنهج المدرسي

- ‌وسائل التدريس

- ‌مساكن الطلبة:

- ‌الجمع بين طلب العلم والتكسب:

- ‌الدولة والتربية في الإسلام:

- ‌أهل الحسبة ورعاية المصالح العامة والتعليم:

- ‌وجوب التعليم:

- ‌التعليم في الإسلام فرض وابج وليس مجرد حق

- ‌الفصل الثالث: فلسفة التربية الإسلامية

- ‌أولا: الإسلام والكون "مدخل أطولوجي

- ‌خالق الكون

- ‌البرهنة على وجوده:

- ‌الفرق بين التصديق والإيمان:

- ‌خلق السموات والأرض

- ‌حقيقة الكون:

- ‌نظرة الإسلام للكون:

- ‌الأنبياء وكتب الشرائع:

- ‌الكون والتطور:

- ‌رفض علماء المسلمين لنظريات التطور الغربية:

- ‌دورة الحياة:

- ‌ما تصلح به حال الدنيا:

- ‌ثانيا: المعرفة في الإسلام "‌‌مدخلابستمولوجي

- ‌مدخل

- ‌طبيعة المعرفة وأنواعها:

- ‌تعلم الإنسان من غيره من المخلوقات:

- ‌ثالثا: الأخلاق في الإسلام مدخل إكسيولوجي

- ‌الفصل الرابع: تربية الطفل في الإسلام

- ‌مقدمة:

- ‌نشاط الطفل دليل صحة:

- ‌مراحل التربية الخلقية:

- ‌آداب المتعلم:

- ‌شروط تحصيل العلم:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: تعليم المرأة في الإسلام

- ‌مقدمة:

- ‌المرأة والحجاب:

- ‌قضية تعليم المرأة وقضية تربيتها:

- ‌المرأة والتعليم:

- ‌آراء علماء المسلمين في تعليم المرأة

- ‌أولا: آراء غريبة عن الإسلام

- ‌ثانيا: آراء معتدلة تتفق مع روح الإسلام:

- ‌التعليم المختلط:

- ‌التربية الزوجية:

- ‌حق الزوجة على زوجها:

- ‌الفصل السادس: المعلم في التربية الإسلامية

- ‌مقدمة:

- ‌أهمية المعلم ومكانته:

- ‌واجبات وأدوار المعلم:

- ‌أخلاق المعلمين:

- ‌أجر المعلم:

- ‌الفصل السابع: تطور التربية الإسلامية وأهم سماتها في العصور الوسطى

- ‌مراحل تطور التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى للتربية الإسلامية: مرحلة البناء

- ‌المرحلة الثانية: مرحلة العصر الذهبي أو الازدهار

- ‌السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي

- ‌دخول العلوم العقلية

- ‌ نشأة المدارس:

- ‌ ظهور الآراء التربوية المتميزة:

- ‌الفصل الثامن: مركز التعليم الإسلامي

- ‌أولا: المساجد

- ‌ثانيا: الكتاب

- ‌هدف الكتاب

- ‌الدراسة في الكتاب:

- ‌نقد طريقة التعليم بالكتاب:

- ‌معلم الكتاب:

- ‌مكان التعليم:

- ‌ثالثا: المدارس

- ‌مدخل

- ‌أسباب إنشاء المدارس:

- ‌نمط المدرسة الإسلامية الأولى:

- ‌طريقة التعليم:

- ‌مناقب ومثالب:

- ‌رابعا: المكتبات

- ‌خامسا: دور الحكمة

- ‌بيت الحكمة في بغداد

- ‌ بيت الحكمة في رقادة:

- ‌ دار الحكمة بالقاهرة:

- ‌سادسا: حوانيت الوراقين:

- ‌سابعا: الرباطات:

- ‌ثامنا: البيمارستانات والمستشفيات

- ‌تاسعا: منازل العلماء

- ‌الفصل التاسع: أعلام التربية الإسلامية في العصر الوسيط

- ‌ابن سحنون وآراؤه التربوية

- ‌ القابسي وآراؤه التربوية:

- ‌ابن مسكويه وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌مؤلفات ابن مسكويه:

- ‌تأثر ابن مسكويه بفلاسفة الإغريق

- ‌آراؤه التربوية:

- ‌النفس الإنسانية:

- ‌الفضيلة وصفاتها الأخلاقية:

- ‌الكمال الإنساني:

- ‌الأخلاق:

- ‌أمراض النفوس وعلاجها:

- ‌تربية النشء:

- ‌الماوردي وآراؤه التربوية

- ‌مقدمة

- ‌الماوردي والأصفهاني وابن خلدون:

- ‌الإنسان مدني بطبعه:

- ‌العقل أس الفضائل:

- ‌ضرورة التأديب:

- ‌شرف العلم وفضله:

- ‌شروط طلب العلم:

- ‌الباعث على طلب العلم:

- ‌التدرج في طلب العلم:

- ‌كبير السن والتعلم:

- ‌أسباب التقصير في طلب العلم:

- ‌أخلاق العلماء:

- ‌آداب رياضة النفس واستصلاحها:

- ‌الغزالي وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌الغزالي ناقل عن ابن مسكويه وغيره من المسلمين والإغريق:

- ‌منهج الغزالي في تربية الطفل:

- ‌ابن تيمية وآراؤه التربوية

- ‌مقدمة

- ‌أسرته:

- ‌عصره:

- ‌وفاته:

- ‌ ابن خلدون وآراؤه التربوية:

- ‌الفصل العاشر: التربية في الشرق العربي الإسلامي في العصور الحديثة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الحركة الإصلاحية السلفية والتعليم:

- ‌ دعوات التغريب والتشكيك الفكري:

- ‌الفصل الحادي عشر: أعلام النهضة التربوية في الشرق العربي الحديث

- ‌محمد بن عبد الوهاب وآراؤه التربوية

- ‌مقدمة

- ‌تأثير ابن تيمية:

- ‌أراؤه وجهوده التربوية:

- ‌رفاعة الطهطاوي وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌آراؤه التربوية:

- ‌أخلاق المعلمين والمتعلمين:

- ‌طريقة التعليم:

- ‌على مبارك وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌جهوده الفكرية والثقافية:

- ‌جهوده في التربية والتعليم:

- ‌الشيخ محمد عبده وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌مدرسة الإمام:

- ‌جهوده العلمية والفكرية:

- ‌آراؤه في التربية:

- ‌مراتب التعليم:

- ‌على الأغنياء بذل المال في إنشاء المدارس:

- ‌تطوير الأزهر:

- ‌تعليم المرأة:

- ‌وفاة الإمام:

- ‌الفصل الثاني عشر: الاتجاهات التربوية في العصر الحديث

- ‌اقتباس النظم التعليمية الحديثة

- ‌ ظهور حركة التربية الحديثة:

- ‌استقدام الخبراء الأجانب

- ‌تقرير كلاباريد

- ‌ تقرير مان:

- ‌ الاهتمام بإعداد المعلمين:

- ‌ إنشاء الجامعات الحديثة:

- ‌ظهور الاتجاهات التعليمية المتميزة

- ‌سياسة الأبعاد الثلاثية "نجيب الهلالي

- ‌اتجاه الكم أو سياسة الماء والهواء: "طه حسين

- ‌اتجاه الكيف أو تعليم الصفوة: "إسماعيل القباني

- ‌ تطوير الأزهر:

- ‌مراجع الكتاب:

- ‌كتب المؤلف

الفصل: ‌ثالثا: الأخلاق في الإسلام مدخل إكسيولوجي

‌تعلم الإنسان من غيره من المخلوقات:

يقول الراغب الأصفهاني في تفصيل النشاتين "ص110": إن الله تعالى قد نبه على منافع جميع الموجودات وأطلع الخلائق عليها، إما بألسنة الأنبياء عليهم السلام وإما بإلهام بعض الأولياء. وكما أن حق الإنسان أن يعرف منافع الحيوانات في ذواتها فينتفع بها في المطاعم والملابس والأدوية فحقه أن يعرف أخلاقها وأفعالها فينتفع بها في اجتناب ما يستحسن واجتناب ما يستقبح منها فقد أحسن من قال:"تعلمت من كل شيء أحسن ما فيه حتى من الكلب حمايته على أهله ومن الغراب بكوره في حاجته" وقديما تعلم قابيل "ابن آدم" من الغراب كيف يواري جثة هابيل في التراب بعد أن قتله، قال تعالى:{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} وقد أشار الله إلى ذلك أيضا في وضف النحل فقال عز وجل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فنبه إلى أن الإنسان حقه أن يقتدي بالنحل في مراعاته لوحي الله عز وجل. وهناك أمثلة كثيرة على تعلم الإنسان من غيره من مخلوقات الله. فقد تعلم الطيران والغوص والحياة تحت سطح الماء من الأسماك.

ص: 138

‌ثالثا: الأخلاق في الإسلام مدخل إكسيولوجي

مقدمة:

تمثل الأخلاق أهمية كبرى للأفراد والجماعات والشعوب. فهي المقوم الرئيسي لوجودها وحياتها. وقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق وقد عبر الشاعر أحمد شوقي عن أهمية الأخلاق في حياة الأمم والشعوب فقال:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقال أيضا:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم

فأقم عليهم مآتما وعويلا

إن التربية في جوهرها عملية أخلاقية، وفي ذلك يقول جون ديوي: "إن

ص: 138

عملية التربية والعملية الأخلاقية شيء واحد ما دامت الثانية لا تخرج عن أنها انتقال الخبرة باستمرار من أمر سيئ إلى أحسن منه وأفضل" "جون ديوي: تجديد في الفلسفة: ص299" ويقول في مكان آخر: "إن النمو الأخلاقي هو الغاية القصوى من العمل المدرسي كله "جون ديوي: المبادئ الأخلاقية في التربية ص54""وقيل جون ديوي ذهب "جون لوك" إلى أن هدف التربية هو غرس الفضيلة في النفوس.

بيد أن التربية الأخلاقية ليست عملية سهلة، وإنما هي عملية صعبة شاقة تقتضي منا الفكر والنظر، وفي ذلك يقول هربرت سنسر في كتاب التربية "ص90":"ولم يهمل ولاة الأمور شيئا إهمالهم إنعام الفكرة في تأديب أطفالهم والخطب سهلا فحسبوا أنهم قادرون بلا فحص ولا بحث أن يردعوا طبائع صبيانهم ما شاءوا من المناقب. ولم يعلموا أن علم تهذيب النفوس علم صعب المآخذ وعر الملتمس. وحق لمغفله أن يخيب في تأديب غلامه".

اهتمام الإسلام بالأخلاق:

اهتم الإسلام بالأخلاق الحميدة واعتبرها الأساس الذي تستند إليها كل معاملات الإنسان مع خالقه ومع نفسه ومع الآخرين. ولقد امتدح رب العزة نبيه الكريم ووصفه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . وقد جاء الإسلام بكل خلق حسن وحث المسلمين على التحلي به. لقد قال أكثم بن صيفي من حكماء العرب في دعوته لقومه إلى الإسلام: "إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينا لكان في أخلاق الناس حسنا". ونختتم كلامنا عن هذه النقطة بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصا بها.

- "خير الناس أنفعهم للناس".

- "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

- "أكمل المؤمنين أحسنهم أخلاقا".

- "الإسلام حسن الخلق".

ص: 139

- قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: "عليك بحسن الخلق، إن أحسن الناس خلقا أحسنهم دينا".

- وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

- وفي القول المأثور من حسن خلقه حسن دينه، فكمال دين الفرد هو من كمال خلقه. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أكمل المسلمين إيمانا أحسنهم أخلاقا".

- وفي الحديث الشريف: "كل شيء يرجى له توبة إلا سوء الخلق" وفي حديث آخر "إن سوء الخلق ذنب لا يغفر".

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسم كله وإذا فسدت فسد الجسم كله إلا وهي القلب" والمقصود بالقلب هنا الضمير وهو ميزان الأخلاق.

لقد أولى الإسلام التربية الخلقية للفرد والمجتمع أهمية كبيرة، ويذكر الإمام الغزالي أن ما يقرب من ربع آيات القرآن الكريم تتعلق بالأخلاق وحدها، وقد صنف الغزالي الآيات التي تتعلق بالأخلاق في القرآن إلى قسمين: قسم يتصل بالأخلاق النظرية وعدد آياته 764 آية قرآنية وقسم ثان يتصل بالأخلاق العملية والسلوك وعدد آياته 741 آية قرآنية ومجموع آيات هذين القسمين معا 1504 آيات تمثل في مجملها ربع آيات القرآن تقريبا.

وقد أحصى الإسلام الفضائل كلها وعددها وأكد عليها. وطالب الإنسان بتعلمها والعمل بها والتمسك بها. وفاضل علماء المسلمين بين الفاضل والمفضول من الأخلاق والرذيل والمرذول منها ليتبين للمسلمين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ولينيروا الطريق أمام من يريد التحلي بالأخلاق الحسنة والفضائل المستحبة.

الاتجاهات النظرية للأخلاق:

يبجث علم الأخلاق في أعمال الناس وتصرفاتهم من حيث هي خير أو شر، كما يبحث في غايات الحياة ومثلها العليا التي ينبغي أن يستهدفها الناس في سلوكهم. ويعرف علم الأخلاق أيضا بأنه علم الواجب. ويمكننا أن نميز ثلاثة

ص: 140

اتجاهات رئيسية في النظر إلى الأخلاق:

- الاتجاه الأول هو الاتجاه الروحي الذي يعتبر الغاية من الأخلاق، هو التحلي بالفضيلة وتهذيب النفس وترويضها والسمو بالروح وتصفيتها من الشوائب. ويمثل هذا الاتجاه أهل التصوف أو المتصوفون؟

- الاتجاه العقلي في الأخلاق ويتزعمه المعتزله كما يمثله ابن سينا وابن مسكوية فالمعتزلة يرون أن الحسن ما حسنه العقل والقبح ما قبحه العقل وبنوا التكاليف على العقل. والمعروف أن أرسطو هو أصل الاتجاه العقلي في الأخلاق. وقد ذهب إلى القول في كتاب الأخلاق بأن الفضيلة مقترنة بالعقل.

- الاتجاه الروحي العقلي الذي يجمع بين الاتجاهين السابقين ويمثله ابن مسكويه وحجة الإسلام الإمام الغزالي. وسيشار إلى آرائهما في التربية الخلقية فيما بعد عند تناولنا الكلام عنهما.

الأخلاق في الثقافات الأخرى:

تختلف الأخلاق في الإسلام عن غيرها في الديانات أو الحضارات الأخرى. فالأخلاق عند الإغريق القدماء تقوم على اللذة والمتعة والسعادة الدنيوية للإنسان. والأخلاق المسيحية تقوم على الاتصال الروحي بالله، والمحبة والتسامح بين البشر. والأخلاق في الفلسفة البراجماسية نفعية ووسيلية وتتغير بتغير الأحوال والظروف. فإذا كنا مثلا نفضل العدالة على الظلم فذلك يرجع في نظرهم إلى أن العدالة نافعة ومفيدة والظلم ضار وغير مفيد.

وفي مقابل الأخلاق النفعية وهي شخصية فردية تفضل مصلحة الفرد دائما هناك أخلاق الواجب وهو مذهب الفيلسوف الألماني المعروف "كانط""1724-1804" وله باع كبير في الأخلاق والفلسفة الحديثة. وقد تميز منهجه بنقد العقل وبيان قصوره. وله في الأخلاق نظرات ثاقبة. والقيمة الأخلاقية حسب هذا المذهب هي في ضمير الإنسان ولا وجود لها خارجه. فالإنسان عندما يسلك وفق أخلاق الواجب فإنه يتسامى ويرتفع فوق ذاته، ويرتفع فوق ملذاته ونزواته الشخصية. ويجب أن تكون الأخلاق من أجل الإنسانية الكريمة. والواجب

ص: 141

قيمة أخلاقية تقوم على أساس ما ينبغي أن يكون لا ما هو قائم بالفعل. والواجب كقيمة أخلاقية يفرض نفسه على الضمير الأخلاقي. وعندها يتحدد سلوك الإنسان وتصرفه، ويسلك حسبما تمليه أخلاق الواجب، وهو ما يقول به المعتزلة ويتبعهم في ذلك الفيلسوف الألماني "كانط" الذي بنى فلسفته الأخلاقية على مبدأ الواجب الأخلاقي. وتتميز الأخلاق في الإسلام بأنها أخلاق دنيا ودين معا وهو ما سيأتي تفصيل الكلام عنه.

الإنسان والأخلاق:

إن نظرة الإسلام إلى الإنسان هي نظرة أخلاقية بصفة أساسية. ذلك أن الهدف من حياة الإنسان هو عمل الخير في الحياة الدنيا. ولا يكتمل عمل الخير للإنسان في الدنيا إلا بإقامة شعائر الله والتمسك بالأخلاق الحسنة. وغاية الأخلاق الحسنة تحقيق سعادة الفرد في الدارين. والشريعة هي التي تربي نفس الإنسان على الآداب الحسنة والأخلاق الكريمة حتى تتعودها النفس وتصبح لها طبعا وسليقة. والمسلمون في الإسلام سواسية ويتفاضلون على بعضهم بالتقوى وصالح العمل. وقد ورد في الأثر "المسلمون كأسنان المشط في المساواة، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وصالح العمل "كما ورد أيضا" المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم".

اختلاف الأخلاق باختلاف النفوس:

تختلف الأخلاق باختلاف النفوس. فمن الناس من جبلت نفوسهم على الخير. ومنهم من جبلت نفوسهم على الشر. ويمكن تحسينها بالنصح والإرشاد والتوجية والزجر والعقاب والوعد والوعيد. وهناك نوع ثالث لا يقبل طبعه الأخلاق الحسنة لخبث معدنه. وهذه الطائفة في نظر بعض علماء المسلمين من جملة الأشرار الذين لا يرتجى صلاحهم. كما أن الأخلاق تختلف باختلاف الأمم والشعوب فلكل أمة أخلاقها الخاصة بها. ومن الطبيعي أن يكون للأمة الإسلامية أخلاقها الخاصة بها. كما أن الأخلاق تختلف باختلاف العصور والأزمنة. ومنها الثابت الأصيل ومنها المتغير حسب أحوال الناس وتغير زمانهم.

ص: 142

الأخلاق من تمام الإيمان والكمال الإنساني:

تعتبر الأخلاق في الإسلام من تمام الإيمان والكمال الإنساني. وذلك أن الإيمان يكتمل بالأخلاق. قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكمل إيمانا؟ قال: "أحسنهم خلقا". وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن أحب عباد الله إليه، قال:"أحاسنهم أخلاقا". ويعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القواعد الأخلاقية الإسلامية الأصيلة، ومن تمام كمال المسلم.

الأخلاق بالتخلق:

عندما يتحرى الإنسان في سلوكه مراعاة الأخلاق الحسنة الالتزام بآداب السلوك وما تمليه الفضيلة فإنه يصبح بالتدريج إنسانا خلوقا فاضلا. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتخير الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه" وقد قيل في ذلك. اجعلوا أقوالكم أقوى لكم لا تجعلوا أفمالكم أفعى لكم ولا تجعلوا أعمالكم أعمى لكم. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خالق الناس بخلق حسن".

من الأخلاق الإسلامية ما هو صدقه:

بلغ من حرص الإسلام على حث المسلم على اتباع السلوك الأخلاقي المرغوب أن جعله صدقه يثاب عليها. فالكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أمر الضلال صدقة. وإناطة الأذى عن الطريق صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة. فهذه كلها وما شابهها أمور أخلاقية من تمام كمال الإنسان. وهي صدقات ينال المرء ثوابها إلى جانب قيمتها الأخلاقية.

القدوة ضرورية لتعليم الأخلاق:

وهذا يعني أن تعليم الأخلاق من خلال النصح والإرشاد والتوجيه لا يؤتي ثماره إلا إذا كان القائم به يعمل بما يقول. وللأسف أننا نجد أن كثيرا من الآباء والمعلمين ينصحون أبناءهم بعمل شيء وهم أنفسهم لا يعلمونه أو يعملون عكسه فكلاهما ينهي الأبناء عن التدخين مثلا وهما يدخنان. والأب قد يأمر ابنه

ص: 143

بالصدق في القول وعدم الكذب ولكنه في موقف آخر يقول له مثلا: إذا سأل فلان عني فقل له إنني غير موجود. ومن هنا كان من الضروري في الأخلاق تطابق القول مع العمل. ويروى أن الإمام "سفيان الثوري" كان يعظ الناس يوما فدخلت عليه امرأة وسلمته رقعة وانصرفت. فأخذ يقرؤها فإذا فيها:

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى

كيما يصح به وأنت سقيم

ونراك تصلح بالرشاد عقولنا

أبدًا وأنت من الرشاد عديم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

فلما قرأ الإمام النوري هذا الكلام تأثر به وقام واعتزل الناس واعتكف في بيته حتى وافاه الأجل.

الأخلاق طريق العيش والكسب:

ذلك أن الإنسان الذي حسنت أخلاقه وصفاته يجد أبواب الحياة أمامه مفتوحة. ويرضى عنه الناس كما يرضى عنه ربه لأن رضا الله من رضا الناس. ويجعل الله في وجهه القبول، ويحبه الناس ويثقون فيه ويطمئنون إلى التعامل معه. وهذه كلها صفات تؤهله لفتح أبواب الرزق أمامه. وقد قال تعالى في سورة القصص على لسان بنت النبي شعيب عليه السلام:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . فهاتان الصفتان إحداهما جسمية وهي القوى والأخرى خلقية وهي الأمانة. وكلتا الصفتين أهلت صاحبها إلى أن يكون أفضل من غيره في الاستخدام والتقبل الاجتماعي. وهو ما سبق أن أشرنا إليه.

الفضيلة هي المعرفة:

إن الفضيلة كما يقول سقراط الحكيم هي المعرفة وبدون المعرفة لا يتم العمل. فكل فضيلة علم. فالتقوى مثلا هي العلم بما يجب على الإنسان نحو ربه وخالقه. والعدالة هي العلم بما يجب على الإنسان نحو الآخرين. والقناعة هي

ص: 144

العلم بما يجب على الإنسان نحو نفسه. وهكذا. "جورج غريب: 15".

الأخلاق قابلة للتعديل:

ينظر الإسلام إلى الأخلاق على أنها قابلة للتغيير والتعديل. وهذا على عكس الرأي الذي يرى أن الأخلاق ثابتة من حيث إنها مقتضى المزاج والطبع، وإن الخلق صورة الباطن. وقد انتقد الغزالي هذا الرأي كما سنشير فيما بعد وذهب إلى القول بقابلية الأخلاق والسلوك للتعديل مستدلا في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"حسنوا أخلاقكم". فلو كانت الأخلاق ثابتة لما كانت قابلة للتعديل أو التحسين. وكون الأخلاق قابلة للتعديل والتحسين فإن هذا يفتح الباب أمام التربية لتقوم بدور هام في التنشئة الأخلاقية للفرد.

ضرورة التأديب:

يقول الماوردي في ضرورة التأديب "فالنفس قائمة على أخلاق وآداب لا يستغنى عنها. ولا يعتمد على العقل فقط دون الأدب لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقد شبه العالم عديم الأدب بالبنيان الخراب الذي كلما علا اشتدت وحشته. وشبه أيضا بالنهر اليابس الذي كلما كان أعرض وأعمق كان أشد لوعورته، وبالأرض الجيدة المعطلة التي كلما طال خرابها ازداد نباتها غير المنتفع به التفافا، وصار للهوام مسكنا". ويقول ابن المقفع: "ما نحن على ما نتقوى به على حواسنا من المطعم والمشرب بأحوج إلى الأدب الذي هو لقاح عقولنا. فإن الحية المدفونة في الثرى لا تقدر أن تطلع زهرتها إلا بالماء الذي يعود إليها من مستودعاتها.

طبيعة القرارات الصحيحة:

إن الموقف الأخلاقي يطرح أكثر من بديل للتصرف فعلى سبيل المثال في موقف ما قد يكون البديلان المطروحان هما: ادفع بالتي هي أحسن، أو الشر بالشر، وفي موقف آخر قد يكون البديلان: اصنع جميلا ولو في غير موضعه أو "من يصنع المعروف في غير أهله يندم" وغيرها من الأمثلة. فبأي البديلين يأخذ الفرد في الموقف الأخلاقي. وما هي المعايير الأخلاقية التي يهتدي بها في

ص: 145

اختيار أفضل البديلين؟ وهنا يكون دور التربية لأن مهمة التربية في الجانب الأخلاق أن تزود الفرد بما يساعده على اختيار البديل الأفضل والمناسب للموقف. إن أحكامنا وقراراتنا تعتمد في مدى صحتها ومناسبتها على مدى فهمنا للموضوع وما نعرفه عنه من معلومات واختلاف الحكم أو القرار قد ينتج عن اختلاف في الفهم واختلاف في درجة المعلومات المتاحة. ومن هنا كان من الضروري للوصول إلى قرار سليم أن يتحرى الإنسان فهم الموضوع من جوانبه المختلفة وهذا يتطلب الحصول على كل المعلومات الممكنة التي تساعد الفرد على هذا الفهم. وتعتمد أحكامنا وقراراتنا أيضا في اختلافها وتباينها على اختلاف القيم والمعتقدات العامة للفرد وما يعتقد أنه صحيح أو غير صحيح. ويبدو هذا بوضوح في القرارات الأخلاقية التي نتخذها في المواقف المختلفة، وقد يكون القرار مصحوبا بالمعاناة الأخلاقية عندما تكون البدائل المتاحة متعارضة أو حلوها مر أو مشحونة بالانفعالات والمشاعر المتعارضة والضغوط الاجتماعية المختلفة.

ودور التربية ينبغي أن يتركز على مساعدة الفرد على تكوين فلسفة رشيدة له في الحياة توجهه بصفة عامة وتجعله قادرا على حسن التصرف في المواقف المختلفة. ويمكن القول بصفة عامة بأن هناك عوامل رئيسية تحدد اتجاه القرار الذي يتخذه الفرد من أهمها:

- النفعية والمصلحة وبالعكس الضرر والخسارة.

- سمو المقاصد والغايات وبالعكس سوء النوايا والمقاصد.

- النتائج المحتملة لأعمالنا وأفعالنا سواء كانت مادية أو معنوية من سعادة أو ألم أو فرح أو حزن.

الأخلاق فطرية أم مكتسبة؟:

هناك وجهتا نظر متعارضتان في النظرة إلى الأخلاق الإنسانية بصفة عامة. إحداها تقول بأن الأخلاق فطرية لأن الإنسان يستطيع أن يميز بفطرته بين الخير والشر وبين ما ينبغي عمله وما لا ينبغي. ويمثل هذا الرأي المثاليون وعلى

ص: 146

رأسهم أفلاطون. فهناك أخلاق السادة وأخلاق العبيد لأن الناس خلقوا إما سادة وإما عبيدا في نظره. كما أن بعض الناس خلقوا أخيارا وبعضهم خلقوا أشرارا. وهذه النظرة تجعل من الطبيعة الإنسانية شيئا جامدا ثابتا لا يمكن تغييره أو تعديله أو إصلاحه وهذا عكس ما هو حادث بالفعل. والواقع أن الإسلام ينظر إلى طبيعة الإنسان على أنها محايدة بالفطرة وتكتسب لونها من خلال التنشئة والتربية. قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وورد عنه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "حسنوا أخلاقكم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فهذا يدل على أن النظرة الإسلامية إلى الأخلاق على أنها مكتسبة وتتعدل وتتحسن وينصلح حالها بالتوجيه. وهذا يجرنا إلى الكلام عن وجهة النظر الثانية التي نرى أن الأخلاق مكتسبة وليست فطرية. وكون الأخلاق مكتسبة يؤكد أهمية تعليم وتربية النشئ تربية صالحة وتوجيهه من البداية إلى طريق الحق والخير على أساس سليم وإبعاده عن قرناء السوء. لكن الإنسان لا يتعلم شيئا إلا إذا كان مستعدا له غير ممتنع عليه. كالبذرة في الأرض لا تنبت إلا إذا كانت الأرض مستعدا ومهيأة لها ولنموها. ومن هنا كان اختلاف الناس في تقبل الأخلاق معتمدا على استعداد كل منهم لتقبل هذا الخلق أو ذاك. وجميع الناس ليسوا على درجة واحدة أو مستوى واحد في تقبل الأخلاق الحميدة أو غيرها.

الأخلاق عند فلاسفة الغرب وفلاسفة المسلمين:

الأخلاق عند فلاسفة الغرب أخلاق دنيوية تنظم علاقة الفرد مع الآخرين وسلوكه في الحياة الدنيا بصفة عامة وهي تقوم على جانبين رئيسيين: جانب الحق وجانب الواجب. فكل حق يقابله واجب. ولذلك ترتبط الحقوق بالواجبات. ولكي يستمتع الإنسان بحقه عليه أن يؤدي واجبه. والواجب قد يمليه القانون وقد يمليه العرف الاجتماعي وقد تمليه التقاليد والثقافات السائدة وقد يمليه الضمير الإنساني.

أما الأخلاق في الإسلام وعند فلاسفة المسلمين فهي أخلاق دنيا ودين وتشمل جميع أوجه النشاط الإنساني وسلوكه في الحياة الدنيوية في ارتباطه

ص: 147

بالحياة الأخروية. وعلى هذا فالأخلاق الإسلامية تنظم علاقة الإنسان مع نفسه ومع بني جنسه من أفراد مجتمعه ومع غيره من المجتمعات والإنسانية جمعا، والكون بكامله. وأخيرا وليس آخرا تنظم علاقة الإنسان مع ربه وخالقه.

الفرق بين الأخلاق والسلوك:

الأخلاق صورة النفس الباطنة والسلوك هو صورتها الظاهرة التي تدل عليها. ونحن نستدل على طبيعة أخلاق المرء بسلوكه الظاهر.

الضمير الأخلاقي:

الضمير قوة ذاتية في داخل الإنسان تأمره بفعل الخير وتنهاه عن الشر وتحاسبه عن أعماله. وتكون للضمير قيمة عندما يكون يقظا متنبها. أما إذا نام أو تبلد أو مات فإن الإنسان يفلت زمامه ويكون بلا عاصم وينفلت قيد زمامه. ذلك أن صلة الضمير بالأخلاق كصلة العقل بالفكر والأمور العقلية وهو شعور داخلي يحسه الإنسان عندما يقوم بعمل ما. فإذا كان راضيا عن هذا العمل أحس بالارتياح والاطمئنان والسعادة. أما إذا كان غير راض عن هذا العمل فإنه يحس بوخز الضمير وتأنيبه كما يشعر أحيانا بالندم والمرارة والحسرة. وحدة شعور الضمير أو المرارة يتوقف على مدى ضخامة أو فداحة العمل الذي قام به المرء. فالضمير قوة شعورية أخلاقية تحكم على مدى أعمالنا الصالحة منها والطالحة على السواء. فهو بمثابة ميزان العمل في حياتنا. وهو يعمل أيضا كإشارات المرور التي تعطي الضوء الأخضر إذا كان العمل مقبولا ومسموحا به كما تعطي الضوء الأحمر للتحذير والأمر بالامتناع عن العمل. وعندما يصيب الخلل هذا الميزان أو تتعطل عن العمل هذه الإشارات الضوئية فإن الضمير يتوقف عن العمل. وهو ما يحدث والعياذ بالله في حالة الأفراد الذين نصفهم بأنه لا ضمير لهم أو أن ضميرهم نائم أو أنهم متبلدو الضمير. ومثل هذا النوع من البشر يصعب التعامل معه ولا يوثق به ويحتاج إلى رعاية وتوجيه وإرشاد متصل لإعادته إلى جادة الطريق الصحيح. والضمير يتكون لدى الإنسان منذ مولده ومن خلال تربيته وتنشئته طول أيام حياته. وتزداد حساسية الضمير لديه أو نقل أو تحدث تبعا

ص: 148

لنوع التربية التي ينشأ فيها وحسب الظروف الاجتماعية التي يمر بها. ومع أن الظروف الاجتماعية القاسية والظروف الاقتصادية الطاحنة قد تكون عاملا مؤثرا في تحجير الضمير وإصابته بالبلاد واللامبالاة فمما لا شك فيه أن التربية الدينية السليمة والقدوة الصالحة منذ الطفولة تعتبر خير عاصم للإنسان من أن يتردى في هذه الهاوية. ومن الناس من تسمو ضمائرها لأنها نشأت في بيئات صالحة.

المعنى اللغوي للضمير:

إذا رجعنا إلى المعاجم اللغوية لتحديد معنى الضمير لغويا نجد أنها تورد تحت مادة "ضمر" معان متعددة. فالفعل ضمر ضمورا يعني هزل جسمه وقل لحمه. ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . وضمر الفرس للسباق ونحوه يعني ربطه وعلفه وسقاه مرة من الزمن وركضه في الميدان حتى يخف ويدق. ومدة التضمير عند العرب أربعون يوما. وأضمر في نفسه شيئا يعني عزم عليه بقلبه دون أن يظهره للناس، ومنه الضمير. وهو ما تضمره في نفسك ويصعب الوقوف عليه. وتحدد هذه المعاجم معنى الضمير بأنه استعداد نفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار والتفرقة بينها واستحسان الحسن واستقباح القبيح منها. والجمع ضمائر "انظر المعجم الوجيز مادة ضمر" ونحن في اللغة العربية نقول:"هو" ضمير الغائب و"هي" ضمير الغائبة و"هم" ضمير الغائبين و"هن" ضمير الغائبات. وهذا المعنى يرتبط ارتباطا وثيقا بالمعنى السابق للضمير لكمال الاتصال بينها.

الضمير في القرآن الكريم:

إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أنه لا ترد به من مادة "ضمر" إلا كلمة "ضامر" في الآية التي سبق أن أشرنا إليها. لكنه يستخدم عبارات أخرى تدل عليه مثل قوله في سورة يوسف: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [سورة يوسف: 68] وقوله في نفس السورة: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [سورة يوسف: 53] . وقوله في سورة الشمس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [سورة الشمس: 7] . وقوله في سورة المائدة: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} .

ص: 149

[سورة المائدة: 116]، وقوله أيضا في نفس السورة:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة: 30] . وقوله في سورة طه: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [سورة طه: 96]، وقوله في سورة يوسف:{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [سورة يوسف: 77] . وقوله في سورة "ق": {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [سورة ق: 16] . وقوله في سورة الإسراء: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [سورة الإسراء: 25] . وقوله في سورة البقرة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة: 235] . وقوله في نفس السورة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [سورة البقرة: 284] . وفي سورة يوسف: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [سورة يوسف: 83] . وقوله في سورة إبراهيم: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [سورة إبراهيم: 22] . وقوله في سورة آل عمران: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة آل عمران: 31]، وقوله في سورة الرعد:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: 11]، وقوله في سورة الأنبياء:{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الأنبياء: 64] . وقوله في سورة المجادلة: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [سورة المجادلة: 8] .

والقرآن الكريم من ناحية أخرى يذكر أوصافا متعددة للنفس. فهناك "النفس اللوامة" التي أشار إليها رب العزة في سورة القيامة بقوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} . وهناك "النفس المطمئنة" التي أشار إليها القرآن في سورة الفجر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} . وهناك النفس "الأمارة بالسوء" التي تشير إليها سورة يوسف: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} وهذه الأوصاف تصدق أيضا على الضمير. وإذا نحن رجعنا إلى التعريف اللغوي للضمير الذي سبق أن أشرنا إليه بأنه استعداد نفسي أمكننا القول بكمال الاتصال بين الضمير وبين النفس.

وقد اختلفت الآراء ووجهات النظر في تحديد كنه الضمير وماهيته.. فقيل إنه حاسة فطرية يولد بها الإنسان شأنها شأن الحواس الأخرى التي يميز بها الأشياء. فإذا كان الإنسان يستطيع أن يميز بعينه بين النور والظلمة والأبيض والأسود وإذا كان بحاسة الشم يميز بين الطيب والخبيث من الرائحة والتذوق يستطيع أن يميز بين الحلو والمر بحاسة اللمس بين الساخن والبارد، فكذلك

ص: 150

يستطيع أن يميز بضميره بين الخير والشر والحسن والقبيح من الأعمال الخلقية. وممن ذهب هذا المذهب من المفكرين المفكر الفرنسي "روسو" والفيلسوف الألماني المثالي "كانط" وقيل إن الضمير مكتسب من خلال التنشئة الاجتماعية للفرد. وهي وجهة نظر مناقضة لوجهة النظر السابقة التي تقول بأن الضمير فطري يولد مع الفرد. وكون الضمير مكتسبا يعني أهمية التربية في تكوينه وتشكيله. ومن أنصار هذا الرأي "جون لوك" و"دور كايم" و"كونت". وكلتا النظريتين لا تقدمان تفسيرا كاملا لمعنى الضمير. فوجهة النظر الأولى تعني أن التربية لا دخل لها في تكوين الضمير شأنه في ذلك شأن حواس الإنسان الخمس لا يحتاج إلى تربيتها. وهذا غير صحيح ولا يستقيم مع الخبرة البشرية وتجاربها. ذلك أن الضمير كما هو مشاهد بالتجربة يخضع للتربية. وكذلك الحواس وإن كان لها جانب فيها فطري إلا أن هناك أيضا جانب الاكتساب. فالذوق واللمس والشم والنظر والسمع كلها تخضع للتعلم والاكتساب في بعض جوانبها. ويستطيع أن يتحكم الفرد فيها بالتوجيه وتحديد الغرض. بل إنها تتلون بحالته النفسية والجسمية وقد عبر الشاعر العربي عن هذا المعنى بقوله:

ومن يك ذا فم مر مريض

يجد مرا به الماء الزلالا

فالحواس تمرض وكذلك ضمير الإنسان قد يمرض. من ناحية أخرى نجد أن النظرة القائلة بأن الضمير مكتسب لا تفسر لنا لماذا يختلف الأفراد في ضمائرهم مع أنهم تعرضوا لتربية واحدة؟ ولماذا نجد من الصعب تربية ضمير بعض الأفراد؟ ومن هنا نخلص إلى القول بأن الضمير فطري ومكتسب شأنه شأن ذكاء الإنسان وطبعه ومزاجه وحواسه. ويطلق "كانط" على الضمير الأخلاقي اسم "العقل العملي" وأخلاق الواجب التي تستند إليها نظريته في الأخلاق هي أخلاق نداء الضمير الداخلي.

الضمير والقلب:

يرى بعض علماء الأخلاق من المسلمين أن هناك صلة بين الضمير والقلب ويستندون في ذلك إلى التحليل اللغوي لكلمة الضمير. فالضمير كما تعرفه المعاجم اللغوية هو السر أو الخاطر وأضمر الشيء في قلبه. ومن هنا قالوا بأن

ص: 151

محل الضمير هو القلب. ولكن يمكن الرد على ذلك بأننا نقول أيضا أضمر الشيء في نفسه وهنا يكون الضمير من وظائف النفس الإنسانية. وهناك دليل آخر للربط بين الضمير والقلب لدى علماء المسلمين وهو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عندما سئل عن الإيمان "بأنه ما وقر في القلب وصدقه العمل". وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أيضا: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"، وقوله عز وجل في سورة الحج:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في رده على وابصة بن معبد عندما سأله عن البر والإثم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا وابصة استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس. والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن افتاك الناس وأفتوك".

الضمير والحاسة الخلقية:

هناك من يرى أن الإنسان مزود بحاسة خلقية فطرية تصرف أفعاله الخلقية وتصدر الأحكام عليها. وهذه الحاسة شأنها شأن بقية حواس الإنسان يستخدمها الإنسان للتمييز بين الخير والشر. وهي قوة داخلية لا تحتاج إلى قوة خارجية لتصريف أمورها أو التحكم فيها. ويطلق البعض على هذه الحاسة الخلقية لفظ الضمير.

وظيفة الضمير:

للضمير وظيفتان رئيسيتان أحدهما في توجيه سلوك الإنسان إلى الخير وإبعاده عن الشر. والثانية الحكم على سلوك الإنسان تقبلا ورفضا واستحسانا واستهجانا. وهو بالوظيفة الأولى يعتبر قائدا وموجها وبالوظيفة الثانية يعتبر قاضيا وحكما.

والضمير إذا كان حيا يبعث في الإنسان الإحساس بالندم إذا أقدم على فعل متهور أو متسرع لم يحسن التصرف فيه. والضمير حالة فردية تتعلق بالشخص. وهو يختلف من فرد لآخر باختلاف حساسيته وحيويته فمن الأفراد من يكون ضميره حيا كما أشرنا ومنهم من يكون ضميره ميتا متبلدا والعياذ

ص: 152

بالله. ويندرج تحت هذا الصنف من البشر الذين يستبيحون حرمات الله ويأكلون مال الناس بالباطل. وقد يستخدم الضمير بصورة مجازية فتقول ضمير الجماعة أو ضمير الأمة أو ضمير الشعب. ونحن نقول أحيانا "نداء الضمير" ونعني به الصوت الخفي غير المسموع الذي يلح على الإنسان بالقيام بعمل معين. هذا العمل هو ما يسميه الفيلسوف الألماني "كانط" بالواجب أي "فعل الواجب". وقد شهر كانط بهذا الجانب الأساسي في فلسفته الأخلاقية والتي تعرف "بأخلاق الواجب" وعندما لا يطيع الإنسان نداء ضميره فإنه يكون قد خالف ضميره. وقد يحدث له إذا كان ذا ضمير حي ما يسمى "بأزمة الضمير". أما إذا كان الضمير متبلدا فلن يكون له هذا النداء أو الصوت. ومن ثم لا توجد لدى صاحبه أزمة ضمير على طريقة قول الشاعر "ما لجرح ميت إيلام". وقد يحدث لبعض الناس أن يبيع ضميره بالمال أو الجاه أو المنفعة العارضة أو الخوف أو التهديد. وهذا مندرج تحت ما يعانيه المجتمعات من أمراض اجتماعية بسبب مرض نفوس بعض أبنائها.

الشهوة والضمير والعقل:

تعرف المعاجم اللغوية الشهوة بأنها الرغبة الشديدة وما يشتهي من الملذات المادية والجمع شهوات. والشهواني هو الشديد الرغبة في الملذات المادية وهو نسبة إلى الشهوة. وفي القرآن الكريم {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [سورة آل عمران: 14] . وتأتي الشهوة في القرآن الكريم مرتبطة بالنفس. قال تعالى في سورة "فصلت": {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} ، وفي سورة الأنبياء:{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} ، وفي سورة الزخرف:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} . وواضح من هذا العرض أن الشهوة رغبة شديدة للنفس يترتب على إشباعها لذة نفسية ومادية كما في شهوة الجنس والمال والبنين والأموال والذهب والفضة وما شابه ذلك. وقد تزداد حدة الرغبة فتصبح شهوة عارمة أو جامحة أو جارفة بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يقاومها وتضعف أمامها إرادته وضميره. وهنا نتساءل: أيهما أقوى الشهوة أم الضمير؟ وللإجابة على هذا السؤال نستعين بما يذكره

ص: 153

محمد ضياء الدين الكردي في كتابه عن الأخلاق الإسلامية والصوفية "ص57" يقول ما معناه: إن معظم الناس اتباع شهواتهم. تدفعهم الشهوة أولا ويحاسبهم الضمير ثانيا. فالشهوة قوة أولية والضمير قوة ثانوية. وبمقدار تسلط الشهوة على الإنسان يكون عجز إرادته عن إيقاظ ضميره. والشهوة أكثر انتصارا وأقل من الضمير اندحارا. والشهوة للخير أقل من الشهوة للشر كما أن للشهوة منازل ودرجات. وهو يدلل على أن الشهوة أقوى من الضمير فعلا في النفس بأن الضمير لا يستيقظ إلا نادرا وبعد وقوع الفعل في الغالب. فالشهوة إذًا أقوى من الضمير أثرا في السلوك الإنساني. والضمير محتاج إلى العقل لموازنة الفعل من الناحية الخلقية. كما أن الشهوة محتاجة أيضا إلى تحكيم العقل لكبح جماحها والسيطرة على حد تعبير الشاعر العربي:

أقول لها وقد طارت شعاعا

من الإقدام ويحك لن تراعي

فصبرا في مجال الموت صبرا

فما نيل الخلود بمستطاع

وينبعي أن نشير إلى أن الضمير في حد ذاته لا يصدر عنه خير أو شر وإنما ما يضمره الإنسان في نفسه قد يكون خيرا وشرا. ولكي يتحول ما يضمره الإنسان إلى فعل يحتاج إلى عزم وإرادة وسلوك.

والإسلام لا يحاسب المرء على ما يضمره في نفسه من خير أو شر وإنما يحاسبه على أعماله وأقواله وما يصدر منه من أفعال. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" لا يعني محاسبة المرء على النية وإنما العمل هو الصورة الظاهرة للنية ويدل عليها. ولكل امرئ حسب نواياه من الأفعال إن خيرا أو شرا. ومن مأثور القول "النية محلها القلب". والقلب هنا لا يقصد به معناه الجسمي الذي ينصب على العضلة المعروفة وإنما يقصد به داخل الإنسان وسريرته وهو مرادف هنا أيضا لمعنى الضمير ومعنى النفس. وهذا المعنى المعنوي غير الجسمي للقلب هو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". وكلمة "مضغة" وهي التي تعني لغويا القطعة الصغيرة من اللحم

ص: 154

تسوغ فهم القلب على أساس جسمي أيضا. ومن المعروف أن لقلب الإنسان دورا رئيسيا هاما في حياة الإنسان. والواقع أن للقلب هذه الصفة المزدوجة في اتصاله بكل من البدن والروح. ولتوضيح هذه النقطة يقول أحد علماء المسلمين: "إذا حاولنا أن نفسر اتصال الروح بالبدن فإننا لن نستطيع تفسير ذلك إلا عن طريق القلب. فكما ارتبطت به الحياة الظاهرة عن طريق ضخ الدم. وارتبطت به الحياة الباطنة عن طريق اتصاله بالروح""المرجع السابق ص62". ولذلك نجد أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن صلاح الإنسان وفساده في الحياة الباطنة يشير إلى القلب. قال تعالى في سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .

المنطق والأخلاق:

يدرس المنطق أصول وقواعد التفكير السليم. أما الأخلاق فتدرس أصول وقواعد الأخلاق السليمة. وهكذا يكون المنطق متعلقا بالعقل وسلامة التفكير والأخلاق تتعلق بالنية والإرادة وتقويم السلوك. ويتفق المنطق مع الأخلاق في أن كليهما يضع للإنسان المعايير التي يقيس بها سلوكه وأعماله.

معايير السلوك الأخلاقي في الإسلام:

يحدد الإسلام معايير واضحة للسلوك الأخلاقي من خلال المحللات والمحرمات. فالحلال بين والحرام بين ولكن بينهما أمور متشابهات. والحلال درجات منه ما هو واجب يتحتم على المرء الالتزام به، ومنه ما هو مندوب ويتعلق بالأمور التي يثاب الأمر عليها إذا فعلها ولا يعاقب عليها إذا تركها. وثمة ما هو مباح ويتعلق بالأمور التي ترك الإسلام الخيار للمرء بين فعلها وتركها. والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يكن هناك نفي بقيدها أو يحرمها. ومن الحلال ما هو مكروه ويتعلق بالأمور التي نهى الشرع عنها نهيا غير جازم. ويكون من الأفضل تركها.

وهناك عدة معايير للحكم على جانبي الحسن والقبح أو الخير والشر في العقل أو السلوك الأخلاقي من أهمها:

ص: 155

1-

النية والقصد والإرادة من وراء الفعل أو السلوك: فلكل عمل نية أو قصد أو إرادة أو دافع له. وقد قال الإمام الغزالي: "اعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد. وهي حالة وصفية للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل. والعلم يقدم العمل لأنه أصله وشرطه. والعمل يتبع العلم لأنه فرعه وثمرته. وكل عمل لا يتم إلا بثلاثة أمور علم إرادة وقدرة.. ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقا للغرض. ومن هنا يرتبط العمل أو السلوك الأخلاقي بحرية الفرد في ممارسة وأداء عمله وواجباته من ناحية وبمسئوليته عن استخدام هذه الحرية من ناحية أخرى. والمسئولية ترتبط بالجزاء. كما أن حرية الفرد تدور في الإطار الاجتماعي فليس هناك حرية في فراغ. وحرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين. وعلى هذا فإذا كانت النية أو القصد أو الدافع من وراء الفعل حسنا أو خيرا كان العقل خيرا أو حسنا والعكس صحيح. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".

2-

الأثر أو النتيجة المترتبة على الفعل بالنسبة للآخرين. والسلوك هو الصورة الظاهرة التي تدل على الصورة الباطنة للأخلاق. وهو عمل إرادي متجه نحو غاية معينة. فإذا كانت النتيجة خيرا أو حسنة كان الفعل خيرا أو حسنا والعكس صحيح. والإنسان يتحمل نتيجة عمله وتصرفه عملا بقوله تعالى في سورة فاطر: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، وقوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . والإنسان هو الذي يأتي أعماله بمحض إرادته واختياره وتصرفه. فالله سبحانه وتعالى لا يخلق أفعال الناس ولا يكتبها عليهم.

3-

طبيعة الفعل أو السلوك الأخلاقي: فالفعل أو السلوك الأخلاقي يكون حسنا أو قبيحا في ذاته وليس في شيء خارج عنه. فلكل فعل أو سلوك أخلاقي صفة ذاتية تجعله حسنا أو قبيحا. فالصدق صفة ذاتية جعلته حسنا والكذب فيه صفة ذاتية جعلته قبيحا. ولذلك يشترك العقلاء فيما يستحسنون أو يستقبحون.

ص: 156

4-

أمر الشرع به والنهي عنه: فالشرع يأمر بالشيء لحسنه وينهى عنه لقبحه. وقد لا تكون حكمة الحسن أو القبح ظاهرة أو مما يدركه الفعل في السلوك الأخلاقي مثل النهي عن صوم أيام العيدين كما أشرنا. ومع ذلك يجب الالتزام بما أمر به الشرع أو نهى عنه.

شروط القانون الأخلاقي:

هناك عدة شروط تحكم القانون الأخلاقي والإلزام الخلقي من أهمها:

أ- أن يكون في استطاعة المرء القيام به على طريقة إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع. ولذلك لا يسأل العبد عن الأفعال التي تقع خارج قدرته. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" لأن هذه أمور تخرج عن استطاعة الإنسان ومن قدرته. وقد قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} . فالله سبحانه وتعالى لا يكلف عباده بما لا يطيقونه وهذا هو العدل. وعندما يكلف الإنسان إنسانا آخر فوق طاقته وفوق قدرته فإن هذا هو الظلم بعينه والله سبحانه وتعالى منزه عنه.

ب- أن الإنسان لا يحاسب على ما يدور في داخل نفسه من صراع بين الخير والشر والحب والكرامة إلا عندما يترجم شعوره الداخلي إلى عقل خارجي عملي واقعي. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعدل بين زوجاته في الأمور التي يستطيعها أما فيما عدا ذلك من الأمور التي لا يستطيع أن يسيطر عليها شعوريا أو داخليا فكان يترك الأمر لله. وقد أثر عنه قوله في ذلك "اللهم إني عدلت فيما أملك فلا تحاسبني فيما لا أملك". يريد بذلك مشاعره وأحاسيسه وعواطفه التي لا يمكنه أن يسيطر عليها.

ج- أن المرء يحاسب على نتيجة فعله ويتحمل مسئولية هذه النتيجة. لأن المرء في هذه الحالة هو الذي يقوم باختيار الفعل بحريته وعليه إذن أن يتحمل مسئولية ما فعله لأن الحرية تعني المسئولية. والمسئولية تعني الجزاء خيرا أو شرا.

د- من شروط القانون الأخلاقي اليسر ولا العسر لأن الدين يسر لا عسر. قال

ص: 157

تعالى في سورة البقرة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقال تعالى في سورة الأنبياء:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وفي سورة النساء:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . وقال في سورة الأنفال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} . وهكذا يكون من شروط القانون الأخلاقي تيسير وتسهيل مهمة القيام به على صاحبه. فهذه أفضل الطرق لأداء الواجب الأخلاقي.

هـ- أن يكون صاحب العمل أو السلوك الأخلاقي عاقلا مكتمل الصحة والأهلية فليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج ولا على المجنون أو فاقد العقل حرج ولا على النائم حرج. لأن هؤلاء يخرجون عن نطاق اكتمال الصحة والأهلية والمسئولية.

و مراعاة حالات الضرورة والحالات الطارئة: فالضرورات تبيح المحظورات في الإسلام. كما أن الإسلام راعى في قانون أخلاقه الحالات الطارئة أو العارضة التي يصعب فيها الالتزام بالقانون الأخلاقي. وقد جعل الإسلام لكل حالة مخرج. فقد يكون ذلك المخرج بالإعفاء الكلي الكامل للمكلف وسقوط التكليف عنه كما في حالة فاقد العقل أو المجنون أو المريض مرضا لا شفاء منه. وقد يكون بالإعفاء الجزئي كما في حالة قصر الصلاة للمسافر وقد يكون بإرجاء أو إحلال عمل سهل يسير بعمل آخر صعب عسير مثل إطعام المساكين في كفارة الحلف أو اليمين. وهذه المخارج التي أباحها الإسلام للحالات الطارئة إنما هي دليل على سماحة الإسلام ومرونة التشريع الإسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان. ولا ينبغي أن يساء استخدامها للتهاون في الالتزام الأخلاقي.

ز- الترتيب في تحديد الواجبات الأخلاقية: يقول الدكتور محفوظ على عزام في كتابه الأخلاق في الإسلام بين النظرية والتطبيق "ص34-36" إن الإسلام رتب الأعمال الخلقية إلى ما هو لازم وما هو ألزم. فألزمها فرض العين ثم فرض الكفاية ثم الواجب ثم السنة المؤكدة ثم السنة غير المؤكدة ثم النوافل وأخيرا الكماليات. كما رتب الإسلام المحرمات والشرور إلى كبائر

ص: 158

وصغائر ومكروهات. ثم قسمها من ناحية أخرى من حيث الواجبات المحدودة وغير المحدودة والمؤقتة وغير المؤقتة. وحدد مسافة بين الخير والشر، لا هي خير ولا هي شر. وهي المباحات. وأحد طرفيها متصل بالخير والآخر متصل بالشر. وأمر الناس بالاتجاه إلى الخير والابتعاد عن الشر.

مصادر القيم الأخلاقية:

تختلف مصادر القيم الأخلاقية والإلزام الخلقي باختلاف الثقافات والمجتمعات. فلكل ثقافة أو مجتمع مصادره الخاصة التي يستقي منها قيمه الخلقية ويحدد على أساسها إطاره الأخلاقي. ويمكن القول بصفة عامة بأن من أهم مصادر القيم الأخلاقية للثقافات المختلفة الدين أو الشرائع السماوية أو غير السماوية والأيديولوجيات الفكرية أو الفلسفية أو الاجتماعية السائدة، والعرف والتقاليد والقوانين الوضعية والمدنية. ويصدق ذلك على الدول الإسلامية كما يصدق على غيرها من الدول. بيد أنه بالنسبة للدول الإسلامية نجد أن القرآن الكريم يعتبر أهم مصدر لقيمنا الأخلاقية. وهو الينبوع الرئيسي الذي نستمد منه أحكامنا وواجباتنا وقيمنا الخلقية. وقد بين الله للإنسان طريق الصواب وطريق الخطأ من خلال أوامره ونواهيه. وزوده بالعقل والحواس ليكون بصيرا بنفسه. قال تعالى:{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} . وقال أيضا: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} و {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} و {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . ويرى علماء المسلمين أن قضية التحريم والتحليل في الإسلام تمشي مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها كما تتمشى مع طبيعة العقل البشري ولذلك فإنهم ينظرون إلى مفهوم "العدل" على أن ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار العقل على وجه المصلحة أو الصواب. فالقتل والسرقة والكذب حرام لأنها أفعال يرى فيها الشرع أنها منافية للفطرة والعقل والقصاص والأمانة والصدق حلال لأنها أفعال مشروعة بحكم تمشيها مع الفطرة والعقل. وعندما يقصر الإنسان في حق ما أمره به الله أو نهاه عنه فإن الله سبحانه وتعالى يحاسبه ويعاقبه على تقصيره. وإن أخطأ وتاب فإن

ص: 159

الله يعفو عنه كما يعفو عن كثير. وقد أشرنا إلى قضية الجبر والاختيار في أعمال الإنسان في مكان آخر من هذا الكتاب.

والمصدر الثاني للقيم الخلقية الإسلامية فهو السنة المطهرة فهي مكملة للتشريع الرئيسي وهو القرآن الكريم. فقد كان عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .

وقال تعالى في سورة آل عمران: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . وقد دعا المسلمين إلى الأخذ بكل ما جاء به الرسول عليه السلام. وهناك حديثان هامان بصفة خاصة لأنهما مكملان لما أحله الله أو حرمه علينا من الأكل والطعام الأول هو: "أحلت لكم ميتتان ودمان. أما الميتتان فهما السمك والجراد وأما الدمان فهما الكبد والطحال". والثاني هو "حرم عليكم كل ذي ناب من السبع وكل ذي مخلب من الطير". وهذا الحديث رغم خطورة فحواه -لأنه بدونه يباح أكل كل ما يدب على الأرض من سباع وطيور جارحة وهوام- هناك رأي لا يجيز العمل بهذا الحديث على أساس أنه ضعيف أو ليس بحديث مع أنه ورد في الصحيحين. وعلى أساس ذلك أشار الإمام محمد الغزالي في كتابه عن الإسلام خارج حدوده إلى أن لحم الكلب لا يوجد دليل شرعي على تحريم أكله. وقد تألم كاتب هذه السطور عند قراءة هذا الرأي وكان وقتها أستاذا في جامعة قطر حيث يعمل فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عميد كلية الشريعة آنذاك. وبمناقشتي معه حول الموضوع ثنى على كلام الشيخ الغزالي وذكر أبياتا شعرية عن مدح المالكية في لحم الكلب مع أنه استند إلى هذا الحديث في كتابه الحلال والحرام في الإسلام. ولما قلت له إن لعاب الكلب نجاسة يتطهر منها بالغسل سبع مرات آخرها بالتراب فقال لي: النجس لعابه فقط. فتعجبت ولم أقتنع وقلت في نفسي إذا كانت القاعدة الفقهية المعمول بها: ما يسكر قليله فكثيره حرام. فلماذا لا يكون ما ينجس قليلة يكون كثيره حراما. وقلت في نفسي أيضا أليس من المعمول به في بعض المذاهب الفقهية الأخذ بالأحاديث الضعيفة في الجوانب الأخلاقية لا سيما في هذا الحديث الهام إذا كان ضعيفا على رأيهم؟ أعود إلى

ص: 160

نفسي لأبعث فيها الطمأنينة والرضى فأقول إن الله طيب لا يحب إلا الطيب ويكره ما عداه من الخبائث. وأعيد ثقتي بالنفس عندما أتذكر أيام شبابي عندما درست هذين الحديثين فيما درست في كلية دار العلوم على يد علماء مسلمين أفاضل جزاهم الله خير الجزاء. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الله في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} . ونود أن نلفت النظر هنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار في أحاديثه إلى أنه ينبغي علينا أن نميز بين نوعين من أفعاله وأقواله: النوع الأول وهي الأقوال والأفعال الموحى بها إليه من الله عز وجل. وهذه لا جدال فيها إذ يجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها على أنها من تمام الدين والشرع. النوع الثاني هي الأقوال والأفعال التي كان يقوم بها الرسول باعتباره بشرا يسري عليه ما يسري عليهم باستثناء واحد عبر عنه الشاعر بقوله:

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

ولقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله". وورد عنه قوله لبعض جماعته في موقف عام وقد شهي عليه في الصلاة "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". فهو غير معصوم عن الخطأ كبشر لكنه معصوم عن الخطأ فيما بلغ عن ربه. وقد لقي النبي التوجيه من ربه عندما مال كرأي أبي بكر بأحد النداء من أسرى بدر من المشركين وغلبه على رأي عمر الذي أشار بقتلهم فنزل قوله تعالى في سورة الأنفال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} كما أن الله سبحانه وتعالى عاتبه على استغفار لعمه أبي طالب وقد أبى عليه الإسلام فنزل قوله تعالى في سورة التوبة: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . ويقول الشيخ محمد عبد الله دراز: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يستمر مطلقا على رأي خاطئ وإذا لم يعد إلى الصواب بالطريق المعتاد فإن الوحي يتدخل حتما لتصحيح خطئه وإقامته على السراط المستقيم وإلا وقعت الجماعة كلها في الخطأ والتزمت باتباعه في طريق الضلال.

ص: 161

يضاف إلى ذلك أن أئمة علماء المسلمين يفهمون ما ورد في السنة ويفسرونه في ضوء ما ورد في القرآن الكريم والتوجهات العامة لأحكامه. كما درج علماء المسلمين على استقصاء أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بالمتواتر والصحيح منها وترك ما هو مدسوس أو مختلق عليه صلى الله عليه وسلم. وهكذا نكون من متطلبات المصدر الثاني للتشريع الإسلامي تأصيل ما رود عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتحقق منه لأن هناك بعض الأحاديث المختلفة والمنسوبة عن غير حق لرسول الله، ويسيء استغلالها بعض المغرضين من المسلمين وإن لبسوا العمامة وأطالوا اللحى. وهو في هذا يختلف عن المصدر الأول للتشريع وهو القرآن الكريم. وإلى جانب هذين المصدرين الرئيسين للتشريع الإسلامي هنا مصدران ثانويان آخران هما الإجماع والقياس وكلاهما يقوم على المصدرين الرئيسين السابقين في ضوء الدراسة الفاحصة لمتطلبات الموقف الجديد. وهذه المصادر الأربعة هي في الواقع مصارد رئيسية للقيم الأخلاقية والإسلامية.

الوسائل والغايات:

ترتبط الوسائل بغاياتها. فالغايات النبيلة والمقاصد الشريفة تكون وسائلها فضيلة وشريفه. وقد تتعدد الوسائل لتحقيق غاية واحدة على طريقة أن كل الطرق تؤدي إلى روما. وهناك مثل أو مبدأ يقول بأن الغاية تبرر الوسيلة. وهذا قول لا يمكن أن يقبل على علاته وإنما يجب أن توضع له الضمانات حتى لا ينحرف عن مساره الطبيعي ويصبح مبدأ ميكيافيليا مرفوضا. فالغاية إذا كانت شريفة ومقبولة أخلاقيا والوسيلة شريفة ومقبولة أخلاقيا فلا ضير أن تبرز الغاية الوسيلة. أما إذا كانت الغاية مقبولة اجتماعيا والوسيلة غير شريفة وغير مقبولة اجتماعيا يصبح الأمر مرفوضا. فإذا كانت الغاية أو الهدف تحقيق الغنى أو الجاه أو جمع المال وتكون الوسيلة هي السرقة والنهب والاستيلاء على أموال الناس. عندئذ يكون هذا المبدأ ميكيافيليا مرفوضا أخلاقيا. وأخلاقنا الإسلامية تنبذ مثل هذه المبادئ وترفضها لأنها تتعارض مع طبيعة الأخلاق الإسلامية التي تقوم على الحق والخير والعدل والجمال.

ص: 162

الفرق بين الأومر والنواهي:

الفرق الرئيسي بين الأوامر والنواهي أن الأخيرة تحريم مطلق يسري في كل مكان وزمان وفي كل الأحوال وبدون أي استثناءات إلا في الحالات التي حددها الإسلام وهي حالة الخطأ والنسيان وما استكره عليه الإنسان. أما الأوامر فليست لها هذه الصفة المطلقة من الإجبار والحتمية. وإنما تتمشى حسب ظروف الفرد. فإذا كان مريضا أو على سفر في حالة الصوم مثلا فعدة من أيام أخر. وللمصلي أن يجمع ويقصر في صلاته في حالة سفره. وباختصار تخضع الأوامر لما ذكره رب العزة في كتابه الكريم {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .

الإيثار ضد الأنانية:

تختلف النظرة الأخلاقية من حيث جانب الإيثار أو الأنانية. فالإيثار تفضيل الإنسان غيره على نفسه. وقد حثنا الإسلام على الإثرة في قوله عز وجل في سورة الحشر: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . أي يقدمون غيرهم على أنفسهم ولو كانوا محتاجين وقوله عز وجل في سورة آل عمران: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} .. والإيثار صفة خلقية محبوبة لأنها تعزز الروابط الاجتماعية بين الناس وتحقق التراحم بينهم. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وفي مأثور الحكم "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط. وقد عبر عن ذلك الشاعر العربي أو العلاء بقوله:

فلا نزلت علي ولا بأرضي

سحائب ليس تنتظم البلادا

وقد ضرب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. أمثلة رائعة في الإيثار سطرها التاريخ. ومن الأمثلة الفذة ما يرويه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن "ج18 ص28" عن الحذيفة العدوي في قوله: "انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته. فإذا أنا به. فقلت: أسقيك؟ فأشار برأسه أن: نعم. فإذا أنا برجل يقول: آه آه. فأشار إلى ابن عمي أن انطلق إليه. فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن:

ص: 163

نعم. فسمع آخر يقول: آه آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وهكذا لم يشرب أحدهم الماء لإيثار كل منهم صاحبه عليه. والإيثار كقيمة أخلاقية يتعبر من أنبل الأخلاق وأفضل المكارم الإنسانية.

أما الأنانية فهي صفة أخلاقية مرفوضة لأنها تقوم على حب الذات وتمركز الشخص حول نفسه ومصلحته بصرف النظر عن الآخرين. فلا يهم الفرد إلا مصلحته هو وليمت الآخرون. وقد عبر الشاعر العربي عن هذه الصفة الأنانية التي تشينه بقوله: "إذا مت ظمان فلا نزل القطر". أي المطر. فهو يدعو بألا يعم الخير على الآخرين إذا هو لم يصبه هذا الخير أولا. وهذه أنانية بغيضة نهانا عنها ديننا الحنيف.

وينبغي أن نشير هنا إلى أن الفيلسوف الفرنسي المعروف أوجست كونت يتمشى مع الإسلام في هذه الناحية وإن كان يغلب جانب الآخرين. ذلك أن مبدأه الأخلاقي يقوم على أساس الشعار الذي وضعه لنفسه وهو: "عش من أجل غيرك". وهو يرى أن "الحب هو المبدأ، والنظام هو القاعدة، والتقدم هو الغاية". وهو يختلف عن الفيلسوف الألماني "كانط" فيما ذهب إليه من أن العواطف مفسدة للجانب الأخلاقي وإن كان كونت يتفق معه في تجريد الأخلاق من كل اعتبار يقوم على المنفعة والمصلحة. ويرى كونت أن رقة العاطفة هي منشأ الحب ومصدره، وأنها هي التي يجب أن ينتظر منها الجميع ألوان التراحم والتعاون والتضحيات. وهي التي يجب أن تنمى في قلب الطفل منذ أيامه الأولى. وإذا كانت المرأة هي أفضل صورة للإنسانية -كما يقول كونت- فذاك لأنها هي أرق النوعين الإنسانيين عاطفة وأوفرهما حنوا. "كريسون: ص252".

وينبغي أن نشير من قبيل المقارنة إلى أن الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت" يتشدد في مذهبه الداعي إلى حب الغير وإيثار الآخرين لدرجة أنه يحرم على المربي أن يطري أو يمدح فضيلة، كائنة ما كانت، بسبب ما يمكن أن يجنيه الفرد من فائدة من ورائها. ويضرب لذلك مثلا للطفل الذي يقال له: كن نظيفا لتحافظ على صحتك. والأولى أن يقال له: كن نظيفا لتحافظ على صحة

ص: 164

ونظافة المجتمع وحتى لا يتأذى بك الغير. ويضرب مثلا آخر عندما يقال للطفل "اجتهد لكي تكون من العظماء وذوي الرفعة المكانية". والأولى في نظره أن يقال له اجتهد لكي تكون عضوا نافعا للمجتمع والإنسانية. ويرى كونت أن أي مسلك أخلاقي يخالف ذلك يكون خدعة في طيها جنابة "كريسون: ص254".

ويبدو من هذه النظرة الأخلاقية أن "كونت" يفرق بل يبالغ في تأكيد الجانب الاجتماعي وتغليبه على الجانب الفردي. وفي هذه النقطة بالذات نجد أن النظرة الإسلامية تختلف. فهي وإن أكدت أهمية جانب المجتمع والإنسانية بصفة عامة فإنها لا تغفل أيضا جانب الفرد. فإذا عدنا للمثال السابق وهو مثال الطفل، نجد أن النظرة الإسلامية تجمع بين قولنا للطفل كن نظيفا لتحافظ على صحتك وبين كونه نظيفا ليحافظ على سلامة المجتمع وحتى لا يتأذى به الغير.

وبالمثل يمكن القول في المثال الثاني الخاص بالاجتهاد ليكون الطفل من ذوي الرفعة وليكون أيضا عضوا نافعا للمجتمع والإنسانية. وقد سبق أن أشرنا إلى أن التربية الإسلامية هي تربية فردية واجتماعية معا.

إن الإيثار وحب الغير فضيلة أخلاقية تجلب حب الناس وبالتالي حب الله. أما الأنانية فهي رذيلة ممحوجة لا تجلب لصاحبها إلا الكراهية والنفور وبعض الناس له وبالتالي بغض ربه وخالقه.

الطبيعة الإنسانية في الإسلام:

يعتبر موضوع الطبيعة الإسلامية من الموضوعات الهامة التي لا يستغني عنها أي دارس للتربية الإسلامية لأن الإنسان موضوع التربية ومن المهم إذن أن نعرف ما يقوله الإسلام عن هذه الطبيعة حتى يمكن توجيهها وتنشئتها على أساس سليم.

ويقول المربون: إن فلسفة التربية هي فلسفة الإنسان قبل كل شيء، وبهذا الشرط وحده تستطيع أن تؤدي رسالتها وهي العمل على تنظيم الكائن الإنساني ووحدته وتأليفه تأليفا جديدا ومستمرا وحمايته قبل كل شيء من القوى المختلفة التي تتنازعه في اتجاهات متباينة، ووقايته من مخاطر تشتت فكره وانحلال

ص: 165

إرادته. ولما كانت التربية عملية توجيه ونمو للأفراد، فإن طبيعة الفرد تصبح مسألة على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لفلسفة التربية. ويقصد بالطبيعة الإنسانية من المنظور الإسلامي فطرة الإنسان التي فطره الله عليها. ترى ما هي طبيعة الإنسان وفطرته في الإسلام؟

هناك ثلاثة أمور رئيسية يمكن تناولها لتوضيح مفهوم طبيعة الإنسان من الوجهة الإسلامية. أول هذه الأمور يتعلق بماهية الإنسان نفسه هل هو مادة أم روح أم كلاهما معا؟ ثاني هذه الأمور يتعلق بجانب الخير والشر فيه. أي هل الإنسان خير بطبيعته أم شرير بطبيعته أم كلاهما معا، أم أن طبيعته محايدة لاهي خيرة ولا شريرة. وثالث الأمور يتعلق بإرادة الإنسان. هل هي مطلقة أم محدودة وهل هو مخير أم مسير أم كلاهما معا؟ وسنتناول كل موضوع من هذه الموضوعات الثلاثة للطبيعة الإنسانية بشيء من التفصيل في السطور التالية:

أولا: ماهية الإنسان:

إن الإنسان الأول وهو آدم خلقه الله من تراب أي من غير أب. وهو بهذا يشبه عيسى عليه السلام الذي خلقه الله من غير أب. يقول عز وجل في سورة آل عمران: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

فآدم أبو البشر جميعا في أول الخلق. وقد خلقه الله وخلق منه زوجته حواء. قال تعالى في سورة الزمر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . ويذكر ابن سيرين في كتابه "تفسير الأحلام الكبير "ص25". وهو الكتاب الذي يتشكك أحمد أمين في نسبته1 إن أول رؤيا على الأرض هي ما رآه سيدنا آدم عليه السلام فقد أوحى الله تعالى إليه: "إنك قد

1 يقول أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام ص294: إن ابن سيرين اشتهر بتفسير الأحلام وزيف عليه كتاب في ذلك. وقد ذكره ابن النديم في الفهرست ونسبه إليه. ولكنا لا نجد أثرا لشهرته في تعبير الرؤى في كتب المتقدمين أمثال طبقات ابن سعد.

ص: 166

نظرت في خلقي فهل رأيت فهم شبيها؟ " قال: لا يا رب، وقد كرمتني وفضلتني وعظمتني، فاجعل لي زوجا تشبهني أسكن إليها حتى توحدك وتعبدك معي، فقال الله تعالى له: "نعم". فألقى عليه النعاس، فخلق منه حواء على صورته. وآراه في منامه ذلك. فانتبه وهي جالسة عند رأسه. فقال له ربه: "يا آدم ما هذه الجالسة التي عند رأسك؟ ". فقال له آدم: الرؤيا أريتني في منامي يا إلهي:

وقد ورد في الأثر "إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وأن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء" ولكن الإنسان فيما بعد آدم ذكرا كان أم أنثى من مني يمنى. قال تعالى في سورة القيامة: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} وقال تعالى في سورة الحج: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} . وقال في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .

ويلخص لنا القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات" ص231 حقيقة الإنسان كما شرحها ووضحها مفكرو الإسلام فيقول:

اعلم أن الإنسان مجموع مركب من النفس والبدن، وأنه أشرف الحيوانات وخلاصة المخلوقات. ركبه الله تعالى في أحسن صورة روحا وبدنا. وخصه بالنطق والعقل سرا وعلنا. وزين ظاهره بالحواس والحظ الأوفى، وباطنه بالقوى ما هو أشرف وأقوى. وهيأ للنفس الناطقة الدماغ وأسكنه أعلى محل وأوفق رتبة. وزينه بالفكر والذكر والحفظ. وسلط عليه الجواهر العقلية لتكون النفس أميره والعقل وزيره، والقوى جنوده، والحس المشترك مريده، والأعضاء خدمه، والبدن محل ممكلته، بالحواس يسافرون في جميع الأوقات في عالمهم، ويلتقطون الأخبار والموافقة والمخالفة، ويعرضونها على الحس المشترك الذي هو واسطة بين النفس والحواس.. وهو يعرضها على القوة العقلية لتختار ما يوافق، وتطرح ما يخالف، فمن هذا الوجه فالإنسان عالم صغير. ومن حيث إنه يتغذى وينمو قالوا نبات. ومن حيث إنه يحس ويتحرك قالوا حيوان. ومن حيث إنه يعلم

ص: 167

حقائق الأشياء قالوا ملك. فصار مجمعا لهذه المعاني. فإذا صرف همه إلى جهة من هذه الجهات ليلتحق بها فإن كان قد صرف همته إلى الجهة الطبيعية فيكون راضيا من أمر دنياه بالتقوى وتنقية الفضول. وإن كان إلى الحيوانية فيكون إما غضويا كسبع، أو أكولا كبقرة، أو شرها كخنزير، أو جزعا ككلب، أو حقودا كجمل، أو متكبرا كنمر، أو ذا روغان كثعلب. أو يجمع هذا كله فيكون شيطانا مريدا. وإن كان صرف همته إلى الجهة الملكية فيكون متوجها إلى العالم الأعلى، ولا يرضى بالمنزل الأسفل والمربع الأدنى. فيكون مرادا من قوله عز وجل في سورة الإسراء:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} . "محفوظ على عزام: ص163-164. نقلا عن القزوين: عجائب المخلوقات".

وقد شغل كثير من علماء المسلمين بالبحث في ماهية الإنسان. وفي كلامهم عن هذه الماهية يميزون بين جانبين رئيسيين: الجانب المادي فيها وهو الجسم أو البدن والجانب غير المادي ويشمل العقل والنفس والروح. ولا يعني هذا التمييز وجود انفصال بين الجانبين. وقد أدرك المسلمون منذ عصورهم الأولى أن هناك صلة وثيقة بين الجسم والعقل، وعبروا عن هذه الصلة بالحكمة القائلة:"بأن العقل السليم في الجسم السليم" وقد عنوا بالجسم وخففوا عنه الأعباء ليستطيع أن يحمل النفس الكبيرة ويساعد العقل على الدرس والتدريس والتعلم والتعليم. ولم يجز المسلمون أن يرهق الإنسان قواه الجسمانية أو يضعف من احتمالها من أجل عبادة يسرف فيها أو حرمان مما أحل الله للناس.

وقد أدرك المربون المسلمون أن الجسم المريض لا يساعد العقل على الفهم وأوصى الأصفهاني بترفيه النفس في طلب العلم محذرا الطالب من مواصلة الدرس والجهد دون أن يتخلل ذلك راحة ورياضة فهذا الجهد المتواصل سيكون نتيجته الفشل. ويأتي بدليل على كلامه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى". ويضيف الأصفهاني أيضا أن على الطالب أن يواصل الدرس ما نشط عقله وفطن فإذا أحس في عقله فتورا فليتوقف عن العمل وليلجأ إلى اللعب فإن العقل المكدود ليس لرؤيته لقاح ولا لرأيه نجاح.

وقد كان المربون المسلمون يدركون أن من طبيعة الطفل أن يكون نشيطا

ص: 168

كثير الحركة، وكانوا يغذون فيه هذه الطبيعة لعلمهم أن في نشاط الجسم يقظة العقل وصفاء الذهن، وكانوا يرون أن من غير الطبيعي أن يكون الطفل هادئا ساكنا ويرجعون سكونه إلى مرض أصابه أو بأس نزل به، فالمربون المسملون جعلوا للعب مكانته في التربية غير أنهم اقتصروا على الجانب الترويحي منه بعد الفراغ من العمل، ولم يذهبوا مذاهب المحدثين في جعل اللعب جزءا من العمل التربوي، وفي جعل العمل التربوي يتم عن طريق اللعب.

وكان اهتمام فلاسفة المسلمين شديدا بالجانب غير المادي للطبيعة الإنسانية باعتباره الجانب الغامض الملغز المحير في الإنسان. فدرسوا فيما درسوا العقل. والعقل في اللغة قيد البعير وسمي هذا الجوهر به تشبيها على عادة العرب في استعارة أسماء المحسوسات للمعقولات. والعقل قيد الإنسان فهو مقيد له وعاصم من الزلل والخطأ. "الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص98" وسمي العقل قلبا، وذلك أنه لما كان القلب مبدأ تأثير الروحانيات والفضائل سمي به. ولذلك عظم الله تعالى أمره لاختصاصه بما قد أوجد لأجله؟ قال تعالى:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} . "الأصفهاني: الذريعة إلى أحكام الشريعة ص99". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في البدن مضغة إذا استقامت استقام البدن وإذا اعوجت اعوج البدن ألا هي القلب". والعقل عند الفلاسفة يمثل القوة الإدراكية. وهو عند متكلمي الإسلام ليس جوهرا وإنما هو عرض يتمثل في جملة من العلوم والمعارف الأولية التي تقوم عليها المعرفة البشرية. كما يعرف بأنه الملكة أو القوة التي يستطيع الإنسان بها أن يميز بين الخير والشر ومنها يكتسب المعارف.

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إن أول ما خلق الله خلق العقل" ويقال: إن المقصود هو العقل في قوله تعالى: "وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز علي ولا أفضل منك بك آخذ وبك أعطي". وقد سبق أن أشرنا إلى أن العقل أساس العقائد في الإسلام كما أن التفكير وهو وظيفة العقل فريضة إسلامية كما أن للنفس مظاهر عاطفية وجدانية تتمثل في الانفعالات والمشاعر والأحاسيس. وهكذا ينظر الإسلام إلى ماهية الإنسان على أنها مركبة تركيبا عضويا يتلاحم

ص: 169

فيها الجانب الجسمي مع العقلي والنفسي.

وبعض علماء المسلمين لا يفرق بين العقل والنفس والروح والقلب ويستخدمونها استخداما مترادفا أو متشابها. كما أن بعض علماء المسلمين تأثر بما ذكره فلاسفة الإغريق عن ماهية الإنسان وما يتعلق منها بالعقل والنفس. فالرئيس ابن سينا الذي يعتبر إمام فلاسفة المسلمين في دراسة النفس ويقول في قصيدته المشهورة عن النفس ما يذكرنا أحيانا بأساطير أفلاطون:

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنع

وصلت على كره إليك وربما

كرهت فراقك وهي ذات تفجع

فلأي شيء أهبطت من شامخ

سام إلى قعر الحضيض الأوضع

إن كان أهبطها الإله لحكمة

طويت عن الفذ اللبيب الأروع

فهبوطها لا شك ضربه لازب

لتكون سامعة لما لم تسمع

وتعود عالمة بكل خفية

في العالمين فخرقها لم يرقع

النفس وتعريفها:

يعرف قدماء فلاسفة الإسلام النفس بأنها الكمال الأول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة وهو تعريف نقلوه عن أرسطو. وفي الكتب الإسلامية القديمة يرد التعبير جسم آلي "كترجمة لكلمة Organism أي كينونة عضوية حية، في تعريف أرسطو للنفس. وكلمة بالقوة In potentia تمييزا لها عن كلمة بالفعل In act فالبذرة شجرة بالقوة أما الشجرة فهي شجرة بالفعل. وهي جوهر روحي قائم بذاته إلا إذا اتصلت بالبدن فإنه يدخل في تعريفها لا على أنها صورة منطبعة فيه بل على أنها شرف وكمال له في الوجود. وكمال النفس عند ابن سينا كمالان: كمال أول وهو الذي يصير النوع به نوعا بالقوة كالإنسان والحيوان والنبات بأنواعه، وكالشكل بالنسبة للجماد كالسيف أو السكين مثلا. والكمال الثاني هو ما يتبع نوع الشيء من أفعال وصفات وانفعالات كالحركة والرؤية والإحساس والتمييز بالنسبة للإنسان، خاصية المضاء والقطع بالنسبة للسيف أو السكين. وهذا الكمال الثاني هو من تمام الكمال الأول. وهو الذي يجعل الشيء

ص: 170

شيئا بالفعل بعد أن كان كامنا بالقوة. "فتح الله خليف: ص64" والبدن والنفس يشكلان طبيعة واحدة للإنسان. وللنفس قوى منها القوى العاقلة والغاضبة والشهوية. وكل واحدة من هذه القوى عند علماء المسلمين داخلة في سلطان ما فوقها ومتآمرة على من دونها. فحق القوة الشهوية أن تكون مؤتمرة للقوة الغضبية، وحق هذه القوة أن تكون مؤتمرة للقوة العاقلة. وحق هذه القوة العاقلة أن تكون مستضيئة بنور الشرع ومؤتمرة لمراسمه حتى تصير هذه القوى متظاهرة غير متعادية "الراغب الأصفهاني: تفضيل النشأتين ص93" وفي نفس الإنسان قوى رديئة من الهوى والشهوة والحسد تطلب الفساد وتعادي العقل والفكر. ولذلك يجب للعقل أن يعادل الهوى وألا يستسلم له. فالهوى من أعداء الله بدلالة قوله عليه السلام: "وما في الأرض معبود أبغض إلى الله من الهوى". ويرتبط بذلك صفتان متضادتان للنفس. فهناك شرف النفس وهي صفحة تنأى بصاحبها عن إتيان المذموم من الفعال، وتقابلها خسة النفس وهي صفة أصحاب النفوس الوضيعة الذين لا يستحون من فعل القبيح لا يستنكرونه.

والإسلام يخاطب النفس ويهدف إلى تربيتها من خلال الثواب والعقاب. فهناك الثواب المادي من جنة وزيادة في الرزق والتمتع بزينة الحياة الدنيا من مال وبنين. وهناك ثواب غير المادي من إعلاء مكانة وعلو المرتبة والطمأنينة النفسية وراحة البال والضمير. وهناك العقاب المادي من نار وقلة في الرزق وحرمان من متع الدنيا. وهناك العقاب غير المادي من تأنيب الضمير والخزي والحسرة والندم وعدم الرضا لله والناس. وللنفس مظاهر إدراكية تتمثل في العقل. والعقلانية هي أرقى صفة للإنسان. وقد أشار القرآن الكريم إلى عدة أصناف من النفس منها النفس اللوامة والنفس الأمارة والنفس المطمئنة والنفس الراضية والنفس المرضية. ويرى علماء المسلمين أن النفس تتميز عن البدن وأنها ليس جزءا منه أو حالا من أحواله. وهي جوهر مفارق لجوهر البدن ومخالف له في طبعه كما أن النفس من عالم آخر هو عالم الروح الذي يختلف عن عالم الجسم وهو عالم المادة. ومن هنا استدل علماء المسلمين على أن الجسم فان أما الروح فلا تفنى بفناء

ص: 171

الجسم.

إن الإنسان في نظر الإسلام مادة وروح معا. {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} . والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الإنسان فسواه فعدله، في أحسن صورة ركبه. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . لقد صنع الإنسان صنعا عجيبا تحار في فهمه العقول وصدق الله العظيم إذ قال: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} .

فالنظرة الإسلامية تعتبر الإنسان بكل مكوناته وحدة عضوية تتكامل وتتآلف فيما بينها بين القوى الإدراكية والانفعالية والجسمية. وبهذا يقف الإسلام موقفا فريدا من الإنسان يختلف عن موقف الثقافات والعقائد الأخرى. فالمسيحية على سبيل المثال تنظر إلى الإنسان على أنه قوى متناقضة متصارعه، جسم يناقض الروح لأنه يسجنها في داخله ويعوقها عن الرجوع لبارئها. كما أن الفلاسفة الإغريق والفلاسفة المثاليين نظروا إلى الإنسان على أنه عقل محمول على جسم، ومجدوا العقل وقللوا من شأن الجسم. وقد أثبت العلم الحديث أن الدماغ هو مركز الإدراك والسلوك عند الإنسان وأن كل القوى الإدراكية والسلوكية تتركز في مخ الإنسان وتتوزع كل منها على مناطق معينة فيه.

كمال النفس بالتربية:

إن الإنسان لا يصبح إنسانا إلا بالتربية. ويقول الغزالي "الإحياء: ص3، ص59" وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية والغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال. وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم.

وهو يعتبر أن الجهل من أمراض النفس وعلاجه بالتعليم كما أن علاج

ص: 172

مرض الكبر يكون بالتواضع وعلاج مرض البخل بالتسخي. فعلاج كل مرض يفيده. ويورد مثالا طريفا يحكي عن بعضهم أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب بأن يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له حتى ضرب به المثل. ونحن في زماننا لا نحتاج إلى تأجير من يقوم لنا بذلك فنحن نصادفه ونتعايش معه كل يوم وعلينا أن نستفيد منه في رياضة نفوسنا وكظم غيظنا مع توفير فلوسنا. فهذه خدمة أخلاقية مجانية يقدمها مجتمعنا المعاصر لمن أراد إلى ذلك سبيلا.

إن العلم من كمال النفس الإنسانية لكنه وحده لا يكفي. ولا بد أن يكتمل كمال النفس بتربيتها الأخلاقية. وقد عبر الشاعر العربي عن ذلك بقوله:

لا تحسبن العلم ينفع وحده

ما لم يتوج ربه بخلاق

فالعلم والخلق مهمان لكمال النفس ويقول ابن خلدون في مقدمته "ص274" إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة.

أثر الوراثة والبيئة:

هناك وجهتا نظر تتعلقان بالكلام عن الوراثة أو البيئة إحداهما يمثلها فرانسيس جالتون Franics galton وعبر عنها في كتابه "العبقري بالوراثة" HEREDITARY GENIUS وهو يعتقد أن القدرات الطبيعية للإنسان موروثة وأنه يمكن إنتاج سلالة من البشر على درجة عالية من الموهبة عن طريق الزواج المضبوط خلال أجيال متعاقبة. ووجهة النظر هذه قديمة ولم توضع موضع الاختيار. وخضعت فيما بعد لكثير من الهجوم والنقد لا سيما من جانب المربين علماء النفس الأمريكيين.

ووجهة النظر الثانية يمثلها عالم النفس الأمريكي المعروف واطسون WATSON،J الذي يؤكد أثر البيئة والتربية. وفي ذلك يقول: "أعطني دستة أطفال أصحاء وأعطني عالمي الخاص لتربيتهم وأنا أضمن لك أن أحول كل فرد منهم إلى أي نوع من الرجال تشاء: فنان أو عالم أو جندي أو بحار أو شحاذ أو

ص: 173

حرامي. وقد يكون واطسون قادرا على عمل ذلك إلا أن معظم الآباء والمدارس قد لا يحالفهم الحظ.

ويورد الراغب الأصفهاني في "تفصيل النشأتين" سبعة أسباب لاختلاف الناس وتفاوتهم تبين أثر كل من الوراثة والبيئة على الإنسان "ص115-120" وهي:

1-

اختلاف الخلقة والأمزجة وتفاوت الطبيعة. وقد يرث الإنسان عن والديه مشابهتهما في الخلقة. فهو هنا يؤكد عامل الوراثة.

2-

اختلاف أحوال الوالدين من حيث الصلاح والفساد. ذلك أن الإنسان يتأثر بمعاشرة والديه، وقد يأخذ عنهما ما هما عليه من جميل السيرة والخلق وقبيحها وهو هنا يؤكد عامل البيئة والتربية وقد قال النبي صلى الله عليه سلم:"إياكم وخضراء الدمن"، قيل: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسنة في المنبت السوء". قال الشاعر:

وهل يرجى لأطفال كمال

إذا ارتضعوا ثدي الناقصات

3-

اختلاف طبائع الوالدين وتأثير عوامل الوراثة، وما تتكون منه النطفة التي يكون منها الولد ودم الطمث الذي يتربى به الولد؟ فذلك له تأثير بحسب طيب ما تكون منه وخبثه. ولهذا قال عليه السلام:"تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" وقال: "الناكح غارس فلينظر أين يضع غرسه".

4-

اختلاف أثر الغذاء والرضاع وطيب المطعم الذي يربي به الولد. ولتأثير الرضاع تقول العرب لمن تصفه بالفضل: لله دره. والدر تعني اللبن ولله دره تعني لله خيره وعطاؤه تشبيها بعطاء در الناقة أي لبنها لأن اللبن من أعلى أنواع النعم. ولا شك في أن لطيب أثر الغذاء أثرا بالغا في تكوين بناء شخصية الإنسان جسميا ونفسيا وهو سبب من الأسباب الهامة لاختلاف الناس وتفاوتهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يورث".

5-

اختلاف التأديب والتلقين وتعويد العادات الحسنة والقبيحة. فحق الولد أن

ص: 174

يؤخذ بالآداب الشرعية، ويعود فعل الخير ويصان من مخالطة الأشرار في صباه.

6-

اختلاف الصحبة والمخالطة وتأثيرها على سلوك الفرد وقد قال الشاعر طرفة بن العبد:

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

7-

اختلاف الاجتهاد في تزكية النفس بالعلم والعمل.

وهكذا يلخص الراغب الأصفهاني أثر كل من الوراثة والبيئة في تنشئة الطفل في هذه العوامل السبعة. وهي أن يكون طيب الطينة والنطفة ودم الطمث معتدل الأمزجة جاريا في أصلاب آباء صلحاء ذوي أمانة واستقامة مرتضعا بدر طيب مأخوذا من صغره من قبل مربيه بالآداب الصالحة ومقتضى الشرع والبعد عن مصاحبة الأشرار ومجتهدا بنفسه في تزكية النفس بالعلم والعمل. ومع أن كثيرا من هذه العوامل جبرية ومفروضة على الإنسان ولا حيلة فيها إلا أنه يرى أن الإنسان حر ومختار لأفعاله، ويجب أن تستخدم هذه الإرادة الحرة في تقويم أخلاقه ورياضة نفسه واكتساب الفضائل ما وسعه ذلك.

الطبع والتطبع:

يتعلق الطبع بالجانب الفطري الموروث في الإنسان وما يقوم به مطاوعة بدون تكلف. وتعرف المعاجم اللغوية الطبع بأنه الخلق والجمع طباع. والطبيعة تعني السجية أو مزاج الإنسان المركب من الأخلاط والطبائع. ويقال أمر طبيعي أي غير متكلف. وفلان مطبوع على كذا أي أنه ذو موهبة واقتدار في فن أو مجال معين يعالجه بلا تكلف. والطبع والطبيعة من نفس المعنى ويعنيان السجية والمزاج. وقد قال الشاعر العربي:

إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة

فلا خير في ود يجيء تكلفا

والطبع في الإسلام شأنه شأن ذكاء الإنسان. منه ما هو فطري ومنه ما هو مكتسب. فالطبع الفطري ما طبع عليه الإنسان منذ نشأته وفطر عليه. والطبع هنا يعني مزاج الإنسان وحالته الوجدانية والانفعالية والنفسية. أما التطبع فهو

ص: 175

المكتسب من خلال التربية والتنشئة واكتساب العادات. فنحن لو ننظر مثلا إلى صفات مزاجية وانفعالية معينة مثل الحلم والأناة والحياء والحمق والغضب والرعونة وسرعة الانفعال وما شابهها نجد أن جانبا منها فطري عند علماء المسلمين وجانبا منها مكتسب يتمثل في التحكم والسيطرة على الصفة المزاجية قدر المستطاع. ومما يستدل به على فطرية مثل هذه الصفات في طبع الإنسان ومزاجه ما ورد في حديث الأشج بن قيس إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" وفي رواية أخرى عند البخاري "الحلم والحياء". قال الأشج: أجبله جبلني الله عليها "أي فطرني الله عليها" قال: نعم. قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله وسوله. من ناحية أخرى نجد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الحلم بالتحلم والعلم بالتعلم" قياسا على ذلك يقال إنما الخلق بالتخلق والطبع بالتطبع. وهذا القول يشير إلى الجانب المكتسب للطبع من خلال مداومة الإنسان على اكتساب العادة. ويقول حجة الإسلام الإمام الغزالي: "إن الخَلق والخُلق عبارتان مستعملتان معا. يقال: فلان حسن الخَلق والخُلق أي حسن الظاهر والباطن فيراد بالخَلق الصورة الظاهرة ويراد بالخُلق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدركة بالبصيرة. ولكل منهما هيئة وصورة إما قبيحة أو جميلة. فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدرا من الجسد المدرك بالبصر. ولذلك عظم الله أمرها بإضافتها إليه إذ قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح من رب العالمين. والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد. فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية.

وهذا يعني أن الخلق صار تطبعا في الإنسان. ومن المعروف أن التطبع أو تطبيع الإنسان بمعنى تعويده على عادات وطبائع جديدة واكتسابه لها هو لب معنى التربية ووظيفتها الأولى الرئيسية. وهذه الوظيفة سواء أحسن توجيهها أو أسيء، هي أشبه بعملية الطلاء أو الدهان للأشياء لتعطيها شكلا ظاهريا وصورة

ص: 176

خارجية قد تختلف أو تتفق مع جوهرها الحقيقي أو الداخلي. فإن كان الجوهر جيدا وكانت تربيته جيدة صح التطابق وصار الإنسان مستويا في شكله ومضمونه أو جوهره. ويكون حسن تربيته مواتيا لحسن جوهره. وهذا هو الإنسان المثالي. وكذلك الأمر إذا كان الجوهر خبيثا والتربية خبيثة أيضا ثم التطابق وصار الإنسان خبيثا في شكله ومضمونه وهو الإنسان المرفوض غير المرغوب الذي يعتبر جناية على الوالدين وعلى المجتمع ولا يرجى له صلاح أو فلاح. أما الإنسان الذي حسن جوهره وأسيئت تربيته فهو أشبه بخضراء الدمن التي حذرنا منها نبينا الكريم بقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراء الدمن". قالوا ما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: "المرأة الجميلة في المنبت السوء". لكن مثل هذه الإنسان قد يرجى من روائه صلاح وفلاح إذا أحسنت تربيته من جديد لأن جوهره طيب قابل للإصلاح والتوجيه. أما إذا كان جوهر الإنسان خبيثا أو سيئا وحسنت تربيته فإن سلوكه يكون حسنا في الظاهر وفي المواقف العادية. أما إذا تغير الموقف وأصبح غير عادي فإن هذا الإنسان ينقلب إلى جوهره السيئ ليكشف عن حقيقته السيئة. مثال ذلك الإنسان في حالة الثورة والغضب الذي يلهب آذان خصمه بأقذر ألوان السباب والشتائم. ولذلك نصح الحكماء بحسن اختيار الناس: الجار قبل الدار والصديق قبل الطريق. ونصحوا أيضا باختيار مدى صدق الحبيب أو الصديق بالمواقف التي تظهره على حقيقته. وقالوا: لا يعرف الصديق إلا وقت الضيق والمثل الشعبي المصري يقول: "حبيبك اللي أنت عشمان فيه كتر عليه بالأسية يبان لك جميع ما فيه". وقد عبر عن ذلك الشاعر العربي بقوله:

ما أكثر الإخوان حين تعدهم

لكنهم في النائبات قليل

وهناك قصة معروفة عن الأعرابي الذي ربى في منزله جرو ذئب منذ نعومة أظفاره وأرضعه بلبن شاة كانت عنده. ولما كبر الذئب واختلى بالشاة هجم عليها وقتلها في غيبة صاحبها فلما رأى ذلك قال هذه الأبيات:

قتلت شويهتي وفجعتنيها

وأنت لشاتنا ولد ربيب

غذيت بدرها وربيت فينا

فمن أنباك أن أباك ذيب

إذا كان الطباع طباع سوء

فلا أدب يفيد ولا أديب

ص: 177

وفي هذا المعنى قال شاعر آخر:

من يصنع المعروف في غير أهله

يلاقي كما لاقى مجير أو عامر

أعد لها لما استجارت بقربه

من الدر ألبان اللقاح والدوائر

أعدت له حتى إذا ما تكمنت

فرته بأنياب لها وأظافر

وأم عامر كنايه عن الضبع. وكان أحد الأعراب قد أواها وأطعمها فلما قويت واشتدت وثبت عليه وهو نائم وقتلته.

ونجد نفس المعنى في قول الشاعر:

ومن يفعل المعروف في غير أهله

يكن حمده ذما عليه ويندم

وهناك وجهة نظر مناقضة لذلك تقول:

أصنع جميلا ولو في غير موضعه

ما خات قط جميل أينما وضعا

ويبدو أن المسألة تتعلق بالشخص الذي عمل فيه الجميل. فمن الناس من يشكر الجميل لصاحبه. ومن الناس من يعض اليد التي تقدم له الخير كما عبر الشاعر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقال شاعر آخر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فلطالما استعبد الإنسان إحسان

ويقال إن الكفر بالنعمة وعدم شكرانها مخبثة لنفس المنعم أي أن نفسه تتألم لذلك وقد تكف عن عمل الخير.

وينبغي أن نشير إلى أنه من الثابت علميا أن الإنسان له قدرات فطرية مثل الذكاء والقدرات العقلية. وبالمثل يمكن أن يقال بأن للإنسان مزاجا وطبعا مزاجيا عاما قد يتفق فيه مع غيره وقد يختلف. يقول الجاحظ: "اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه ثم طبعهم على جلب المنفعة ودفع المضار

وهذا فيهم طبع مركب وجبلة مفطورة.. وهذه الخلال غرائز في الفطرة وكوامن في الطبع جبله ثابتة وشيمة مخلوقة". ومن طباع البشر أنها لا تقبل من المعارف إلا ما

ص: 178

يلائمها ويناسبها. كما أن النفوس يتحصل لها من العلوم بحسب ما تكتسبه منها. وقضية الطبع والتطبع قضية جدلية يحتدم حولها النقاش. وهذه القضية تحتاج منا إلى جهد كبير لفهمها وتوضيحها وإلقاء الضوء عليها حتى نحكم تربية وتنشئة الإنسان على أساس من الفهم الصحيح لطبعه ومزاجه. وعندها نستطيع أن نحسن من أساليب تطبيعنا له أي تربيتنا وتنشئتنا له. وذلك أن الطبع والتطبع وجهان لعملة واحدة.

ويشير الغزالي إلى السبب في حسن الخلق فيقول: قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة وكونها للعقل مطبعة وللشرع أيضا. وهذا الاعتدال يحصل على وجهين: أحدهما بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق. والوجه الثاني اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة. "الأحياء: ج3: ص56". وهكذا يؤكد الغزالي على جانبي الطبع والتطبع في أخلاق الإنسان. وهو يقول في مكان آخر: إن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة وتارة بمشاهدة أرباب الأفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير معا. "نفس المرجع: ص58".

الناس معادن:

يتعلق الطبع بجوهر الناس ومعادنهم ويرى كثير من الفلاسفة ومنهم الفلاسفة المسلمون أن الناس يختلفون في طباعهم كالمعادن. فالناس معادن ومن كل المعادن تصادف أناسا في حياتك. لقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الناس معادن وأنهم يتفاوتون في الوضاعة والشرف والخير والشر بقوله في الحديث الشريف "الناس معادن في الخير والشر. خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". "عبد الله علوان: ص37".

وقديما قسم أفلاطون حكيم الإغريق الناس إلى ثلاثة معادن: الذهب والفضة والنحاس. وقد خضعت كثير من المجتمعات في تطورها إلى تقسيم الناس إلى طبقات حسب معدنها وجوهرها. ومن أشهر التقسيمات الطبقية

ص: 179

القديمة في المجتمعات ما ساد في الهند القديمة من تقسيم الناس إلى طبقات أعلاها البراهمة وأدناها المنبوذون. كما ساد تقسيم الناس إلى سادة وعبيد في المجتمع الإغريقي أو اليوناني القديم. وهناك تفسيرات وتقسيمات كثيرة لطبع الإنسان. فمنهم من يقسم طبع الإنسان إلى ناري وترابي وبعضهم يقسم مزاج الإنسان إلى صفراوي وسوداوي ودموي وما إلى ذلك، وهناك جدل كثير حول طبع الإنسان وما زال هذا الجدل محتدما ولم نصل بعد إلى رأي فاصل قاطع فيه إنما هي مسألة اجتهادات لتفسير الموضوع. ولكل مجتهد نصيب. وإذا نحن رجعنا إلى القرآن الكريم نجده بأنه وصف الإنسان بالهلع والجزع والمنع في قوله تعالى في سورة المعارج:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} . ويقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . وفي تفسير هذه الآية حسب تفسير البيضاوي المسمى أنواع التنزيل وأسرار التأويل يرد القول بأن الفطرة أو الخلقة التي طبع الله الناس عليها هي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه أو ملة الإسلام. فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها. وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى زود الإنسان بأشياء في طبعه يدركها بالفطرة. ومن ناحية أخرى نجد أن هذه الفطرة أو هذا الطبع يكتسب أشياء من خلال التربية والتنشئة.

ويبدو أن تطبع الإنسان أو ما يكتسبه بالتنشئة والتربية ما هو إلا قشرة أو غطاء على السطح تخفي تحتها الطبع الحقيقي للإنسان: فالإنسان الذي يبدو وديعا مؤدبا في الظاهر قد ينكشف عن إنسان سليط اللسان يسمعك أقذر الشتائم واللعنات إذا ما كشر عن أنيابه واستثاره الغضب كما أشرنا. هذا في الإنسان الذي معدنه رخيص. أما معدن الذهب من البشر فيتكشفون في أي موقف عن طبع أصيل كريم المحتد. فالتربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والتهذيب كلها أمور تخفي تحتها معدن الإنسان الحقيقي وطبعه المطبوع عليه. ويظهر هذا المعدن الحقيقي للإنسان في مواقف الاختيار والشدة. ولذلك قيل لا يعرف الصديق إلا وقت الضيق. والإنسان اللئيم أو الماكر أو المخادع من يخفي طبعه الحقيقي بالمعسول من القول لكنه لا يستطيع أن يخفي طبعه بالفعال إلا إذا

ص: 180

كانت مصطنعة ومقصودة. فالفعال عادة تكشف حقيقة مثل هؤلاء اللئام أو الماكرين أو المخادعين. وقد عبر عن ذلك شاعرنا بقوله:

يعطيك من طرف اللسان حلاوة

ويروغ منك كما يروغ الثعلب

وقال آخر:

ثوب الرياء يشف عما تحته

فإذا اكتسيت به فإنك عار

وقد يقال بأن صفات مثل اللؤم أو الدهاء أو الرياء أو الجود أو الشجاعة أو الجود أو البخل وغيرها هي صفات مكتسبة بمعنى أن الإنسان يكتسبها من خلال نوع التربية التي خضع لها والتنشئة التي نشأ عليها. وهذا صحيح. لكن لا ننسى أن كل إنسان ميسر لما خلق له. ولن يكتسب الإنسان شيئا ما لم يكن طبعه مواتيا له.

جانب الخير والشر في الإنسان:

تختلف وجهات النظر حول الخير والشر في الطبيعة الإنسانية وهناك ثلاثة اتجاهات رئيسية تدور حول هذا الموضوع. الاتجاه الأول يقول بأن الإنسان شرير بطبعه، والخير عارض عليه وهم البوذيون والمسيحيون الذين يرجعون في ذلك إلى خطيئة آدم أبي البشر. فلولا تأصل الشر في طبيعته لما عصى ربه وخالقه.

وقد قال بذلك أيضا كل من الفيلسوفين هوبر وسبنسر اللذين يريان أن الإنسان متوحش مطبوع على الشر وسوء الخلق ويمكن تغييره بالتربية. والاتجاه الثاني يقول بأن الإنسان خير بطبعه والشر عارض عليه، وقد أخذ بهذا الرأي سقراط وجالينوس والرواقيون من فلاسفة الإغريق والفيلسوف الفرنسي المعروف جان جاك روسو وقال به من فلاسفة المسلمين وعلمائهم المعتزلة وابن تيمية وابن قيم الجوزية والسلف عموما.

إن القول بأن طبيعة الإنسان شريرة أو خيرة يعني أن الطبيعة التي خلق بها الإنسان ثابتة لا يمكن تغييرها أو تعديلها، وأنه لا قيمة للتربية والتعليم في تعديل سلوك الإنسان. وهذا غير صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم:"حسنوا أخلاقكم" فالأخلاق تتحسن وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فالأخلاق

ص: 181

ليست ثابتة وإنما لها تمام وكمال.

وهناك رأي ثالث يقول بأن الطبيعة الإنسانية محايدة، ويقول بهذا الرأي الفيلسوف الألماني كانط وبرتراند راسل البريطاني ودور كايم الفرنسي. ومن المسلمين الغزالي وابن سينا. وقد عبر عن ذلك تعبيرا جيدا "فيلون الإسكندري" الإغريقي بقوله:"ليس الإنسان في أصله وفطرته طيبا أو شريرا بل خلق والفضيلة فيه بالقوة ثم أصبح سيئا أو شريرا بالسقوط في اللذة أو يصبح طيبا بمقاومتها والابتعاد عنها. ويقول وليم مكدوجل في كتابه "الأخلاق والسلوك في الحياة": "إن كل نزعة من النزعات الفطرية ينبوع من الطاقة. أما أن هذه الطاقة ستتجه إلى الخير أم الشر فأمر يتعلق بتوجيهها إلى غايات نبيلة أو وضعية، كما يتعلق بالتحكم الرشيد في هذا التوجيه. إن كل النزعات الفطرية قديرة على فعل الخير والشر". وهذا يعني أن التربية والتوجيه ضروريان لنزعات الإنسان الفطرية إذا أردنا أن نوجهها وجهة خيرة نبيلة.

ويرى ليبنتز وابن عربي وغيرهما أن النفس الإنسانية تحتوي على جميع أفعالها فطريا. ويذهبان إلى القول بأن الشر في سلوك الإنسان ناتج عن سوء استخدام الإنسان لحريته، ولهذا نظم الإسلام هذه الحرية في إطار نظام أخلاقي محكم. إن الإسلام يقف موقفا وسطا من الطبيعة الإنسانية، فهو ينظر إليها على أنها محايدة. فكل مولود يولد على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وهذا يعني أن الإنسان يكتسب جانب الخير أو الشر بالتطبع لا بالطبع، وذلك من خلال التنشئة الاجتماعية التي يتعرض لها. ويقول الغزالي:"إن الصبي خلق قابلا للخير والشر جميعا، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين". وابن خلدون أيضا يقول: إن النفس مهيأة للخير والشر معا، ولكن استعدادها للخير أكثر فالإنسان أقرب إلى الخير من حيث إنه إنسان. وهذا يعني بالنسبة للتربية الإسلامية أهمية المؤثرات التربوية في تشكيل الإنسان. وإن شخصية الإنسان ما هي إلا محصلة نهائية للقوى والمؤثرات التربوية التي خضع لها في نشأته. كما يعني أيضا ضرورة العناية بتربية النشء المسلم على الخير والكمال والفضيلة. ولقد آثر المعتزلة أن يعبروا عن فلسفتهم الخلقية

ص: 182

بالحسن والقبيح بدلا من الخير والشر. لأن الخير والشر في نظرهم من الصفات النسبية العارضة للحسن والقبح. وليس كل حسن خيرا ولا كل قبيح شرا "محمد السيد الجليند: ص243".

الطبيعة الإنسانية وحرية الإرادة:

اختلفت النظرة الفلسفية إلى حرية الإرادة عند الإنسان ويمكننا أن نميز ثلاثة اتجاهات رئيسية:

الاتجاه الأول: الاتجاه الجبري أو الحتمي: وهو الاتجاه الذي يرى أن الإنسان مجبر في أعماله لا حرية له ولا إرادة فيما يفعل. والذين قالوا بأنه مسلوب الإرادة أمام إرادة الله يعرفون بالجبريين الميتافيزيقيين ومنهم الجبرية من المتكلمين المسلمين، وزعيمها الجهم بن صفوان ولذلك تسمى هذه الفرقة أيضا بالجهمية نسبة إليه. وهو أي الجهم بن صفوان من أهل خراسان من الموالي وأقام بالكوفة وكان فصيحا وخطيبا مصقعا يدعو الناس فيجذبهم إلى قوله. وقد ظهر مذهبه في "ترمذ" وكان كاتبا "وزيرا" للحارث بن سريح. ويقول جهم بن صفوان: إن الإنسان مجبور لا اختيار له ولا قدرة وإن الله قد قدر عليه أعمالا لا بد أن تصدر منه. فكما يجري الماء ويتحرك الهواء ويسقط الحجر فكذلك تصدر الأفعال عن الإنسان يصدرها الله وتنسب إلى الإنسان مجازا كما تنسب إلى الجمادات. فكما يقال: أثمرت الشجرة وجرى الماء وطلعت الشمس وأمطرت السماء وأنبتت الأرض كذلك يقال: كتب محمد وقضى القاضي وأطاع فلان وعصى فلان كلها من نوع واحد على طريق المجاز. والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر. والله قدر لفلان كذا وقدر أن يثاب وقدر على الآخر المعصية والعقاب. وقد نهض كثير من علماء المسلمين لمقاومة هذا المذهب والرد عليه. ويقول أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" عن مصير القدرية والجبرية أو الجهمية بأنهما ذابا في غيرهما من المذاهب ولم يعد لهما وجود مستقل وظهر على أثرهما مذهب المعتزلة. والذين قالوا بأنه مسلوب الإرادة أمام قوانين الطبيعة كالريشة في مهب الريح سموا بالجبريين الطبيعيين ومنهم من غير المسلمين هربرت سبنسر وشوبنهور.

ص: 183

والاتجاه الثاني: الاتجاه الحر: الذي يرى أن الإنسان يمارس حرية الإرادة في أعماله وأنه قادر على التصرف بمحض اختياره وبإرادته. ومن أنصار هذا المذهب أفلاطون وأرسطو وليبنتز وكانط. ومنهم أيضا القدرية والمعتزلة والماتريدية من المتكلمين المسلمين ومن بينهم المعتزلة.

ويقول أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام "ص45" الذي طبع عام 1996 بمعرفة الهيئة المصرية العامة للكتاب: "وسمي الذين يقولون بأن الإنسان حر الإرادة وله قدرة على أعماله "بالقدرية" وسماهم بذلك خصومهم لحديث ورد: "القدرية مجوس هذه الأمة" وكان الذين يقولون بحرية الإرادة ومنهم القدرية يرون أن أولى الناس بأن يطلق عليهم اسم القدرية هم الذين يقولون بأن القدر يحكم جميع أعمال الناس من خير وشر. وعلى كل حال فقد لصق الاسم بالطائفة الأولى وصار لقبا لها ويوجد خلط وسوء فهم في بعض الكتابات العربية عن هذه الطائفة. ويفهمونها خطأ من اسمها على أنها تنكر حرية إرادة الإنسان "انظر على سبيل المثال: د. فيصل بدير عون: ص399".

وعلى عكس "القدرية" هناك طائفة "الجبرية" وكان من أولهم جهم بن صفوان. ولذلك تسمى هذه الفرقة "الجهمية". وهي ترى أن الإنسان مجبر في كل أعماله ولا اختيار له فيها كما أشرنا.

ويقول المعتزلة أن معاوية بن أبي سفيان أول من قال بالجبر في الإسلام وعمل على إشاعته بين الرعية ليبرر ولايته بأنها كانت بقضاء الله وهو ما أعلنه معاوية. لأن الخلفاء يتخذون من القدرية وسيلة لنهب الأموال وسفك الدماء وانتهاك حرمة الدين "محمد السيد الجلينيد: ص7".

وكثيرا ما يسمى المعتزلة بالقدرية لأنهم وافقوا القدرية في قولهم: "إن للإنسان قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى. وأحيانا يلقب المعتزلة بالجهمية لأنهم وإن خالفوهم في القول بأن الإنسان مجبر على أعماله فقد وافقوهم في نفس الصفات عن الله وفي القول بأن القرآن مخلوق. وقد ألف البخاري والإمام أحمد كتابين في الرد على الجهمية وقصدا بهم المعتزلة لكن المعتزلة يتبرءون من تسميتهم بالجهمية أو القدرية ولا يرضون بأن يتصفوا

ص: 184

بهم. وكانو يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد. أما العدل فلأنهم نزهو الله عما يقول خصومهم من أنه قدر على الناس المعاصي ثم عذبهم عليها وقالوا إن الإنسان حر في أفعاله. ومن أجل هذا يحاسب عليها سواء كانت خيرا أو شرا، وينال عليها ثوابا أو عقابا. وفي هذا عدل. وأما التوحيد فلأنهم نفوا صفات الله وعدوا القول بها تعديدا لله "أحمد أمين: 418-455". ومن أوائل الداعين إلى الاعتزال واصل بن عطاء وعمر بن عبيد. أما واصل فكان من الموالي ولد في المدينة سنة 80هـ ثم انتقل إلى البصرة وسمع من الحسن البصري وغيره وتوفي عام 131هـ. وأما عمرو بن عبيد فكان من الموالي أيضا وتتلمذ على الحسن البصري واعتنق رأي واصل بن عطاء في الاعتزال. وتوفي عام 145هـ.

وينقل أحمد أمين عن أحمد بن يحيى المرتضى في كتابه المسمى "بالمنية والأمل" في شرح كتاب الملل والنحل" قوله بأن مذهب الاعتزال يرجع إلى الصدر الأول للإسلام. فقد عد من الطبقة الأولى للمعتزلة الخلفاء الأربعة. وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم. ومن الطبقة الثانية الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب وغيرهم. ومن الطبقة الثالثة الحسن بن الحسن وعبد الله بن الحسن وأبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وهو الذي أخذ عنه واصل بن عطاء. ومن الطبقة الرابعة غيلان الدمشقي وواصل بن عطاء. "المرجع السابق: ص469".

وقد نشأ الاعتزال في البصرة وسرعان ما انتشر في العراق واعتنقه من خلفاء بني أمية يزيد بن الوليد ومروان بن محمد. وفي العصر العباسي تكونت مدرستان كبيرتان للاعتزال، مدرسة البصرة ومدرسة بغداد وكان بينهما جدال وخلاف في كثير من المسائل.

وكان المعتزلة أسرع الفرق استفادة من الفلسفة اليونانية وصبغها صبغة إسلامية والاستعانة بها في نظرياتهم وجدلهم. وكان من أشهر من استخدم الفلسفة من المعتزلة أبو الهذيل بن العلاف والنظام والجاحظ. ويقول أحمد بن أمين المعتزلة هم الذين خلقوا علم الكلام في الإسلام وأنهم أول من تسلح من المسلمين بسلاح

ص: 185

خصومهم في الدين. ويعني بهم من دخل الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والدهريين وأثاروا كثيرا من الشبهات والشكوك حوله لأنهم لم يكونوا منصفين أو مخلصين في إسلامهم. وقد تصدى المعتزلة لهم وجادلوهم جدالا عنيفا وردوا عليهم شبهاتهم وشكوكهم.

الاتجاه الثالث: الاتجاه التوفيقي أو الوسط: الذي يقف في منتصف الطريق فلا يسلب الإنسان من إرادته وفي نفس الوقت هو مجبر وقادر معا. فهو مقيد بقوانين الطبيعة ويمارس حرية الإرادة في ظل هذه القوانين. ومن أنصار هذا الاتجاه ابن مسكويه والغزالي وابن رشد والأشاعرة من المتكلمين المسلمين.

فالإنسان يكون مجبرا في مواقف مختلفة لا يملك إزاءها حرية في التصرف منها الجبرية الميتافيزيقية التي تتمثل في الموت الذي هو ملاقيه باعتباره قضاء مقدر عليه. ومنها الجبرية الطبيعية التي تتمثل في حاجاته الأساسية التي تكفل هل الحياة من طعام وشراب وراحة ونوم وغيرها. فليس أمام الإنسان مجال للاختيار في هذه النواحي، وعليه سواء رغب أو لم يرغب أن يأكل وأن يشرب وأن يرتاح وأن ينام وإلا تعرضت حياته للخطر. والإنسان يكون مخبرا في المواقف الأخرى التي يكون أمامه فيها بدائل للاختيار ويبدو ذلك بوضوح في المواقف الحياتية والأخلاقية والمعاملات وتحمل المسئولية. ففي المواقف الكثيرة التي تتضمنها هذه المجالات يطرح الموقف أكثر من بديل للتصرف، ومهمة التربية هنا هي تمكين الإنسان من اختيار البديل الأفضل في السلوك.

ولفهم حرية الإرادة في الإسلام ينبغي أن نعرف أن الحرية بمعناها المطلق غير موجودة فلا حرية مطلقة ولا حرية في فراغ وإنما تستمد الحرية مضمونها ومغزاها من النظام والأصول والقواعد. فهل سير القطار على القضبان تقييد لحركة القطار؟ إن القضبان في الواقع شرط لحرية القطار في الحركة. وإلا لما سار على الإطلاق. خذ على سبيل المثال سائق السيارة الذي يسير في الشارع وعليه أن يتوقف عندما يرى الضوء الأحمر ولا يسير إلا إذا رأى الضوء الأخضر. هل يعتبر ذلك قيدا على حريته؟ وهو يمكن له أن يدعي بأنه حر في قيادة السيارة دون مراعاة القواعد والأصول؟ إن حريته هنا مرتبطة بالنظام. وبالمثل يمكن

ص: 186

التمثيل بلاعب الكرة في الملعب هل هو حر في أن يضرب الكرة في أي اتجاه أم أن حريته مقيدة بأصول اللعبة وقوانينها. خذ مثالا آخر لرجل ترك وحده في الصحراء. هل يعتبر هذا الرجل حرا يتصرف كما شاء أم أن حريته محدودة بظروف المكان فهو إن أراد أن يأكل أو يشرب مثلا لا يجد ما يأكله أو يشربه فأين حريته إذن؟

والواقع أن هناك عدة عوامل تحدد الحرية منها عوامل داخلية وأخرى خارجية. أما العوامل الداخلية فهي تتعلق بالإنسان نفسه. ذلك أن التركيب الجسمي والعقلي والنفسي للفرد يحدد مدى حريته. فالإنسان ذو الجسم الضعيف الهزيل أو الذي يعاني من مرض أو نقص جسمي لا يعتبر حرا في نطاق القيود التي تفرضها عليه هذه الأبعاد الجسمية. فهو ليس حرا أن يأكل ما يشاء أو يحيا كما يشاء، وليس حرا في أن يتخلص من الألم الذي يعانيه. وبالعكس يمكن القول عن الجسم الصحيح، فصحة البدن إذن شرط للحرية، ولذلك يعتبر كل تقدم في الميدان الصحي في البلاد عاملا مهما لتحقيق حرية الأفراد كما أن التربية الحديثة لا بد أن تتضمن العناية بالجسم وتقويته. والناحية العقلية للفرد شرط آخر لحريته. ذلك أن الذكاء الإنساني ضروري للحرية. فنجاح الإنسان في حياته يتوقف على تصرفه الذكي. وأمور الحياة لا تستقيم لإنسان غبي. بل إن الحياة نفسها تلفظه وتحاربه باستمرار وحيثما كان. والإنسان الذكي هو الإنسان القادرة على الفهم السليم والتصرف وإدراك العلاقات بين الأشياء في أهدافها القريبة والبعيدة. هو الإنسان المبدع المفكر القادر على التخيل الذي يساعده على تشكيل إمكانيات المستقبل واحتمالاته.

والحرية لا يستقيم عودها مع الجهل. فكيف يكون الإنسان حرا لفهم ما حوله من ظواهر الكون والحياة والتعامل الاجتماعي الرشيد وهو جاهل. إن الجهالة قيد على عقله وفكره، وبالتالي لا يمكن أن يكون حرا. وهناك مثل معروف يقول: كلما تعلم الإنسان زادت حريته. ولهذا فإن ذكاء الإنسان وتثقيف عقله وفكره ضرورة تفرضها حريته. وعلى أي برنامج تربوي أن يولي هذه الجوانب عناية كبرى. وكذلك الناحية النفسية للفرد بأبعادها المختلفة من

ص: 187

حب وكره وتعصب وتحيز وتقبل ورفض كلها تحدد سلوك الإنسان. فكيف يستطيع الإنسان ادعاء حريته وهو في الواقع عبد لنزعات النفس وخلجاتها وعبد للعادات التي كونها. خذ مثلا الشخص الذي أصبح التدخين عادة متأصلة لديه، ومستحكمة فيه هل يستطيع أن يمتنع عنها؟ إنه قد يدخن رغم أنفه بحكم قوة العادة وسيطرتها عليه حتى مع أنه من الناحية العقلانية يعرف مضار التدخين على ماله وصحته. فهل تعتبر هذا الإنسان حرا؟ إن حرية الإرادة شرط ضروري لحرية الإنسان ولا يمكن لإنسان أن يكون حر الإرادة وهو غير قادر على التحكم فيها إذ إنه يستسلم لرغباته ونزواته أو دوافعه الجامحة. ولذلك يجب على التربية أن تهدف إلى غرس العادات عند الإنسان منذ بواكير الطفولة، وأن تهتم بالقدوة الصالحة والبعد عن قرناء السوء. وأن تربي الفرد على التحكم في نفسه ليستطيع أن يكبح زمامها وأن يسيطر عليها. كما ينبغي أن نربي ضمير الفرد لأنه خير عاصم له. وعندها يمكن أن يكون الإنسان حرا. ذلك أن الحرية الحقيقية لا تتوافر إلا في ظل الشخصية الكاملة المتكاملة. أما كيف يكتسب الإنسان هذا الكمال والاكتمال فهو موضوع التربية برمته.

أما العوامل الخارجية التي تحد من حرية الإنسان فتمثل البيئة المادية والاجتماعية التي تحيط بالإنسان. هذه العوامل الخارجية الهامة هي التي تحدد حريته. فالفقر والغنى مثلا صورتان لمدى ما يتيحه أي مجتمع من ثروة لأفراده. وكلتاهما تحدد مدى الاختيارات والإمكانيات المتاحية للإنسان وبالتالي تحدد حريته. ولذلك يعتبر تحسين مستوى معيشة الأفراد عاملا هاما نحو الحرية ومن ناحية أخرى نجد أن الإنسان الحديث قد استطاع السيطرة على ثرواته المادية والطبيعية بمقدار ما أتيح له من تقدم تكنولوجي هائل. وهو شرط ضروري لحرية المجتمعات المدنية. إلا أن التقدم في هذا الجانب كان بمعدل أسرع من معدلات النمو في الجوانب الأخرى الداخلية والخارجية المحددة للحرية.

ويجب على التربية أن تزود الأفراد بالمهارات المعرفية والسلوكية التي تحكمهم وتمكنهم من زيادة دخلهم وتحسين مستوى معيشتهم في الحياة وتنمي تطلعاتهم وآمالهم في الحياة. كما يجب على التربية أن تزود الإنسان أيضا

ص: 188

بالمهارات المعرفية والعملية التي تمكنه من السيطرة على بيئته المادية واستغلال ثرواتها الطبيعية.

ومن ناحية أخرى نجد أن الإنسان نفسه يعتمد على غيره منذ أن كان نطفة أو علقة في بطن أمه وهو محتاج إلى العناية والرعاية. وهذا الاحتياج يعني عدم حريته. فالإنسان المحتاج ليس إنسانا حرا. وهو بعد ولادته يظل محتاجا لهذه العناية. وفي تعامله وهو كبير راشد مع الآخرين محتاج إلى تعاونهم اعتماد الناس بعضهم على بعض بصورة متزايدة في المجتمعات الحديثة. وبدون مساعدة الآخرين لن يجد رغيف الخبز الذي يأكله أو الملبس الذي يلبسه أو المواصلة التي يركبها. وغيرها من الأمثلة التي لا تحصى. وهذا يعني تزايد اعتماد الناس بعضهم على بعض. كما يعني ارتباط حرية الفرد بحرية الآخرين. وكذلك نجد أن المعايير والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع وقوانينه وتشريعاته كلها تمثل حدودا لمدى حرية الفرد. وهذا يعني لأي برنامج تربوي ضرورة العناية بتكوين الاتجاهات الصحيحة للفرد نحو نفسه ونحو مجتمعه. وتنمية حساسيته الاجتماعية نحو النظام الاجتماعي وقيمه السائدة. وتعريفه بهما وتعويده على احترامها. وكذلك احترام القوانين والتشريعات وحماية الملكية العامة. إن أعلى مراتب الحرية الكاملة التي ترتبط بالله عز وجل، فهو الذي خلق الكون وأحسن صنعه وخلق الإنسان فأحسن تقويمه. ورتب الناس أمور حياتهم بما يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة. ولذلك يجب ألا يستمد الحرية التي ننشدها للفرد والمجتمع إلا منه وأصولها من المبادئ السامية التي رسمها لنا.

وهكذا يصبح الفرد مقيدا في حريته بتأثير البيئة الاجتماعية والطبيعية وما نسميه بحرية الاختيار أو الإرادة هي حرية ظاهرة مقيدة بالنظام فالله سبحانه وتعالى بين لعباده الحلال والحرام وطريق الخير وطريق الشر، وعلى الإنسان أن يختار بينهما إما شاكرا وإما كفورا. فالإنسان إذن مخير وحر الإرادة في الإطار الاجتماعي، وإلى الحد الذي يستطيع معه أن يمارس هذا الاختيار. وهو مجبر أو مسير بمقدار ما تتحكم فيه البيئة الاجتماعية والطبيعية، وبمقدار

ص: 189

ما يتعامل مع القوانين الإلهية التي لا سلطان له عليها.

الإنسان إذن مجبر ومسير معا، فهو مجبر لأن الله سبحانه وتعالى منحه عقلا وإرادة يوازن بهما بين الأشياء. ويختار لنفسه ما يحلو له بمحض إرادته. وقد بين الله سبحانه وتعالى للإنسان طريق الخير وطريق الشر وهو الذي يختار لنفسه الطريق الذي يسير فيه {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهو مسير لأن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وما فيه وفق نواميس وقوانين تتحكم في الإنسان وتوجيهه. والإنسان محدود في قدرته الجسمية والعقلية وله حدود لا يتعداها والإنسان يحاول أن يفهم هذه القوانين ما وسعه إلى ذلك سبيلا وقد يستطيع أن ينجح في تسخير قوى الطبيعة والسيطرة عليها. ولكنه في النهاية مقيد بحدود الزمان والمكان. تلك سنة الله في خلقه ولله في خلقه شئون.

وهذا يعني بالنسبة للعملية التربوية والمنهج المدرسي أن نعني بتزويد التلميذ بما يمكنه من معرفة الكون والقوانين التي تحكمه بترتيب وانسجام هو من صنع الخالق عز وجل. كما يجب أن يربى التلميذ على احترام النظام واتباع أوامر الدين واجتناب نواهيه. فالله سبحانه وتعالى خلقنا نتحمل المسئولية وأعطانا ضميرا وإرادة حرة. ولكنه أيضا أقام الدين وتعاليمه كقوة تربوية عليا توجهنا وترشدنا فإذا كنا عقلاء، فإننا سوف نتقبل توجيهها ونسير على هديها.

وعلى الإنسان أيضا أن يؤمن بالقدر خير وشره فذلك من تمام إيمانه من ناحية واعترافا منه بحكمه الخالق عز وجل التي قد يعز على الإنسان أن يحيط بها. وينبغي أيضا أن يربى الإنسان على الإيجابية لا السلبية فإذا كانت الصحة والمرض من عند الله فإن هذا لا يعني عدم الوقاية ولا عدم سعي الناس للطبيب لعلاجهم إذا مرضوا. فالله خلق الداء وخلق الدواء وطالب عباده بأن يتطيبوا وأن يذهب الإنسان إلى الطبيب لعلاجه إذا مرض. كما يجب ألا يربى المسلم على أن يكون متواكلا سلبي الإرادة. وإنما يجب أن يعرف له دورا يقوم به ومسئولية يجب أن يتحلمها وأنه في ضوء معرفته لقوانين الكون والطبيعة قادر على تسخير ما فيها لتحقيق رفاهيته وسعادته. كما أن الإنسان وهو يمارس حرية الإرادة أو حرية الاختيار في أعماله لا بد وأن يخضع لمبدأ المسئولية والجزاء فهو

ص: 190

مسئول عن أعماله وما يترتب عليها من خير أو شر أو نفع أو ضرر وينبغي أن يحاسب عليها.

معرفة الإنسان لنفسه:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".

ويقول الأصفهاني في كتابه تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين "ص61": إن أول شيء يلزم الإنسان معرفته نفسه وقد احتلت معرفة الإنسان نفسه مكانة كبيرة في الفكر الفلسفي والعقائدي فقديما اتخذ سقراط لنفسه شعارا "اعرف نفسك بنفسك" ولذلك يقال إنه أنزل الفلسفة إلى الأرض أي الاهتمام بالنفس بدلا من الغيبيات. وقالت بعض فرق المتكلمين الإسلاميين منهم الأشاعرة إلى أن أول ما يجب على الإنسان معرفة الله. ويقول الأصفهاني ليس هناك تناقض بين القولين "معرفة النفس ومعرفة الله" لأن من عرف نفسه فقد عرف الله. فقد روي أن ما أنزل الله كتابا إلا وفيه اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك.

ولمعرفة الإنسان لنفسه جوانب متعددة من أهمها "الأصفهاني: تفصيل النشأتين ص62-66":

1-

أن الإنسان من خلال معرفته لنفسه يتوصل إلى معرفة غيرها ومن جهلها جهل كل ما عداها. لأن نفس الإنسان مجمع الموجودات ومن عرفها يعرف حقائق هذه الموجودات فانيها وباقيها وحقيقة السماوات والأرض. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .

2-

أن من عرف نفسه عرف أعداءه الكامنة فيه المشار إليها بقوله عليه السلام: "أعدى عدو لك نفيسة بين جنبيك".

3-

أن من عرف نفسه عرف أن يسوسها، ومن أحسن سياسة نفسه أحسن سياسة العالم فيصير من خلفاء الله المذكورين في قوله تعالى:{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} .

4-

أن من عرف نفسه لم يجد عيبا في أحد إلا رآه موجودا في ذاته إما ظاهرا أو كامنا فيه كمون النار في الحجر. فلا يكون همازا ولمازا وعيابا

ص: 191

طرق معرفة الله الإنسان لعيوبه:

يقول الغزالي إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه ويورد طرقا أربعة لعمل ذلك:

الطريقة الأولى: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدتها. وهذا شأن المريد من شيخه والتلميذ مع أستاذه. فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه. ويعلق على هذه الطريقة بأنه قد عز في الزمان وجودها.

الطريقة الثانية: أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا فينصبه رقيبا على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله. فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه إليه. فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين. ويضرب مثلا بداود الطائي الذي اعتزل الناس، فقيل له: لما لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي؟ وهذا يعني أن على الناس أن يتنبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم لهم.

الطريقة الثالثة: أن يستفيد من ألسنة أعدائه في معرفة عيوب نفسه لأنه عين السخط تبدي المساويا على حد تعبير الشاعر في قوله:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه. ويعلق الغزالي على ذلك بقوله إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد. ولكن البصير لا يخلو من الانتفاع بقول أعدائه لأن مساوئه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم.

الطريقة الرابعة: أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموما فيما بين الخلق يقيس نفسه عليه. لأن المؤمن مرآة المؤمن. فيرى عيوب نفسه من خلال عيوب غيره. ويعمل على تطهر نفسه من كل ما يشينه ويعيبه. وهذا يعتبر تأديبا له. ولو أن الناس تركوا ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب. ويورد الغزالي قول عيسى عليه السلام عندما سئل من أدبك؟ قال: ما أدبني أحد رأيت جهل

ص: 192

الجاهل شينا "أي معيبا". فاجتنبته. "الإحياء ج3 ص62-63".

الإسلام يعترف بضعف الإنسان:

إن الإسلام يتمشى مع الطبيعة الإنسانية. ونظرا لأن هذه الطبيعة الإنسانية يجتمع فيها نوازع الخير والشر والخوف والحب لذلك دعا الإسلام إلى مخافة الله وخشيته وحبه وطاعته. فالنفس الأمارة بالسوء لا ترتدع عن الشر إلا بالخوف والوعيد. وفي حين أن النفس المطمئنة تكون مدفوعة بالحب وطاعة الله نحو فعل الخير والتمسك بالفضيلة.

اعترفت التربية الإسلامية بموضع الضعف في الطبيعة البشرية ومنها الخطأ والنسيان والاستكراه. ولا يحاسب المسلمون على الأعمال التي يمليها عليهم هذا الضعف. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". والإسلام يخفف عن المسلم في حالة ضعفه.. {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} . و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . يقول الشاعر:

ما سمي الإنسان إلا لنسيه

ولا القلب إلا أن يتقلب

وقال تعالى في سورة الكهف: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} . وقال في سورة البقرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .

واعترف الإسلام بجوانب أخرى من ضعف النفس الإنسانية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} وهذه النفس إذا ضعفت قد تدفع الإنسان إلى الشر {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} . كما وصف القرآن الإنسان بكثير من الصفات التي تدل على ضعفه. قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لولا أن الله تعالى أذل ابن آدم بثلاث ما طأطأ رأسه لشيء: الفقر والمرض والموت""الماوردي: 239". وقد ورد في الأثر: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".

ويقول الماوردي: "إن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله أكثر حاجة من جميع الحيوان؛ لأن من الحيوان ما يستقل بنفسه عن جنسه والإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه". كما وصف الإنسان بالهلع والجزع إذا مسه

ص: 193

الشر بالطغيان وإذا غنى {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} . {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} . وهذا يعني بالنسبة للتربية الإسلامية أن يهتم المعلم بأن يبرز لتلاميذه أن قدرة الإنسان محدودة مهما تقدم ومهما بلغ من العلم وأنه مهما بلغ من القوة لا يخلو من نقاط ضعف. قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . ولهذا ينبغي أن يعرف الإنسان حدوده وألا يتكبر وأن يكون متواضعا وأن يصبر على المكاره كما يجب أن يتذكر نعمة الله عليه ويشكره في حالة اليسر والرخاء. وقال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} .

مصير الإنسان:

يقول الأصفهاني في "الذريعة إلى مكارم الشريعة""ص15" إن الإنسان في هذه الدار كما قال علي رضي الله عنه: الناس سفر والدنيا دار ممر لا دار مقر وبطن أمه مبدأ سفره والآخره مقصده وزمان حياته مقدار مسافته وسنوه منازله وشهوره فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطاه يسافر به سير السفينة براكبها. فالإنسان في دنياه مسافر ويحتاج في رحلة حياته في الدنيا إلى التزود بما يلزمه في السفر. وعليه في سبيل ذلك أن يكد ويكدح حتى ينتهي إلى دار القرار. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} "الأصفهاني تفضيل النشأتين: ص136" وبالموت يتم كمال الإنسان وفي ذلك يقول الأصفهاني: اعلم أن الموت المتعارف الذي هو مفارقة الروح البدن هو أحد الاسباب الموصلة للإنسان إلى النعيم الأبدي وهو انتقال من دار إلى دار

ولولا هذا الموت لم يكمل الإنسان. فالموت إذًا ضروري في كمال الإنسانية "تفضيل النشأتين: ص200".

ص: 194