الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حق الزوجة على زوجها:
أشار الغزالي إلى صلة الرجل بالمرأة والزوج بزوجته فقال: إن سيادة البيت تكون للرجال. وبدون ذلك لا تستقيم الحياة ولا توجد السعادة. وقال: من أطاع المرأة وملكها نفسه فقد عكس القضية. إذ حق للرجل أن يكون متبوعا لا تابعا وقد أشار عز وجل إلى ذلك بقوله في سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وسمي الزوج سيدا فقال تعالى في سورة يوسف: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} .
ولكن الغزالي من ناحية أخرى يعطي للمرأة حقوقا مقدسة ويفرض على الرجل واجبات يؤديها لها. ويقول الغزالي في ذلك: "ليس الخلق مع المرأة كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها". ويأمر الغزالي الرجل بأن يكون هاشا باشا مرحا مع زوجته. فيطيب قلبها بالمزاح والمداعبة ولا يقتر عليها في الإنفاق عليها. بل يجب عليه أن يتحفها دائما بالهدايا والحلوى. كما أن عليه أن ينظر في حاجة المرأة إلى حقوق البدن وندائه. وهو أساس التحصين والعفة. كما يطالب الرجل بالاعتدال في الغيرة على زوجته ولا يبالغ في الظن والتعنت وتجسس البواطن. فهذه قاعدة السعادة والهناء في الحياة الزوجية. ذلك أن مبدأ الاعتدال في الغيرة من أسمى المبادئ بل هو أصل من الأصول المؤدية إلى هناء العش الزوجي وإطلاق النور والمحبة والصفاء في رحابه "طه عبد الباقي سرور: ص118-119".
الفصل السادس: المعلم في التربية الإسلامية
مقدمة:
اعتبر المسلمون التعليم من جملة الصنائع التي تحتاج إلى المعرفة والدربة التي تؤهل صاحبها للاشتغال بهذه الصناعة. قال ابن عبدون في رسالته: "والتعليم صناعة تحتاج إلى معرفة ودربة فإنه كالرياضة للمهر الصعب الذي يحتاج إلى سياسة ولطف وتأنيس حتى يرتاض ويقبل التعليم".
وعقد ابن خلدون فصلا خاصا في مقدمته عن أن "التعليم للعلم من جملة الصنائع" قال فيه: "وذلك أن الحذق في التعلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبرا عند كل أهل أفق وجيل
…
ويدل أيضا على أن تعلم العلم صناعة لاختلاف الاصطلاحات فيه. فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها".
ولم تكن صناعة التعليم في البداية وظيفة حكومية كالقضاء والحسبة وغيرها، وإنما كان الشيوخ والمعلمون يقومون بالتدريس احتسابا لوجه الله وابتغاء لمرضاته، فمن آنس منهم في نفسه المقدرة على تعليم العلم حبس للتدريس. وهكذا كان التعليم في الملة الإسلامية واجبا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهو كالجهاد فرض كفاية إن قام به البعض سقط عن الكل. وكل هؤلاء الشيوخ يتكسبون ويعيشون من كد يمينهم أو من مساعدة الملوك والأمراء وأهل الخير من العامة. كما أن الشيوخ والعلماء كانوا يتلقون أحيانا الهدايا والعطايا السخية من رجال الدولة وكبار الأعيان. وكانت الهدايا تشمل في بعض الأحيان حمولة دواب من الطعام والعسل والزيت إلى جانب النقود والمال. وكان الموسرون من الطلبة لا يبخلون بمالهم على مشايخهم ويقدمون لهم الهدايا، وكان الشيوخ والعلماء لا يجدون غضاضة في قبول هذه الهدايا "إبراهيم التوزري: ط1 ص142".
أهمية المعلم ومكانته:
يحتل المعلم مكانة رئيسية في التربية الإسلامية اقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم معلم هذه الأمة فيما رود عنه قوله: "إنما بعثت معلما". فالمعلم عنصر رئيسي وهو أحد الأركان الرئيسية للعملية التعليمية. ولذلك أوجب المربون المسلمون أن يؤخذ العلم من شيخ لا من كتاب وسموا من يأخذ من صفحات الكتب فقط صحفيا.
ولم يعولوا عليه وكرهوا "تمشيخ" الصحيفة، أي أن يحتل الكتاب مكانة الشيخ والأستاذ. وقد سبق أن أشرنا إلى كلام ابن خلدون في هذا الصدد والذي يقول فيه:"إن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل تارة عملا وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون تكوُّن الملكات ورسوخها". وهكذا يؤكد ابن خلدون على أهمية تلقي العلم من المعلم مباشرة.
وروي عن سلمان الفارسي أنه كتب إلى أبي الدرداء "إنما مثل المعلم كمثل رجل عمل سراجا في طريق مظلم ليستضيء به من مر به وكل يدعو إلى الخير" وهناك كثير من الأمثلة التي تعلي من شأن المعلمين وتضعهم في مكانة محترمة لائقة بالمهنة الشريفة التي ينتمون إليها. ويروي الثعالبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون". ويؤكد الغزالي أهمية الاشتغال بالتعليم، ويعلي من قدر أصحابها ويعظم من شأن وخطر المسئولية الملقاة عليهم، وفي ذلك يقول الغزالي:
"فمن علم وعمل بما علم فهو الذي يدعي عظيما في ملكوت السماوات فإنه كالشمس تضيء لغيرها، ومن اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمرا عظيما وخطرا جسيما". والمعلم في نظره "متصرف في قلوب البشر ونفوسهم" وهو "يمارس أشرف الصناعات بعد النبوة". ويقول الغزالي: "إن أشرف مخلوق على الأرض هو الإنسان وإن أشرف شيء في الإنسان قلبه والمعلم مشتغل بتكميله وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل".
وقد دافع الجاحظ عما يتهم به معلمو الكتاب من الحمق حتى ضرب بهم
المثل "أحمق من معلم كتاب" فقال: "وكيف نظن الظنون بمعلمي الكتاب جميعا وفيه الفقهاء والشعراء والخطباء مثل الكميت بن زيد وعبد الحميد الكاتب وقيس بن سعد، وحسين المعلم وأبي سعيد المعلم. وما كان عندنا بالبصرة رجل أدرى بصنوف العلم ولا أحسن بيانا من أبي الوزير وأبي عدنان المعلمين".
وقد كان الحجاج بن يوسف الثقفي معلم كتاب وهو الخطيب المفوه والسياسي المحنك صاحب الفضل في إرساء قواعد الدولة الأموية. ولا ينكر الجاحظ وجود عناصر سيئة بين المعلمين وهو يبرر ذلك بقوله: "ففي كل طائفة أشرافها وسفلتها فلا يدفعنا ذلك إلى إطلاق الحكم على الطائفة بأسرها بسوء الخلق وصغار النفس والحمق".
ويجب أن نميز بين معلمي الكتاب ومعلمي المساجد والمدارس والمؤدبين الذين كانوا يؤدبون أبناء الحكام والأمراء. ومن المؤدبين المشهورين المفضل الضبي الذي كان مؤدبا للمهدي العباسي والكسائي مؤدب الأمين والفراء مؤدب ابن المعتز. وكان هؤلاء المؤدبون يحصلون على أجور مرتفعة ويغدق عليهم الهبات والعطايا من جانب الخلفاء والأمراء، ولهذا كان يحيون حياة رخاء. في حين أن أجور معلمي الكتاب كانت بسيطة متواضعة. ويمكن القول بصفة عامة أن أجور المعلمين بصفة عامة كانت متفاوتة وتتوقف على قيمتهم ومكانتهم العلمية.
ويستمد المعلم مكانته وأهميته من تأثيره على تلاميذه، ذلك أن للعلم تأثيرا كبيرا في نفوس الصبيان، فهو قدوة لهم يتأثرون به وبشخصيته. وقد روى الجاحظ من كلام عقبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده قوله:
"يكون أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك فإن أعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت".
ويستمد المعلم أهميته من دوره في العملية التعليمية، وإذا كان الناس قد اختلفوا حول إمكانية حصول العلم بدون المعلم فإن الواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم كما يقول الشاطبي في "الموافقات" وقد قالوا: إن العلم كان في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتيحه بأيدي الرجال، وهذا يقضي
بأن لا بد في تحصيله من الرجال". "إن أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين منه على الكمال والتمام". ويقول الشاطبي:
"وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقتان: أحدهما المشافهة وهي أنفع الطريقتين وأسلمهما لأن كثيرا من مسائل العلم يقرؤها المتعلم في كتاب ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضيرة، وبه من فوائد مجالسة العلماء إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم.. ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم وتأدبهم معه واقتدائهم به. فهذا الطريق نافع على كل تقدير.
ثانيهما: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين. هو أيضا نافع في بابه لأن المتعلم يحصل له فهم مقاصد العلم ومعرفة اصطلاحات أهله وما يتم له به النظر في الكتب. وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه. وهذا معنى قول من قال: "كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب ومفاتيحه بأيدي الرجال". والكتب وحدها لا تفيد الطالب كثيرا دون فتح العلماء لأسرارها بالشرح والتعليق. وعلى المعلم أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيرهم من المتاخرين "أبو إسحاق الشاطبي: ج1 ص51".
وبالنسبة للعوامل التي تؤثر على مكانة المعلمين فمن المعروف أن المكانة الاجتماعية للمعلمين تتحدد بكثير من العوامل، منها مقدار ما يأخذه من أجر ومنها سن التلاميذ الذين يعلمهم. فكلما زادت سن التلميذ زادت مكانة الأستاذ فمعلم الصبية أقل من معلم الفتيان. ومنها أيضا الطبقة الاجتماعية للتلاميذ. فإذا كان التلاميذ الذين يعلمهم المعلم من طبقة أعلى زادت قيمته، فمعلم أولاد العامة أقل من معلم أولاد الخاصة. وفي ذلك يقول الجاحظ في البيان والتبيين "ج1 ص140-141" "والمعلمون عندي على ضربين، فمنهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة فإلى تعليم أولاد الملوك أنفسهم المرشحين للخلافة فإن ذهبوا إلى معلمي كتاتيب القرى فإن لكل قوم حاشية وسفلة فما هم في ذلك إلا كغيرهم
…
".
واجبات وأدوار المعلم:
تتعدد الواجبات والأدوار التي يقوم بها المعلم، فهو يقوم بدور الوسيط بين الأجيال ودور ناقل الثقافة وشارحها ومفسرها وهو رسول المعرفة وباني البشر وهو في كل هذه الأدوار يعتمد على ما لديه من إمكانيات تؤهله للقيام بهذه الأدوار. وإن فاقد الشيء لا يعطيه ولا يمكن للمعلم أن يعطي ما لم يكن لديه ما يستطيع أن يقدمه لتلاميذه من زاد فكري وثقافي وتربوي. ولهذا اشترط المربون المسلمون في المعلم أن تكون لديه القدرة التي تؤهله للتدريس. وأوجبوا على المعلم ألا يتصدى للعمل بالتدريس إلا إذا كان أهلا لذلك وآنس في نفسه المقدرة والكفاءة للقيام به.
وقد كتب عن واجبات المعلم كثير من علماء المسلمين منهم عبد الله بن المقفع في أوائل القرن الثاني للهجرة في كتابه "الأدب الصغير" و"الأدب الكبير" وابن سحنون عالم القرن الثالث الهجري في رسالته "آداب المعلمين والمتعلمين" والقابسي عالم القرن الرابع الهجري في رسالته المفصلة عن آداب المعلمين والمتعلمين" والإمام أبو الحسن الماوردي عالم القرن الخامس الهجري في "أدب الدنيا والدين" والإمام أبو طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي عالم القرن الثامن الهجري في كتابه "قناطر الخيرات" والشيخ عبد الباسط العلموي عالم القرن العاشر الهجري في كتابه "المعيد في أدب المفيد والمستفيد" والنمر القرطبي في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" وبرهان الإسلام الزرنوجي في كتابه "تعليم المتعلم طريق التعلم" وغيرهم. وهناك اتفاق كثير بين هؤلاء جميعا على واجبات المعلم. وسنحاول في السطور التالية أن نلخص أهم واجبات المعلم، كما وردت عند هؤلاء العلماء وهي:
1-
أن يكون تقيا ورعا قائما بفروض دينه.
2-
أن يكون على معرفة بأصول دينه.
3-
أن يحرص على تعليم غيره لأن أي عالم إذا لم يكن له من يفيده من العلم صار كعاقر لا نسل له، فيموت ذكره بموته. ومتى استفيد بعلمه كان في الدنيا موجودا وإن فقد شخصيته كما قال أمير المؤمنين: "العلماء باقون
ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة".
4-
أن يكون مجيدا للعلم الذي يدرسه وأن يجيد توصيله لعقول الآخرين.
5-
أن يكون عاملا بعلمه لئلا يكون كما قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} .
6-
أن يجري المتعلمين منه مجرى بنيه في التعهد بأحوالهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده" وأن يوقرهم ويحترمهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "وقروا من تتعلمون منه ووقروا من تعلمونه العلم".
7-
أن يستعلم أسماء طلبته وحاضري مجلسه وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم وأن يوقر تلاميذ وأن يعظمهم ويحسن خلقه معهم ويرحب بهم إذا لقيهم ويعاملهم بالبشاشة وطلاقة الوجه وأن يخاطب كلا منهم بأحب الأسماء إليه.
8-
أن يكون وقورا مع تلاميذه فلا يرفع التكليف بينه وبينهم ولا يتبسط معهم ولا يضاحك أحدا بشرط ألا يكون عبوسا فذلك من الفظاظة الممقوتة.
9-
أن يكون رفيقا بتلاميذه وألا يعنف متعلما ولا يحقر ناشئا ولا يستصغر مبتدئا لقوله صلى الله عليه وسلم: $"علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون".
10-
أن يوجه المتعلم إلى الفضيلة والابتعاد عن الرذيلة بلطف المقال، وأن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف. قال صلى الله عليه وسلم:"لو منع الناس عن فت البعر لفتوه وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء". والتعريض أبلغ من التصريح لأن النفس الفاضلة تميل إليه وبه لا تنتهك أستار الهيبة والحشمة. كما أن للتصريح وجها واحدا وعبارة واحدة، وللتعريض وجوه وعبارات مختلفة. فمن هنا كان أبلغ. وقد يكون صريح النهي داعيا إلى الإغراء على حد
قول الشاعر "دع عنك لومي فإن اللوم إغراء".
11-
أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله لقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم".
12-
أن يكون عادلا بين تلاميذه وأن يعاملهم معاملة سواء دون اعتبار للمكانة الاجتماعية أو الجاه أو السلطان قال صلى الله عليه وسلم: "إيما مؤدب ولي ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائنين".
13-
ألا يطيل الحديث ويكثر القول في الأمر لدرجة تبعث الملل والسأم في نفس تلاميذه وتفقدهم الاهتمام بما يقول: فالإنسان يشبع من الكلام كما يشبع من الطعام، وما زاد على ذلك تزهد فيه النفس. وقد قال بعض الحكماء:"خير العلماء من لا يقل ولا يمل" وورد عن المبرد قوله: "من أطال الحديث وأكثر القول فقد عرض أصحابه للملال وسوء الاستماع ولئن يدع من حديثه فضلة يعاد إليه أصلح من أن يفضل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط له".
14-
أن يخلص في تعليم تلاميذه وألا يبخل عليهم بتعليم ما يحسن لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا العلم أهله فإن في ذلك فساد دينكم والتباس بصائركم". ولا يمنع من إفادة ما يعلم، وأن يجيب ما سأله متعلما، وأن يفيد من عاوده مستفهما ولا يضجر منه وأن يسهل لتلاميذه سبيل طلب العلم ويبذل على جهده من أجل معاونتهم ومساعدتهم. قال صلى الله عليه وسلم:"تصدقوا على أخيكم بعلم يرشده ورأي يسدده". وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا وعلموا فإن أجر المعلم والمتعلم سواء". قيل: وما أجرهما؟ قال: "مائة مغفرة ومائة درجة في الجنة".
15-
أن يكون أوسع الناس صدرا وأكثرهم صبرا وأجملهم لقاء وأحسنهم أخلاقا، لأن المتعلمين منه يحذون خلائقه ويتخذون طريقه. فلا يمنع طالبا ولا يثبط راغبا ولا ينفر متعلما لما في ذلك من قطع الرغبة منه والزهد فيما لديه.
16-
ألا يعجل بالجواب إذا سئل وإن كان له حافظا حتى يفكر فيه ويعرفه معرفة صحيحة فيجيب بعلم ويقين فإن ذلك من آداب العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن وقاف والمنافق وثاب".
17-
ألا يشتغل عن تعليم تلاميذه بأي شيء آخر.
18-
ألا يستخدم تلاميذه لقضاء مصالحه وأغراضه الشخصية.
19-
ألا يقبح في نفس المتعلم العلوم الأخرى التي يدرسها غيره فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين.
20-
أن يكون المعلم قدوة حسنة لتلاميذه في كل شيء.
21-
أن يكون على فراسة في التعرف على قدرات المتعلم، يقول الماوردي: إنه ينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم، ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه، ليعطيه ما يتحمله بذكائه. أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم. وقد روى ثابت عن أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا أنا لم أعلم ما لم أره، فلا علمت ما رأيت. وقال عبد الله بن الزبير: لا عاش بخير من لم ير برأيه، ما لم ير بعينه.
22-
من المبادئ الهامة في التعليم التي نأخذها عن الإمام الشافعي رضي الله عنه حرصه وهو يلقي درسه على حرية الطلبة العقلية وشعوره باستحالة القهر العقلي ما دام العقل يؤدي عمله. فهو يقول لطلابه: إذا ذكرت لكم ما لم تقبله عقولكم فلا تقبلوه. فإن العقل مضطر إلى قبول الحق. وفي قوله: "إن العقل مضطر" الدلالة على شعوره بضرورة هذه الحرية العقلية "أمين الخولي: ص84 نقلا عن السيوطي في التنبئة"
أخلاق المعلمين:
تختلط الآراء فيما كتب عن أخلاق المعلمين فمنهم من يتهمهم بالحمق وروجوا عنهم الأمثال التي تصفهم بذلك مثل قولهم: "أحمق من معلم كتاب" وقد رد الجاحظ على هذا الزعم، وقال: كيف نستطيع أن نزعم أن الكسائي وقطرب وأتباعهما يقال لهم حمقى. ونفى هذه الصفة عن المعلمين بصفة عامة بقوله: "ولا يجوز هذا القول على هؤلاء ولا على الطبقة التي دونهم". وأمير الشعراء أحمد شوقي مع أنه عظم المعلم بقوله:
قم للمعلم وفه التبجيلا
…
كاد المعلم أن يكون رسولا
يقول في قصيدته بعنوان "مصاير الأيام": إن عدوى الصبية تمتد إلى المؤدب فتلقبه صبيا مثلهم. يقول شوقي في ذلك:
ألا حبذا صحبة المكتب
…
وأحبب بأيامه أحبب
وياحبذا صبية يمرحون
…
عنان الحياة عليهم صبي
خليون من تبعات الحياة
…
على الأم يلقونها والأب
كأنهم بعد تلقي الدروس
…
مهار عرابيد في الملعب
جنون الحداثة من حولهم
…
تضيق به سعة المذهب
عدا فاستبد بعقل الصبي
…
وأعدى المؤدب حتى صبي
وقد ورد أيضا أن معلم الكتاب لا تقبل شهادته، وقد يكون تفسير ذلك على أنه تشكك في ذمة المعلم وضميره وإنما على أنه سد الباب أما ترك المعلم لتلاميذه وعمله للإدلاء بالشهادة.
ومن المعروف أن معلم الكتاب كان يحرم عليه ألا يترك عمله ولا ينشغل عن تلاميذه لأي سبب من الأسباب، ولذلك حرم عليه -إلا في حالة الضرورة- أشياء منها عيادة المريض والصلاة على الجنازة أو السير فيها أو الإدلاء بالشهادة في البيع أو النكاح لأن هذه الأشياء تجعله يترك عمله وتلاميذه. بل لا يجوز للمعلم أن ينشغل عن تلاميذه بأن يكتب لنفسه أو لغيره كتب الفقه وغيرها إلا بعد انتهاء عمله مع الصبيان. ويصف ابن جماعة المعلم بأنه "الذي كملت أهليته وتحققت شفقته وظهرت مروءته وعرفت عفته واشتهرت صيانته وكان أحسن تعليما وأجود تفهيما".
أما بالنسبة لأخلاق وآداب العلماء فإن الكتابات عن هذا الموضوع تضعهم في مكانة عالية رفيعة، ويجب أن يكونوا نبراسا لغيرهم من المشتغلين بالعلم
والتعليم. وإلى جانب بعض الآداب التي سبق ذكرها.. يرى أبو حنيفة أن على العالم المسلم أن يعرف "أن الله عز وجل إنما بعث رسوله رحمة ليجمع به الفرقة وليزيد به الألفة ولم يبعثه ليفرق الكلمة ويحرش المسلمين بعضهم على بعض" وكذلك من واجبات العالم المسلم أن يبشر ولا ينفر وألا يرمي غيره بالكفر أو غيره من التهم إن اختلفوا معه في الرأي. ولا يجوز أن يصير هذا الخلاف في الرأي خلافا في الدين، فإن صار كذلك كان العالم نفسه مخطئا خطأ تتفاوت حدود امتداده بتفاوت حجم الضرر الناجم عنه.
ويقول الماوردي: ومن آدابهم "أي العلماء" نصح من علموه وتسهيل السبيل عليهم والا يمنعوا طالبا ولا ينفروا راغبا ولا يوئسوا متعلما لما في ذلك من قطع الرغبة فيهم والزهد فيما لديهم.
ويضيف العلموي إلى ذلك أنه إذا سئل عن شيء لا يعرفه، أو عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقال ابن عمر أيضا: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية ولا أدري. وقال بعضهم:"تعلم لا أدري فإن قلت لا أدري علموك حتى تدري وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري".
قال الحميدي وهو تلميذ الإمام الشافعي: "صحبت الشافعي من مكة إلى مصر فكنت أستفيد منه المسائل ويستفيد مني الحديث". وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوب زور". وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى والخضر عليهما السلام حين لم يرد موسى العلم إلى الله تعالى لما سئل: هل أحد في الأرض أعلم منك.
أجر المعلم:
هناك خلط وسوء فهم في الكتابات العربية عن أجر المعلم وهل يجوز للمعلم أن يأخذ أجرا عن التعليم أم لا. ويرجع هذا الخلط إلى عدم التمييز أو التفرقة بين أخذ المعلم أجرا عن التعليم من المتعلم وبين أخذه أجرا عن التعليم كمهنة يتعيش منها من أولي الأمر. ومن قصد المعنى الأول من علماء المسلمين قال بعدم أخذ المعلم أجرا عن التعليم وإنما يبتغي به مرضاة الله لقوله صلى الله عليه وسلم: "قل لا أسألكم عليه من أجر. إن أجري إلا على الله". ومن ذهب إلى هذا القول قلة من علماء المسلمين منهم الغزالي والجيطالي. ومن قصد المعنى الثاني من علماء المسلمين قالوا بأن المعلم يستحق أجرا على تعليم القرآن وغيره وذلك استنادا إلى ما ورد في الأثر: "أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى". وذهب كل من ابن سحنون والقابسي وغيرهما إلى القول بهذا الرأي، ومنهم الغزالي أيضا عند قصد هذا المعنى إذ يقول: "للمدرس أن يأخذ ما يكفيه ليفرغ قلبه عن المعيشة وليتجرد لنشر العلم فيكون مقصوده نشر العلم وثواب الآخرة. ويأخذ الرزق بلغة ميسرة للمقصود أي مساعدة له على العيش والحياة. ويبرز القابسي إعطاء المعلم أجرا عن التعليم بقوله: لو اعتمد الناس على التطوع لضاع كثير من الصبيان ولما تعلم القرآن كثير من الناس فتكون هي الضروروة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية إلى تثبيت أبناء المسلمين بالجهالة فلا وجه لتضييق ما لم يأت فيه ضيق.
ويروى عن ابن مسعود قوله: ثلاثة لا بد للناس منهم: أمير يحكم بينهم ولولاه لأكل بعضهم بعضا، وشراء المصاحف وبيعها ولولاه لقل كتاب الله، ومعلم يعلم أولادهم ويأخذ على ذلك أجرا ولولا ذلك لكان الناس أميين. ويروى أيضا أن سعد بن مالك قدم برجل من العراق يعلم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه الأجر. ويروى عن مالك قوله: لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن وإن اشترط شيئا كان حلالا جائزا ولا بأس بالاشتراط في ذلك، وحق الختمة سواء اشترطها أم لم يشترطها. وهذه كلها أمثلة تؤكد استحقاق المعلم للأجر على اشتغاله بالتعليم.
وكان الإمام مالك وجميع علماء المدينة يجيزون أخذ الأجر على تعليم الصبيان القرآن والكتابة. فقد ورد عن ابن وهب صاحب الموطأ قوله: "سئل مالك عن الرجل يجعل للرجل عشرين دينارا يعلم ابنه الكتاب والقرآن حتى يحذقه. فقال: لا بأس بذلك وإن لم يضرب أجلا. ثم قال: "والقرآن أحق
ما يعلم" وقد ورد في فتح الباري بشرح البخاري 5/ 360 "كتاب الإجازة" قول الحكم: "لم أسمع أحدا كره أجر المعلم".
وأورد ابن وهب في موطئه عن عبد الجبار بن عمر قوله: كل من سألت بالمدينة لا يرى لتعليم المعلمين بالأجر بأسا. وهناك أمثلة واقعية لمعلمين كانوا يأخذون أجرا على تعليمهم من أشهرهم المبرد الذي كان لا يعطي الدروس مجانا وكان الزجاج يدفع إليه درهما في اليوم لقاء تعليمه.
وقد رد الطهطاوي في العصور الحديثة على من قال بعدم جواز أخذ أجر عن التعليم، وذهب مذهب جمهور المسلمين في القول بأن يأخذ المعلم أجرا على التعليم، وقد كان المعلم في العصور الإسلامية ولا سيما معلم الكتاب يأخذ أجرا يتفق عليه من أولياء الأمور وكان هذا الأجر يدفع عادة إما مشاهرة "بالشهر" أو مساناة "أي بالسنة". وقد يكون نقديا بالمال أو عينيا بالغلال والحبوب وغيرها من الخيرات أو بهما معا. وقد يترك أمر الأجر لتقدير الآباء وحسب كرمهم وأريحيتهم.
أما المعلمون أو العلماء الذين كان يعينهم الولاة والحكام في مدارسهم التي كانوا ينشئونها كالفاطميين في مصر ونظام الملك في بغداد ونور الدين زنكي في الشام وصلاح الدين الأيوبي في مصر فكانت لهم أجور منتظمة تدفع لهم من خزانة الدولة ومن بيت المال.
وهناك اختلاف بين المؤرخين حول مسألة بدء ترتيب أجور منتظمة للعلماء والمعلمين. فهناك رأي يقول: إن نظام الملك هو أول من رتب الأجور للعلماء والمدرسين في مدارسه النظامية، ورأي آخر يقول: إن ترتيب الأجور للمعلمين بدأ قبل نظام الملك. وهناك رأي يقول: إن الفاطميين أول من رتب أجور منتظمة للعلماء والمعلمين ولكن من المعروف أن العباسيين شيدوا بيت الحكمة في بغداد، وعينوا له العلماء والمترجمين والنساخ ورتبوا لهم المرتبات والأجور. ومن بعدهم بني الفاطميين الأزهر لخدمة المذهب الشيعي ووكلوا إلى رجالهم وعلمائهم الإشراف عليه وتوجيهه.
ثم أنشأ نظام الملك عدة مدارس عرفت باسمه أشهرها نظامية بغداد وكان
الهدف من إنشائها مقاومة المذهب الشيعي الذي كان منتشرا في عهد البويهيين، وعملت هذه المدارس على ترويج المذهب السني. وقد عين لهذه المدراس العلماء والمعلمون ورتبت لهم المرتبات والأجور. ويصدق ذلك أيضا على المدارس التي أنشأها كل من نور الدين زنكي في الشام وصلاح الدين الأيوبي في مصر، فكانت هذه المدارس تروج لمذهب فقهي معين تسير الدراسة وفقا له ويقوم بالتدريس فيها علماء المذهب وشيوخه.
ولم يكن التعليم هو الوسيلة أو المهنة التي يعتمد عليها المعلم في كسب رزقه إذ كان لكل معلم مهنته الخاصة. وقد قام أحد الباحثين الأجانب1 بإحصاء للعلماء المسلمين في القرنين الثالث والرابع للهجرة فوجد أن 75% منهم كانوا من التجار وأصحاب الحرف. فالزجاج كان يعمل في خرط الزجاج. وكان أبو حنيفة خزازا يبيع الخز وكان الواقدي يضارب بالحنطة. ولذلك نجد أن معظم العلماء كانوا في حالة الاكتفاء من الناحية المادية بل إن بعضهم كان من الموسرين لدرجة أنه كان يساعد طلابه المجتاجين. وكان هناك بالطبع عدد قليل من العلماء الفقراء الذين كانوا يتلقون العون والمساعدة من الخلفاء والأعيان.
1 انظر: تاريخ التعليم عند المسلمين: ترجمة د. سامي الصفار.
الفصل السابع: تطور التربية الإسلامية وأهم سماتها في العصور الوسطى
مراحل تطور التربية الإسلامية
مدخل
…
الفصل السابع: تطور التربية الإسلامية وأهم سماتها في العصور الوسطى
مراحل تطور التربية الإسلامية:
يمكننا أن نميز بين أربع مراحل متميزة مرت بها التربية الإسلامية في تطورها هي:
المرحلة الأولى: مرحلة البناء
وتبدأ منذ ظهور الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية. وأهم السمات العامة للتربية الإسلامية في تلك الفترة هي:
1-
أنها كانت تربية عربية إسلامية خالصة.
2-
أنها استهدفت إرساء قواعد الدين الجديد.
3-
أنها اعتمدت أساسا على العلوم النقلية واللسانية.
4-
أنها اهتمت بالكلمة المكتوبة كوسيلة هامة للاتصال.
5-
أنها أفسحت المجال لتعلم اللغات الأجنبية.
6-
اعتمادها على الكتاب والمسجد والمكتبة كمراكز للتعليم.
المرحلة الثانية: مرحلة العصر الذهبي
وتبدأ بالعصر العباسي حتى انهيار الخلافة العباسية وسقوط بغداد. وأهم السمات العامة للتربية الإسلامية في هذه الفترة هي:
1-
دخول العلوم العقلية.
2-
إنشاء المدارس.
3-
ظهور الآراء التربوية المتميزة.
المرحلة الثالثة: مرحلة التطور والانحطاط
وتبدأ بالحكم التركي العثماني حتى استقلال البلاد العربية، وأهم السمات العامة للتربية الإسلامية في هذه الفترة هي:
1-
تجمد الفكر الإسلامي.
2-
العودة إلى الاقتصار على العلوم النقلية.
3-
جمود المؤسسات التعليمية.
4-
غلبة الثقافة التركية.
5-
التمييز الثقافي للأقليات الدينية غير الإسلامية.
6-
دخول المؤثرات التربوية الغربية.
المرحلة الرابعة: مرحلة التجديد وإعادة البناء
وتشمل هذ الفترة بداية استقلال البلاد العربية من الحكم التركي وتمتد حتى العصر الحاضر. وأهم السمات العامة للتربية في هذه الفترة هي:
1-
اقتباس النظم التعليمية الغربية.
2-
العناية بالعلوم العقلية والحديثة.
3-
تغلغل الثقافة الغربية.
4-
محاولة تطوير مؤسسات التعليم التقليدية
وسنحاول أن نفصل الكلام في الصفحات التالية عن التربية الإسلامية، خلال المرحلتين الأوليين باعتبار وقوعهما زمنيا في العصور الوسطى مرجئين الكلام عن المرحلتين الأخيرتين إلى فترة العصور الحديثة.
المرحلة الأولى للتربية الإسلامية: مرحلة البناء
مقدمة: بين العروبة والإسلام
كان العرب قبل الإسلام يعيشون في المنطقة التي تعرف الآن بشبه الجزيرة العربية، وكانت حياتهم حياة بداوة بسيطة تحكمها الصحراء بجدبها والقبيلة بعصبيتها. ولم تكن هناك وحدة سياسية تشملهم وإنما عاشوا في حالة تفكك اجتماعي وسياسي كبير. ولم يكن يوجد بينهم إلا اللغة والشعر يتطارحونه في أسواقهم الأدبية المعروفة، وهي عكاظ ومجنة وذو المجاز. ولم يكن لهم غير ذلك من نصيب كبير في مجال العلوم والفنون كما أشرنا. وكانوا يعبدون الأصنام ويشربون الخمر ويلعبون الميسر، ويؤمنون بالتطير ويتاجرون في العبيد.
وكانت مكة تحظى بأهمية خاصة لوجود البيت الحرام بها. وهو البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام إلى جانب أنها كانت أهم مركز تجاري. وكانت التجارة أهم الوسائل التي تربط العرب بالمجتمع الخارجي وتمثلت الطبقة الغنية هناك في طبقة التجار الذين كانوا يجلبون التجارة من بلاد فارس والشام واليمن. وكانت تجاور العرب في تلك الفترة دولتان كبيرتان على حظ كبير من الحضارة أولاهما دولة الفرس في الشرق وثانيتهما دولة الروم أو الدولة البيزنطية في الغرب، وكانت هذه الدولة الأخيرة تسيطر على العراق والشام ومصر وشمال إفريقيا.
وجاء الإسلام، وكان ثورة اجتماعية شاملة ضد التفكك والتخلف وسرعان ما وحد العرب تحت لوائه. ولكن الإسلام لم يكن لأهل الجزيرة العربية فحسب وإنما للناس قاطبة من عرب وعجم. ومن ثم بدأت رسالة الإسلام تأخذ طريقها إلى خارج الجزيرة لتبشر بالدين الجديد. وقد استطاع العرب تحت لواء الدين الجديد أن يهزموا أكبر دولتين في عصرهما "أي أوائل القرن السابع الميلادي". ولم يمض على وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام سوى حوالي ثلاثة أرباع قرن من الزمان إلا وكان الإسلام يرفرف على رقعة هائلة تمتد من المحيط الهندي شرقا حتى المحيط الأطلسي وغربا. فقد فتح العرب دمشق سنة 625م والعراق سنة 637م ومصر وفارس سنة 641م وبرقة سنة 643م وواصلوا فتحهم لشمال إفريقيا سنة 644م ولم تأت سنة 708م إلا وكانت لهم السيطرة عليها تماما. ودخل العرب إسبانيا سنة 711م وقد انتشر الإسلام بسرعة كبيرة في مناطق أخرى من العالم حتى أصبح يضم اليوم ما يقرب من خمسمائة مليون مسلم في جميع أنحاء العالم. وقد صاحب المد العربي انتشار الإسلام، بل وعندما انحسر الامتداد العربي بقي الإسلام كما هو بل واتسعت رقعته. والمهم من كل هذا هو أن نبين أن ما يعرف الآن بالوطن العربي دخل إلى العروبة عن طريق الإسلام. ومع حركة التعريب اللغوي والثقافي التي شملت هذا الوطن انصهر في بوتقة العروبة
على مر الزمان وكون معها وحدة عضوية متجانسة، وقد ساعد على ذلك وحدة الأرض والتاريخ والآمال والانتماء المصيري.
وهكذا يتضح أن كلمة عرب بمعناها الواسع لا يقصد بها أساس عرقي عنصري وإنما مفهوم ثقافي يطلق على الشعوب والأقوام التي دخلت الإسلام وانصهرت في بوتقة الثقافة العربية من خلال الإسلام واتخذوا اللغة العربية ميراثا مشتركا واكتبوا بها مؤلفاتهم في مختلف العلوم والفنون والآداب في عصر ازدهار الإسلام.
إن التمييز الحادث بين العروبة والإسلام لا يمكن أن نفهمه إلا من خلال النظرة الفاحصة المتمهلة للأصول التاريخية التي يكون بها العالم الإسلامي. إن الإسلام في جوهره الأساسي لم يقم على دعوة عنصرية عرقية كاليهودية مثلا التي يدعي أبناؤها أنهم شعب الله المختار وإنما كان الإسلام للناس كافة. ومن هنا كان لا بد أن يمتد الإسلام خارج جزيرة العرب كما قلنا. وكان حملة لوائه هم العرب أنفسهم لأنه جاء قرآنا عربيا بلسانهم وعلى يد نبي عربي من جلدتهم. وهكذا كان المد الديني والإسلامي مقترنا بالمد الثقافي العربي. وكان هذا المد هائلا وشمل مختلف أرجاء المعمورة ولكن النتيجة لم تكن واحد بالنسبة لكل أرجاء العالم الإسلامي. ذلك أنه حيثما تم انصهار الشعوب في بوتقة العروبة والإسلام تكونت الثمرة الناضجة التي تمثل الآن ما يعرف بالعالم العربي، أما حيثما لم يكتمل الانصهار في بوتقة العروبة والإسلام انحسر مد العروبة لكن بقي مد الإسلام وهذه المناطق تعتبر ثمرة لم تنضج بعد. وقد ترتب على هذا الوضع وجود تمييز درج الناس عليه بين العالم العربي والعالم الإسلامي ومثل هذا التمييز أوجد كثيرا من البلبلة في العقول. وإذا أردنا أن نضع الأمور في مكانها الصحيح قلنا العالم الإسلامي الناطق بالعربية والعالم الإسلامي غير الناطق بالعربية. ولو تصورنا أن العالم الإسلامي غير الناطق بالعربية أصبح يتحدث العربية لاختفى هذا التمييز، ومن هنا يمكن أن نفهم الوحدة الإسلامية الحقيقة. إن انضمام الصومال وموريتانيا إلى عضوية الجامعة العربية حدث له معناه وفحواه، وهو يؤكد القضية التي نحن بصددها ونتمنى أن نرى العالم الإسلامي
كله، وقد تحققت وحدته الفكرية على أساس من اللغة العربية. لقد عرف العالم الإسلامي قمة ازدهاره ومجده عندما كانت اللغة العربية أساس هذه الوحدة الفكرية، وكانت اللغة الراقية للعالم والجنس البشري طيلة أربعة قرون من الزمان منذ القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر. وتعلمها كثير من غير أبنائها باعتبارها لغة الثقافة والعلم، وقد كتبوا وألفوا بها. ولم يكن علماء المسلمين من مختلف الأجناس يشعرون بأي غضاضة بالكتابة بالعربية. ولذا نجد جميع علماء الإسلام من عرب وفرس وترك يؤلفون مؤلفاتهم بالعربية، مع أنهم كانوا يعرفون لغاتهم الأصلية. وقد روي عن العالم الإسلامي الكبير البيروني قوله:"والله لأن أهجى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية". يضاف إلى ذلك أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وتعلمها من كمال تمام الدين. وقد روى عمر بن الخطاب قوله: "تعلموا العربية فإنها من دينكم". ولا شك أن الأمر هنا موجه إلى كل المسلمين. ويقول العلامة ابن تيمية: "إن اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب. ذلك أنه فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا باللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ويرى الإمام الشافعي أن على كل مسلم أن يتكلم العربية وأن تعلم اللغة العربية فرض على كل مسلم.
وهكذا يصبح من واجب كل مسلم أن يتعلم العربية. وإذا كان غير المسلم يتحتم عليه أن يتعلم اللغة القومية لدولته إلى جانب لغته الأم لدواعي الحياة والمعيشة كما في دول مختلفة في العالم في سويسرا أو الاتحاد السوفيتي أو الهند وغيرها فما بالك بالمسلم الذي يعتبر تعلم اللغة العربية بالنسبة له من تمام دينه؟
إن على العالم الإسلامي غير الناطق بالعربية أن يسعى حثيثا لا هوادة فيه إلى نشر تعلم اللغة العربية بين أبنائه بنشر مراكز تعليمها على أوسع نطاق. كما يجعل اللغة العربية أجباريا من السنوات الأولى للتعليم في مدارسه ويجب على العالم الإسلامي العربي أن يشجع كل خطوة في هذا الاتجاه، وأن يقدم لها العون المادي والبشري على السواء.
السمات العامة للتربية الإسلامية في فترة البناء:
تميزت الفترة الأولى من ظهور الإسلام بفترة الحكم الشوري للخلفاء الأربعة الأوائل الذين عاصروا الرسول الكريم وتأثروا به كما أنهم قادوا الفتوحات الأولى للإسلام وعملوا على تثبيت أركان الدين والدولة. وفي العصر الأموي أصبح منصب الخليفة وراثيا، فالخليفة يوصي بمن يخلفه، واستمرت خلافتهم ما يقرب من تسعين عاما بين عام 40-132هـ و661-750. وفي بداية حكمهم نقلوا عاصمة الدولة من المدينة إلى دمشق، وكانت الدولة الأموية دولة عربية على الرغم من أنها نقلت عاصمتها من قلب العروبة إلى منطقة تلتقي فيها الحضارة الرومانية والفارسية. وقد ازدهر الأدب والشعر، وتجلت روائع الفن الإسلامي في مسجد دمشق. كما شهد العصر الأموي بداية حركة الترجمة إلى العربية إلا أنها كانت مقصورة على أفراد وتمثل اهتمامات فردية أو جهودا شخصية. أما في العصر العباسي فكانت تمثل مدرسة كاملة ترعاها الدولة وتباركها. كذلك اهتمت الترجمة في العصر الأموي بالعلوم ترعاها مثل الطب والكيمياء ولم تتعدها إلى العلوم العقلية في الرياضيات والمنطق والفلسفة. ولذا كانت هذه العلوم وليدة الدولة العباسية ذاتها وسيأتي تفصيل الكلام فيما بعد. وقد سبق أن أشرنا إلى أهم السمات العامة للتربية الإسلامية في فترة البناء وسنحاول في السطور التالية أن نفصل الكلام عنها:
1-
كانت عربية إسلامية خالصة:
تميزت هذه الفترة من التربية الإسلامية التي تمتد من ظهور الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية بأنها كانت إسلامية عربية خالصة، وقد يرجع ذلك إلى غلبة العرب وأن العناصر الإسلامية الجديدة لم تكن قد انصهرت انصهارا ثقافيا كاملا، كما أن العناصر العربية هي التي توجه الحكم والسياسة والدين والثقافة بصورة رئيسية. وفي هذه الفترة ولا سيما في عهد الأمويين نظمت حلقات الدروس في المساجد وقد ساعد على ذلك ظهور المذاهب والفرق الإسلامية والدينية المختلفة
ومنها الخوارج والشيعة والمعتزلة، وقد اعتنق بعض الخلفاء الأمويين مذهب الاعتزال الذي يعتبر من المدارس التقدمية في الإسلام وهو مذهب النزعة العقلية، وقد عمل انتشار المذاهب والفرق الإسلامية على زيادة اهتمام العلماء ببحث المسائل الدينية المختلفة ومنها مسائل القضاء والقدر والجبر والاختيار وارتكاب الكبيرة، وهكذا كان الاهتمام مركزا على الجوانب الدينية في الإسلام كما أن المسلمين لم يشتغلوا بشيء إلا بلغتهم وثقافتهم، وفي ذلك يقول صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم "ص47".
"كانت العرب في صدر الإسلام لا تعني بشيء من العلم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب غير منكرة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا إليها، ولما كان عندهم من الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث عليها حيث يقول: "يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا داء واحدا وهو الهرم" أي: الكبر والشيخوخة. وينبغي أن نشير هنا إلى أنه بعد فتح الممالك تفرق الصحابة في الأمصار. وكان منهم علماء رحلوا للتعليم فكانوا نواة لمدارسها.
2-
استهدفت إرساء قواعد الدين الإسلامي الجديد:
كان من الطبيعي أن تستهدف التربية الإسلامية في هذه الفترة الأولى من حياة الإسلام العمل على نشر الدين وتعاليمه؛ ولذلك نجد أن هذه الفترة تميزت بالفتوحات الإسلامية لنشر الدين وتثبيت أركانه وإلى جانب إرساء قواعد الدين وتثبيت أركانه شغل خلفاء المسلمين الأوائل بإرساء قواعد الحكم أيضا باعتبار أن الإسلام دين ودولة فالحاكم هو في نفس الوقت خليفة المؤمنين. وفي عهد عمر بن الخطاب كان من الطبيعي أمام اتساع الدولة أن يهتم بالأمور الدينية والشرعية والاصلاحات الإدارية. وفي عهده أنشئت الدواوين ووضعت سجلات لدخل الدولة. وفي صدر الإسلام ظهرت الخطابة كفن هام له دوره في نشر الدعوة الإسلامية وعلا شأنها على الشعر ولا سيما بعد أن هاجم القرآن الشعراء بقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وكان الرسول هو أصحابه يبثون الدعوة ويعلمون الناس في
المدينة وكان يرسل أصحابه ودعاته ورسله إلى الجهات النائية من شبه الجزيرة وغيرها ليعلموا الناس ويقرئوهم القرآن الكريم. وتفرق الصحابة في الأمصار الإسلامية يعلمون الناس ويثقفونهم ويرشدونهم إلى أمور دينهم ويفقهونهم فيه.
وكان الخلفاء أيضا يرسلون العلماء إلى الأمصار ومع الجيوش لنشر الدعوة الإسلامية فيها، كما كانوا أيضا يوصون ولاتهم في الأمصار بضرورة الاهتمام بنشر الدين وتعاليمه. وكان عمر على سبيل المثال عندما يرسل صحابيا إلى بلد ما يبعث معه بخطاب يعرف فيه الناس بقدره ومكانته مثلما فعل مع عبد الله بن مسعود وهو من خيرة الصحابة حين أرسله إلى الكوفة فبعث معه برسالة إلى أهلها يقول لهم فيها "إني بعثت لكم بعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وآثرتكم به عن نفسي فخذوا عنه" وكان لكل صحابي مدرسة من مريديه يعرفون بالتابعين، كما كان لهؤلاء المريدين أيضا مريدون يعرفون بتابعي التابعين. وهكذا وضع الأساس لحركة علمية تعليمية ثقافية وفكرية تستند إلى الدين الجديد، وقد ازدهرت هذه الحركة بعد جيلين أو ثلاثة من جيل الصحابة والتابعين. "مصطفى الشكعة: ص21". كما أرسل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز إلى شمال إفريقية عشرة من الفقهاء لتعليم أبناء البربر تعاليم الدين الإسلامي.
3-
اعتمدت أساسا على العلوم النقلية واللسانية:
اعتمدت التربية الإسلامية خلال هذه الفترة على العلوم النقلية وتشمل علوم الدين المختلفة من قراءات وتفسير وحديث وفقه، وما يتصل بها من علوم لسانية وهي النحو واللغة والأدب، وهذه النزعة النقلية واللسانية للجانب الثقافي من التربية الإسلامية تتمشى مع ما سبق أن أشرنا إليه من كون التربية في هذه الفترة عربية إسلامية خالصة واستهدفت إرساء قواعد الدين بصورة رئيسية.
4-
اهتمت بالكلمة المكتوبة كوسيلة هامة للاتصال:
إلى جانب ما أشرنا إليه من استخدام الخطابة كأسلوب هام في التربية الإسلامية في صدر الإسلام برزت أيضا أهمية الكلمة المكتوبة كوسيلة هامة
للاتصال ولم تكن هذه الأهمية موجودة من قبل.
فقد كان مجيء الإسلام عاملا هاما في ظهور أهمية الكتابة. وبرزت أهميتها أول ما برزت عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابة الوحي وما ينزل عليه من آيات القرآن الكريم. وقد استعان بمن كانوا يعرفون الكتابة آنذاك.
وكان أول من كتب له أبي بن كعب الأنصاري وزيد بن ثابت الأنصاري إذ كانا يقومان بكتابة ما يوحى به إليه صلى الله عليه وسلم. ومن كتب له أيضا علي وأبو بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي قبل أن يرتد وعثمان بن عفان وشرحبيل بن حسنة وأبا بن سعيد والعلاء بن الحضرمي ومعاوية بن أبي سفيان وحنظلة بن الربيع والزبير بن العوام وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن رواحة وغيرهم. ويروى أن هؤلاء الكتبة للوحي لم يكونوا مهرة في الكتابة ولم تكن كتابتهم تسير على نمط واحد أو تخضع لقواعد واحدة من الكتابة أو الإملاء فكانوا لا يميزون بين مواقف الألف يحذفونها في موضع ويضيفونها في موضع آخر ما تساوي الموضعين في الإملاء، وكتبوا التاء المربوطة مفتوحة وغير ذلك. ويقول ابن خلدون في تعليل ذلك: هو ضعفهم في صناعة الخط والكتابة وأنهم لم يبلغوا حد الإجادة فيها.
وكان كتبة الوحي يكتبون على الرقاع والأضلاع وسعف النخل والحجارة الرقائق. كذلك كان نشر الدين الإسلامي عاملا هاما في ظهور أهمية القراءة والكتابة، فالمسلمون الأوائل بدءوا يحسون بالحاجة إلى القراءة والكتابة ليعرفوا أمور دينهم على الوجه الصحيح. وآيات القرآن الكريم كانت تكتب ويتلوها من يعرف القراءة على من لا يعرف وكان من الطبيعي إذن أن يحس المسلمون بحاجتهم إلى تعلم القراءة والكتابة. وقد أقبل الناس على القرآن يقرءونه ويفهمون معانيه ويفسرون آياته ويستنبطون منه الأحكام. كما أن حاجة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نشر الدين تطلبت منه الاتصال بمن جاوره من الملوك والأمراء عن طريق الكتابة إليهم وبعث الرسائل لهم، وفي ذلك يقول ابن هشام:
"فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا من أصحابه، وكتب معهم كتبا إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام. فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك
الروم، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة. وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعباد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي إلى ثمامة بن أثال وخوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن شمر الغساني ملك تخوم الشام
…
وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن". وهذه الرسائل مكتوبة بالعربية لكنه احتاج إلى من يحسن الرومية والفارسية والحبشية والقبطية لترجمة مضمون هذه الرسائل إلى من وجهت إليهم من غير العرب. ولم تقتصر كتابة الرسائل على الملوك وإنما شملت أيضا كثيرا من رجال العرب وأقوامهم. وقد خصص ابن سعد في طبقاته كلاما مفصلا عن الرسائل العديدة التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الرجال والأقوام "ابن سعد: الطبقات الكبرى ط1 ص258".
وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم له كثيرا من الكتاب الذين يكتبون القرآن ويحررون الكتب التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسلها إلى الملوك والأمراء وغيرهم من الأقوام. ولذا كان ديوان الإنشاء أي الكتابة أول ديوان وضع في الإسلام يليه ديوان الجيش في عهد عمر. وقد عدد إبراهيم الأبياري في موسوعته القرآنية أربعة وعشرين كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم "إبراهيم الأبياري ج1: ص291" كما أن هناك من المؤلفين القدماء من عدد 42 كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم "عبد الحي الكتاني: ص116".
ومن ناحية أخرى نجد أن الحاجة إلى كتابة معاهدات الصلح والمواثيق والعهود منذ بداية عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت عاملا آخر في تأكيد أهمية الكتابة، ولم تكن هذه الحاجة موجودة بهذه الدرجة من قبل. كذلك نجد أن القرآن قد أمر بكتابة الدين ضمانا لحقوق الدائن وإثباتا على المدين قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} .
ويورد الكتاني نقلا عن "أبو الوفاء الهوريني المصري" أنه لم تكثر الكتابة العربية في المدينة إلا بعد الهجرة النبوية بأكثر من سنة. وذلك أنه لما أسرت الأنصار سبعين رجلا من صناديد قريش وغيرهم في غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة.
جعلوا على كل واحد من الأسرى فداء من المال وعلى كل من عجز عن الاقتداء بالمال أن يعلم الكتابة لغيره من صبيان المدينة فلا يطلقونهم إلا بعد تعليمهم. فبذلك كثرت فيهم الكتابة وصارت تنتشر في كل ناحية فتحها الإسلام في حياته عليه الصلاة والسلام وبعده حتى بلغت عدة كتابه عليه السلام 42 رجلا. ولما تولى أبو بكر الخلافة اتخذ عثمان بن عفان كاتبا له، واتخذ عمر زيدا بن ثابت وعبد الله بن الأرقم واتخذ عثمان مروان بن الحكم.
وروى الجهشياري أن عليا كرم الله وجهه قال لكاتبه عبد الله بن رافع: "يا عبد الله ليق دواتك""أي اجعل لها ليقة أو خرقة توضع في المداد" وأطل شباة قلمك "أي سنة ومقدمته" وفرج بين السطور وقرمط بين الحروف "ويعني بها التقريب بين الحروف مع الدقة". "حسن إبراهيم ج1: ص452".
كما أن الاهتمام بأعمال الخلفاء الأول وتسجيل أعمالهم وفتوحاتهم وما اتصل بها من أحداث هامة قد أوجبت تدوينها في كتب السير والمغازي منها على سبيل المثال ما ألفه عروة بن العوام "23-94هـ" الذي يعتبر أقدم من ألف في سيرة الرسول وأبان بن عثمان بن عفان "222-105هـ" الذي جمع له تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة كتابا في السير ووهب بن منبه "34-11هـ" الذي ألف كتابا في المغازي وموسى بن عقبة المتوفى 141هـ الذي جمع كتابا في المغازي. ولما انتقلت الخلافة إلى بني أمية تعدد الكتاب لتعدد مصالح الدولة وأصبح الكتاب خمسة: كاتب الرسائل وكاتب الخراج وكاتب الجند وكاتب الشرطة وكاتب القاضي. وكان كاتب الرسائل أهم هؤلاء الكتاب في الرتبة. وكان الخلفاء لا يلون هذا المنصب إلا أقرباءهم وخاصتهم وظلوا إلى ذلك أيام العباسيين.
وقد ازدادت أهمية الكتابة العربية مع تعريب الدواوين في الأمصار الإسلامية في عهد عبد الملك بن مروان. وقد حذا الوليد حذو أبيه عبد الملك "شوال
86هـ - جمادى الآخرة 96هـ" وحول كتابة الدواوين في مصر إلى العربية بعد أن كانت باليونانية التي كانت اللغة الرسمية في مصر حتى عهده. وهكذا نجد أن إنشاء الدواوين في الإسلام وتعريبها قد تطلب الاهتمام بالكتابة العربية أيضا. ومن المعروف أن عمر بن الخطاب هو أول من أنشأ الدواوين أي الإدارات الحكومية في الإسلام وفي ذلك يقول محمد كرد على المؤرخ المعروف: "وما تعلقت به همة عمر إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسع في الفتوح فهو أول من حمل الدرة وهو أول من دون الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم دونها له عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب وأيام الناس" ويستطرد فيقول: "والديوان الدفتر أو مجتمع الصحف والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية. وعرفوا الديوان بأنه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال وأطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات والأضابير والطوامير" "محمد كرد علي: 1934".
ومن المعروف أن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء كما أشرنا في مكان آخر من هذا الكتاب، وكانت دواوين الشام تكتب بالرومية ودواوين العراق بالفارسية ودواوين مصر بالقبطية يتولاها النصارى والمجوس دون المسلمين. وكذا فرضت الحاجة إلى تعريب هذه الدواوين أهمية خاصة على الكتابة العربية وضرورة قيام نفر من المسلمين بأمرها، وقد تطلب ذلك الاهتمام بها وتعلمها.
ويقول ابن خلدون "المقدمة: ص419-421" لما جاء الملك العرب وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة. واحتاجت الدولة إلى الكتابة طلبوا صناعتها وتعلموها وبلغت رقبة من إتقان الخط في الكوفة والبصرة إلا أنها كانت دون الغاية ثم انتشر العرب في الأقطار والممالك وفتحوا إفريقية والأندلس، واختلط بنو العباس بقباء، فترقت الخطوط فيها إلى الغاية لما استجرت في العمران
…
وعم العمران والحضارة كل قطر في الدول الإسلامية وعظم الملك، وازدهرت العلوم ونسخت الكتب وأجيد نسخها وتجليدها وملئت بها القصور
والخزائن الملوكية وتنافس في ذلك أهل الأقطار.. ولما انحل نظام الدولة الإسلامية وضعف شأن بغداد بضعف الخلافة انتقل شأن العلم والكتابة إلى مصر والقاهرة وأصبح للخط والكتابة معلمون يعلمون حسب قوانين متعارفة بينهم.. أما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها
…
فانتشروا في المغرب وبأفريقية وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع فغلب الأندلسي بتونس وما إليها لتوفر أهل الأندلس بها. ولما تراجع أمر الحضارة بتراجع العمران وتقلص الدول، زاد الميل بالخط وفسدت رسومه فصارت الخطوط بأفريقية والمغرب مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل منها لمتصفحها إلا العناء والمشقة لكثرة ما يقع منها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة.
5-
أفسحت المجال لتعليم اللغات الأجنبية:
ظهرت الحاجة إلى تعليم اللغات منذ أيام الإسلام الأولى وإن كان ذلك على نظاق ضيق. فقد كانت نتيجة لاتصال المسلمين بالأقطار الأخرى واتساع رقعة الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية أن برزت الحاجة إلى تعلم اللغات الأجنبية وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على أن يتعلموا اللغات الأخرى غير العربية لدواعي الحاجة إليها وفي الحديث الشريف أنه "من تعلم لغة قوم أمن من شرهم".
ويقول ابن سعد في "الطبقات الكبرى": إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من "الحديبية" في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتابا. فقيل: يا رسول الله إن الملوك لا يقرءون كتبا إلا مختومة. فاتخذ رسول الله يومئذ خاتما من فضة فصه منه نقشه ثلاثة أسطر: "محمد رسول الله" وختم به الكتب فخرج ستة منهم في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم" "ابن سعد: ص258". وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لتعلم العبرية والسريانية ليدون بها
رسائله. ويروى عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا فتعلم السريانية" تعلمها في سبع عشر يوما كما يروى عن زيد بن ثابت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يتعلم الكتابة اليهودية "العبرية" ليتولى مراسلات النبي معهم ففعل زيد وكان يقوم بالكتابة لهم على لسان النبي كما كان يقرأ للنبي ما يرسلون له. هكذا كان تعلم اللغات الأجنبية مطلبا للتربية الإسلامية منذ ظهورها للوفاء باحتياجاتها التي فرضت عليها الطبيعة الإنسانية العالمية للدين الإسلامي.
6-
اعتمدت على الكتاب والمسجد:
اعتمدت التربية الإسلامية على الكتاب والمسجد بصورة رئيسية كمراكز للتعليم ولم تكن المدارس قد أنشئت بعد. كما أن المكتبات لم يكن لها شأن كبير في هذه الفترة. فكانت مجالس القضاة في المساجد حافلة بكل أنواع المعرفة والتثقيف. ففي مسجد الرسول كان الإمام جعفر الصادق يجلس ليعلم الناس ويثقفهم ويفقههم في أمور دينهم. وفي مسجد البصرة كان مجلس الحسن البصري، وإلى جانب مجلسه كانت هناك في نفس المسجد حلقات أخرى للدرس. وقد عملت هذه المجالس والحلقات على تنشيط الحركة الفكرية والثقافية الإسلامية ونشطت العقل الإسلامي ودربته على الجدل وتفنيد الحجج والأدلة ومناقشة اليهود والنصارى في محافل عامة أو مجادلة الفرق الكلامية الإسلامية بعضها البعض "مصطفى الشكعة: ص33". ونظرا لأن هذه المراكز قد استمرت تلعب هذا الدور الهام فيما بعد فإننا سنفصل الكلام عنها فيما بعد عند كلامنا عن مراكز التعليم.
المرحلة الثانية: مرحلة العصر الذهبي أو الازدهار
مقدمة تاريخية:
في هذه الفترة من التربية الإسلامية بلغت أملاك الإسلام أقصى حدودها من المحيط الأطلسي في أقصى الغرب إلى حدود الصين في أقصى الشرق ومن وسط آسيا في الشمال إلى وسط إفريقيا في الجنوب، وامتد الإسلام في أوربا حتى جبال البرانس وبلاد الغال جنوب فرنسا. وصهرت أمم هذه الأقطار الواسعة البالغة، الكثيرة في بوتقة الإسلام فأسهمت في حضارة تعد من أسطع ما عرف العالم من الحضارات الفكرية والمادية على السواء.
وكان أكثر أدوار الحضارة الإسلامية ازدهارا هو دور الخلافة العباسية ببغداد التي امتدت خمسة قرون "750-1258" ودور الأمويين بإسبانيا "711-1492" الذي امتد ما يقرب من ثمانية قرون.
يقول غوستاف لوبون "كانت بغداد وقرطبة هما القاعدتان اللتان كان السلطان فيهما للإسلام من مراكز الحضارة التي أضاءت العالم بنورها الوهاج" ولهذا سنخصص في هذه المقدمة التاريخية الكلام عن الدولة الإسلامية في المشرق والدولة الإسلامية في المغرب.
أولا: الدولة الإسلامية في المشرق:
ترتبط هذه الفترة التاريخية في المشرق بالدولة العباسية كما قلنا. وفي هذه الفترة انتشرت اللغة العربية في جميع أنحاء آسيا انتشارا سريعا فحلت محل اللغات القديمة بها حتى أصبحت اللغة العربية بالنسبة لدول المشرق كاللاتينية بالنسبة لدول الغرب. وقد تمكن العباسيون بفضل الازدهار الذي غمرهم من القيام بكثير من الأعمال العظيمة ذات النفع العام في شتى الميادين، منها شق الطرق التي تربطها جميع البلاد وإنشاء مرابط للخيل والاستراحات أو الفنادق للقوافل وحفر صهاريج المياه التي تزود المسافرين بالماء. وتقدمت الزراعة والصناعة واستغلت الثروات الطبيعية التي كانت تملأ الخلافة شرقا وغربا فاستغلت مناجم الحديد بخراسان ومناجم الرصاص بكرمان ورخام طوروس كما استغلت مصادر النفط والأحجار الكريمة.
وازدهرت الفنون والآداب وظهرت ألف ليلة وليلة التي غذت خيال الشعراء والأدباء، وارتبطت بهارون الرشيد. وبنيت المستشفيات والمختبرات الطبية والمراصد الفلكية. ومن أئمة علماء هذه الفترة فقيها الإسلام العظيمان أبو حنيفة ومالك اللذان عاشا أوائل الحكم العباسي وعاشا في عهد الخليفة العباسي الثاني
المنصور "754-775" وكانا يقومان بإلقاء دروسهما.
ويبرز الخليفة المأمون شديد الاهتمام بالتعليم والأدب، وكان يجمع من الأقاليم التابعة له كسوريا وإفريقيا ومصر ما يوجد فيها من كتب بدلا من الضرائب. وكانت مئات الجمال ترى وهي تدخل بغداد حاملة ورقا وكتبا فقط. وكانت تترجم للعربية الكتب القيمة. وكان بلاط المأمون يبدو وكأنه مجلس للعلوم والأدب أكثر من كونه مركزا للحكومة والخلافة إذ كان يتألف من الأساتذة والنقاد والمترجمين والشراح.
وكان المأمون يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم إيمانا منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عبادة؛ فلهذا السبب كان أهل العلم مصابيح الدجى وسادة البشر فأوحشت الدنيا لفقدهم، بل إن المأمون لما فرض السلم على قيصر الروم طلب أن تكون الجزية مجموعة من الكتب، وازدهرت بغداد لا كعاصمة الخلافة العباسية فحسب بل كمركز للثقافة والفنون والآداب لم تشهد له البشرية مثيلا. وحملت بغداد شعلة العلم والمعرفة إلى كل ربوع آسيا: في الهندوستان تحت رعاية الغزنويين في مطلع القرن 11 على يد البيروني ولدى السلاجقة في أواخر القرن 11 على يد عمر الخيام ولدى المغول حوالي منتصف القرن 13 على يد نصر الدين الطوسي. وفي الصين حوالي أخريات القرن 13 على يد "كوشو كينج" ولدى العثمانيين في النصف الأول من القرن الرابع عشر.
وقد قامت على أنقاض الدولة العباسية دول وإمارات. وكانت مصر في العهد الفاطمي في القرن "11م" وارثة الخلافة في بغداد بعد انحطاط مركزها السياسي والفكري، وقامت إمارات آل سليمان وآل بويه الفارسية، ودول الأتراك السلاجقة والخوارزميين والمغول وامتدت الحضارة الإسلامية إلى الهند والصين وحمل الأغالبة في شمال إفريقية حضارة العرب إلى صقلية، وكذلك كانت الدولة العثمانية وريثة أيضا للدولة العباسية، وعرفت هذه الممالك الإسلامية كثيرا من الأدباء والعلماء والمفكرين الذين أسهموا في بناء صرح الإنسانية. ومن هؤلاء الفردوسي صاحب الشاهنامة، وأحد كبار الشعراء
الحماسيين عاش في بلاط السلطان محمود الغزنوي، وفي دولة بني بويه. وفي فارس السلجوقية ظهر الفيلسوف والعالم الإسلامي الشهير أبو حامد الغزالي الملقب بحجة الإسلام وابن سينا الذي ولد في بخارى وتوفي في همذان، كما ظهر أيضا عمر الخيام العالم الرياضي، المشهور أكثر بشاعريته ولا سيما رباعياته التي لاقت شهرة كبير لا في العالم الإسلامي فحسب بل في دول الغرب أيضا.
ثانيا: الدولة الإسلامية في المغرب:
يتضمن الكلام عن الدولة الإسلامية في المغرب في العصور الوسطى الكلام عن شمال إفريقيا والأندلس.
أ- في شمال إفريقيا:
قبل الفتح الإسلامي كان ما يعرف الآن بالمغرب جزءا من الإمبراطورية الرومانية كما كانت مصر وبلاد الشام جزءا من هذه الإمبراطورية أيضا. وقد عمل الرومان على نشر ثقافتهم اللاتينية في بلاد شمال إفريقيا ونقلوا إليها مدارسهم وأنظمتهم التعليمية، كما كانت الآداب والفنون اليوناينة مزدهرة في روما فإنها قد وجدت لها مراكز خصبة في شمال إفريقيا طيلة القرنين الأولين من استيلاء الرومان على إفريقيا.
وكانت قرطاجنة التي بعثت من جديد بعد أن دمرها الرومان مركزا هاما للثقافة والفنون الهلينية في العالم الروماني حتى أصبحت تفاخر وتنافس جامعتي روما وأثينا. وكانت اللغتان اليوناينة واللاتينية تحييان بها جنبا إلى جنب. وإلى جانب المدارس ومراكز الثقافة الرومانية كانت هناك أيضا المعابد والهياكل الدينية بما فيها من مكتبات وما كان يعقد فيها من محاضرات وندوات وكذلك المسارح والملاعب التي عمت القرى والمدن الإفريقية وعملت على نشر الثقافة الرومانية، وفيما بعد مع بداية القرن الثالث الميلادي نرى أنه قد تعاقب على عرش روما أباطرة أفارقة من آل البينوس "سوسة" وآل سفيروس من أبناء طرابلس الغرب ومكرينوس الشرشابي وآر غرديانوس القرطاجني.
وكان هؤلاء الأباطرة مشغوفين بالعلم مكرمين لأهله كما كانوا يعتزون بأفريقيتهم ويحنون لوطنهم ويعطفون على أبناء جلدتهم فأغدقوا عليهم العطايا وخلعوا عليهم الوظائف السامية كما بنوا المدارس والمعابد بإفريقيا.
وإبان القرن الرابع الميلادي والنصف الأول من القرن الخامس الميلادي بدأت المسيحية بعد أن اعترف بها دينا رسميا في روما تغزو شمال إفريقيا ونجد هناك من يروجون لها.
ولما احتل البيزنطيون شمال إفريقيا وإبان القرن السادس الميلادي لم يعنوا كثيرا بالثقافة والعلم إذ كان عصرهم عصر حروب ومقاومة وثورات وانحطاط فكري وثقافي "إبراهيم التوزري: ج1 ص28-73" وكان ذلك إيذانا بميلاد عصر جديد برز نوره وأخذ يمتد سناه نحو الغرب وكان ذلك مع بشائر الفتح العربي الإسلامي.
وبدون الدخول في تفصيلات تاريخية يمكن القول بأنه عندما تقدمت الجيوش في شمال إفريقيا أقام القائد العربي عقبة بن نافع مدينة القيروان عام 50هـ "670م" وأصبحت مركزا سياسيا وحربيا هاما للعرب وتم لهم السيطرة على البرابرة الذين دخلوا في دين الله وأقبلوا على تعلم اللغة العربية وأصبحت القيروان إلى جانب كونها عاصمة سياسية ودينية منتجعا للعلم والثقافة يفد إليها طلاب العلم من مختلف الأصقاع.
وفي عهد الدولة الأغلبية التي أسسها إبراهيم بن الأغلب التميمي الوالي العربي في القيروان في الفترة من 185هـ-800م إلى 295هـ-909م انتشرت اللغة العربية وازدهرت العلوم وخلفت الدولة الأغلبية الدولة الفاطيمة والعبيدية التي عملت على تشجيع العلوم والمعارف على الرغم من الصراعات والفتن المذهبية التي كانت تقلقها وتعكر صفوها.
وبلغت العلوم والمعارف أوج ازدهارها في عهد الدولة الصنهاجية البربرية "الزيرية" التي خلقت الفاطميين بعد رحليهم إلى مصر عام 362هـ-973م وانقرضت هذه الدولة على يد الموحدين المغاربة عام 556هـ-1160م، عندما اختفت هذه النهضة الثقافية الفكرية. وهكذا كانت مدينة القيروان مركزا هاما
من مراكز الثقافة العربية الإسلامية خلال العصور الوسطى، وسنشير إلى بعض جوانب الحركة الثقافة فيها فيما بعد.
وبالنسبة لنشأة المدارس فقد تأخر ظهور المدرسة في المغرب والأندلس عن مثيلتها بالمشرق. وترجع نشأة المدارس بالمغرب إلى القرن السابع الهجري عندما أنشأ أمير المؤمنين يعقوب بن عبد الحق "656-684هـ" الملقب بالمؤيد والمنصور والقائم مدرسة بفاس وأوقف عليها الأوقاف وأجرى على طلاب العلم بها المرتبات
…
واتبع ابنه السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب سنة أبيه في بناء المدارس فأسس مدرسة "المدينة البيضاء" بفاس "والمدرسة العظمى" بفاس أيضا سنة 723هـ والتي عرفت فيما بعد بمدسة العطارين. وفي وصف هذه المدرسة يقول المؤرخ أبو العباس الناصري في كتابه "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى": من أعجب مصانع الدول لم يبن ملك قبله مثلها وأجرى فيها الماء من بعض العيون ورتب فيها الطلبة وجعل لها إماما ومؤذنين وقومة يقومون بأمرها. ورتب فيها فقهاء التدريس وأجرى على هؤلاء المرتبات والمؤن الزائدة عن الكفاية. وقد اشترى لأجل ذلك عدة أملاك وأوقفها عليها.
وكان الخلفاء والولاة في عاصمة الدولة الإسلامية يهتمون بنشر الدين في الأقاليم البعيدة. وقد أرسل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز إلى شمال إفريقيا عشرة من الفقهاء لتعليم أبناء البربر مبادئ الدين، كما أن بعض الحكام والسلاطين المحليين أظهروا اهتمامهم بالتعليم أيضا منهم على سبيل المثال السلطان أبو الحسن بن أبي سعيد المريني "732-749هـ" قد أظهر اهتمامه ببناء المدارس حتى قبل تولية الخلافة، إذ بنى سنة 721هـ مدرسة في فاس غرب جامع الأندلس. وبنى حولها سقاية ودار وضوء وفندقا لسكنى الطلاب. وعين فقهاء للتدريس وأجرى عليهم جميعا الإنفاق والكسوة وأوقف لها ربوعا كثيرة. وأنشأ مدارس عديدة بفاس منها "مدرسة الوادي" ومدرسة الصهريج ومدرسة "الرخام" ومدرسة "الحلقاويين" ومدرسة "المصباح" نسبة إلى أول فقية تولى التدريس فيها، وهو أبو الضياء مصباح بن عبد الله الباصلواتي. كما أنشأ مدارس أخرى خارج العاصمة فاس في سبتة وطنجة وآزمور وأغمات والعقد
الكبير والعباد وغيرها "أبو العباس الناصري: ج2 ص65-112". وسار ابنه السلطان أبو عنان فارس بن أبي الحسن المتوكل "749-759" على سنة والده أبي الحسن في بناء المدارس فبنى المدارس العنانية على اسمه ومدرسة أخرى بسلا.
ب- في الأندلس:
نعني بالكلام عن الدولة الإسلامية في المغرب "الأندلس: بصفة خاصة، وقد فتحها العرب في القرن الأول الهجري "أوائل السابع الميلادي" وكان العرب يطلقون اسم "الأندلس" على جميع بقاع إسبانيا التي خضعت للمسلمين، وترجع التسمية إلى القبائل التي كانت تسكن إسبانيا. فقد ظلت إسبانيا تحت حكم الرومان حتى أغارت عليها قبائل تعرف بقبائل الوندال فأطلق عليها العرب "الأندلس".
ويورد ليفي بروفنسال في كتابه: "حضارة العرب في إسبانية" القاهرة 1938 دليلا على لسان "ألفارو" القرطبي المسيحي الذي كان من غلاة المتعصبين في شبة الجزيرة الأندلسية في القرن التاسع يوضح فيه مدى انتشار الثقافة العربية بين المسيحين ويصرخ مما أصاب أهله من انتشارها يقول فيها: "أبناء ديني يحبون إنشاد الأشعار العربية بل إنهم يدرسون مؤلفات علماء الكلام لا ليدحضوها ويفندوها وإنما ليقوموا نطقهم العربي تقويما صحيحا
…
إن جميع شبان النصارى بما لهم من نبوغ لا يعرفون غير اللغة العربية وأدابها، وإنهم يقرءون الكتب العربية ويدرسونها باهتمام بالغ. وكونوا لأنفسهم مكتبات منها أنفقوا عليها أموالا كثيرة معلنين في كل مكان إعجابهم بهذه الكتب والآداب. واحسرتاه! لقد نسي النصارى لسانهم الديني ولا تكاد تجد بين كل ألف منا واحد يستطيع أن يكتب بصورة لائقة رسالة باللاتينية إلى صديق له. أما إذا كان الأمر يتعلق بكتابة رسالة بالعربية وجدت الكثير من الناس قادرا على التعبير بهذه اللغة تعبيرا مناسا. بل إن من بينهم من يقدر على نظم القصائد بالعربية بصورة قد تفوق من الناحية الفنية ما ينظم العرب أنفسهم". وهذا يوضح مدى انتشار الثقافة العربية في الأندلس آنذاك. ومع أن الأندلس لم يكن
لها صلة بالشرق إلا لمدة حوالي 44 سنة من آخر سنوات الدولة الأموية وقطعت هذه الصلة بقيام الدولة العباسية فإن العرب في إسبانيا استطاعوا في أقل من قرن بالأندلس أن يحيوا ميت الأرض ويعمروا خراب المدن ويقيموا أفخم المباني ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بجميع الأمم.
ومن الأندلس كان العرب يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة ومصانع الحرير والجلود والسكر إلى الشرق وإفريقيا. وأنشئوا المدارس والمساجد والفنادق والمستشفيات في كل مكان إلى جانب أنهم شقوا الطرق والجسور.
وكانت الزراعة موضع عناية خاصة بهم فقد درس العرب أمر الزراعة دراسة قائمة على معرفة تامة بالإقليم والأرض ونمو النبات وتكاثر الحيوان لدرجة يقال معها أحيانا إنه لم يتوفر لأي أمة متمدنة في أوربا وآسيا أو إفريقيا من أصول الزراعة بمثل ما توفر لعرب الأندلس. ولم تصل أي بلد من الازدهار الزراعي درجة أعلى مما وصلت إليه الأندلس العربية ولا سيما مملكة غرناطة. فقد كان إقليم الأندلس يدر ثلاثة محاصيل في كل عام. وكان العرب أول من أدخل إلى الأندلس زراعة الأرز والموز واللوز والفستق والنخيل وقصب السكر وجلبوا إليها الزهور والخضر التي لم تكن معروفة ومنها انتشرت فيما بعد إلى أوربا. ولا تزال معظم أسماء الزهور في اللغة الإسبانية شاهدا على ما استعير مباشرة من العرب والمسلمين. كما كان للصناعة نهضة فاستغلت مناجم الزئبق والياقوت كما استخرج اللؤلؤ والمرجان من الشواطئ. وطورت صناعة الجلود ودباغتها ونسج القطن والكتان والقنب.
أما الناحية العقلية والفكرية فكان للأندلس نشاط بالغ في ميدان العقل والفكر إلى جانب الازدهار المادي. وبلغت أسماء ابن رشد وابن ماجه وابن عربي وابن حزم شهرتها، وكانت الأندلس في عهد العرب أعظم دول الغرب في هذا العصر ازدهارا وحضارة. وظهرت قرطبة أكبر عواصم أوربا آنذاك نورا وكثرت القصور والمدارس، والمراصد والمكتبات. وقد أنشأ العرب مدرسة الطب في مونبليه في جنوب فرنسا.
ويروي مؤلفو الغرب أنه كان يوجد في الأندلس في ذلك الحين سبعون
مكتبة عامة، وأن مكتبة الخليفة "الحكم" بقرطبة كانت تشتمل على أربعمائة ألف مجلد منها 44 مجلدا للفهارس وحدها. وكانت بلاطات ملوك المسلمين في المدن الأندلسية المختلفة مثل طليطة وبطليوس وبلنسية والمرية وغرناطة وإشبيلية على الخصوص ندوات يجتمع فيها الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة والأطباء والمتخصصون في العلوم المختلفة وكانوا يحصلون على مكافآت مادية مجزية يدفعها لهم أمراء متنورون نصراء للعلم والأدب.
وقد ظلت الحياة الفكري مزدهرة واستمرت بالرغم من التدهور السياسي حتى انقراض إمارة غرناطة التي كانت آخر الإمارات الإسلامية. وقد كانت الحياة العقلية والفكرية مزدهرة في هذه الإمارة ولا سيما في مدينتيها الكبيرتين "مالقة والمرية". وجاءت النهاية الحزينة في الثاني من يناير 1490 الذي كان يوما حزينتا مشئوما استسلمت فيه غرناطة آخر الإمارات الإسلامية. وبعدها بدأ اضطهاد العرب بل والموريسيكيين منهم، "وهم المسلمون الذين تنصروا سرا" واستمر الاضطهاد طيلة حوالي قرن من الزمان بلغ ضحاياه في تقدير المؤرخين ثلاثة ملايين من العرب
…
وينتهي دور الاضطهاد عام 1556 بطرد جميع العرب من الأندلس إلى إفريقية. ونقل مليونه منهم بطريقة بالغة القسوة. ويروي المؤرخون أنه ذبح في الطريق ثلاثة أرباعهم. وحرقت الكتب والمخطوطات العربية الثمينة، وفي غرناطة وحدها أحرق ما يقرب من ثمانين ألف مخطوط عربي. وقد كانت هذه النهاية نهاية الأندلس الإسلامية ونهاية إسبانيا المسيحية أيضا. إذ خسرب بفقد العرب شريان حياتها الدافق. وترك العرب وراءهم فراغا كبيرا انعكس على الحياة في إسبانيا لعدة قرون تالية ولم يكن يملأ هذا الفراغ كل الذهب الذي جمعه غزاة الإسبان من المكسيك وبيرو وجاءوا به إلى إسبانيا وطنهم الأم. لقد جفت المياة الجارية ونضبت الينابيع المتدفقة وجفت الزهور اليانعة وعم الأرض البور والخراب وخلت المدن من سكانها، وتدهورت الفنون والحرف. ولم تلبث الدولة التي كانت على رأس جميع الأمم أن هوت إلى الحضيض. ويحدد القرن التاسع الهجري "السادس عشر الميلادي" النهاية الحزينة لسقوط الحضارة الإسلامية بعد أن كانت منارة الإنسانية طيلة العصور الوسطى، وتلك سنة الله في خلفه ولله في خلقه شئون.
السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي
دخول العلوم العقلية
…
السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي:
كان من أهم السمات العامة للتربية الإسلامية في هذه الفترة دخول العلوم العقلية وإنشاء المدارس وظهور الآراء التربوية المتميزة وهو ما سنفصل الكلام عنه في السطور التالية:
1-
دخول العلوم العقلية:
يميز علماء المسلمين بين العلوم النقلية وهي علوم العقيدة والشريعة الإسلامية وبين العلوم العقلية. يقصد بها: علوم الفلسفة والرياضيات والهندسة والجبر والفلك والطب والطبيعية والكيمياء والموسيقى والتاريخ والجغرافيا.
وقد سبق أن أشرنا إلى فضل المسلمين على هذه العلوم. بيد أنه لا يمكن أن تغفل أثر حركة الترجمة الهائلة التي قام بها المسلمون في العصر العباسي لترجمة علوم الإغريق وكتبهم. ويقول ابن خلدون في "المقدمة" في كلامه عن العلوم العقلية: "واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما فارس والروم.. وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما. ولما فتحت أرض فارس وجدوا فيها كتبا كثيرة". وقد بلغت الثقافة العربية قمة ازدهارها عندما انفتحت على الثقافات الأخرى وتفاعلت معها، وقد قام المسلمون بترجمة علوم اليونان ودراستها وكان للخليفة المنصور شرف المبادرة في اتخاذ الخطوة الأولى وسار على نهجه الخلفاء من بعده المهدي والرشيد والمأمون. ويذكر صاعد الأندلس في كتابه "طبقات الأمم" "ص47": أن الخليفة المأمون طلب من ملوك الروم كتب حكماء اليونان فأرسلوا إليه على سبيل الهدية مؤلفات أفلاطون وأرسطو وبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس. وبلغ من اهتمام الخليفة المأمون بهذه الكتب أنه أمر بترجمتها وحث الناس على قراءتها ودراستها. وقد نالت هذه الكتب شهرة ورواجا في عصره وراجت الفلسفة اليونانية وكثر المشتغلون بها وأغدق عليهم
المأمون من كرمه بالجوائز والمناصب الرفيعة. وأصبحت الدول العباسية منافسة للدولة الرومية في هذه العلوم.
ومن المعروف أنه عندما نفي الإمبراطور الروماني جستنيان فلاسفة الإغريق وعلماءهم من "أثينا" لوثنيتهم فروا إلى بلاد الفرس لما وجدوه من ترحيب كسرى أنو شروان "531-578". وكان قد أسس في "جند يسابور" من أعمال خوزستان في وسط آسيا دارا للعلم قام فيها هؤلاء العلماء بتدريس الفلسفة والطب. وبقي أثرها في تلك البلاد حتى ظهرت الدولة العباسية. كما غدت "حران" مركزا من مراكز الثقافة اليونانية ببلاد العراق. وتكلم أهلها وهم "الصابئة" اللغة العربية في سهولة ويسر، وساعدوا إلى حد كبير على نشر الثقافة اليونانية بين المسلمين. وإليهم يرجع الفضل في ترجمة كثير من الكتب عن اللغات الأجنبية، وشهد العالم الإسلامي حركة علمية كبيرة بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري. وكان قوام هذه الحركة ترجمة المسلمين لعلوم الإغريق واليونان والرومان والفرس والهنود من علوم مختلفة في الطب والفلسفة والرياضيات والطبيعة والفلك والموسيقى. وقد أعجب المسلمون إعجابا كبيرا بهذه العلوم الجديدة وأقبلوا على دراستها، بل ولقبوا أرسطو أحد مشاهير روادها بالمعلم الأول. والحسن بن الهيثم "965-1039م" وهو من أكبر علماء الفيزياء على مر العصور وله جهود عظيمة في علم البصريات ودرس العلوم المختلفة من طب وفلسفة ورياضيات والإلهيات كتب يقول موضحا سر اهتمامه بهذه العلوم ومعلنا إعجابه بأرسطو:
"ازدريت أعوام الناس ولم ألتفت إليهم واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئا أجود ولا أشد قربة من الله من هذين الأمرين. فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع العلوم والبيانات، فلم أحظ من شيء منها للحق منهجا ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا جددا، فرأيت أنني لا أصل إلا عن آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطو من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات. فلما تبينت ذلك أفرغت وسعى في طلب الفلسفة وهي ثلاثة
علوم رياضية وطبيعية وإلهية" "ابن أبي أصيبعة: ج2 ص92".
والفيلسوفان المعروفان الفارابي "ب339هـ" وابن سينا "ت428هـ" اعترفا بعظمة أرسطو. وابن رشد "ت595هـ" يفوق السابقين في تعظيمه لأرسطو وتقدير مكانته لدرجة لا مثيل لها. وهناك من ناحية أخرى من علماء المسلمين في الفلسفة من رفض في أول الأمر فلسفة أرسطو ومنطقه. وتصدى كثير منهم للرد عليه. وكان علماء المعتزلة أول من فعل ذلك. منهم النظام وأبو علي الجبائي. وفي القرن الثالث الهجري ألف حسن بن موسى النويختي كتاب "الآراء والديانات" رد فيه على بعض المسائل المنطقية عند أرسطو. وفي القرن الرابع الهجري ألف الإمام أبو بكر الباقلاني كتاب بعنوان "الدقائق" فند فيه الفلسفة وأثبت فضل منطق العرب على اليونان، وفي القرن الخامس الهجري قام الشهرستاني صاحب كتاب "الملل والنحل" المعروف وألف كتابا في الرد على برقلس وأرسطو. ونقض فيها أولهما وفق أصول المنطق وقواعده. وقام الغزالي في نهاية القرن الرابع الهجري بتأليف كتابه المعروف "تهافت الفلاسفة في نقد الفلسفة". وفي القرن السادس الهجري قام أبو البركات البغدادي بتأليف كتاب "المعتبر" أبطل فيه أفكار أرسطو "أبو الحسن الندروي: 1987، ص165". وقام ابن تيمية بنقد الفلسفة اليونانية ونقد أرسطو مؤيدا حججه بالأدلة والبراهين. ويمكن الرجوع إلى تفصيل نقده في الجزء الخاص به من هذا الكتاب.
وفي القرن السابع الهجري تبرز شخصية نصر الدين الطوسي "المتوفى 672هـ" الذي عرف باسم المحقق الطوسي في أوساط وحلقات الفلسفة. ودافع عن فلسفة أرسطو ونفخ فيها روحا جديدة. ومن المعروف عنه أنه عاش إبان غزو التتار وسقوط بغداد بل إن كان من مستشاري زعيم التتار هولاكو ومن المقربين إليه. وقد توفي بعد عشر سنوات من مولد ابن تيمية "المرجع السابق: 166".
ولا شك أن العرب في نقلهم لعلوم اليونان والرومان قد نقلوها بعد تطويعها لثقافتهم الإسلامية فالإسلام لا يعرف التعصب ولا يعرف الانغلاق وقد لعب العرب دور الوسيط في نقل هذه العلوم. وقد عبر أحد المؤرخين بقوله، وهي
شهادة شاهد من غير أهله:
"كان العرب مستعدين استعدادا عجيبا لتمثيل دور الوسيط وكانوا ذوي نشاط منقطع النظير يعتبر آية على دورهم الممتاز في تاريخ الدنيا. وكانوا على عكس بني إسرائيل المتعصبين راغبين في مصاهرة الأمم المغلوبة من غير جحود لخلقهم القومي وتقاليدهم على الرغم من تغلبهم في مختلف الأمصار".
"ولو أن دور الحضارة الإسلامية اقتصر على إنقاذ علوم القدماء وعلى الاحتفاظ بها ذخيرة كاملة تسلم إلى الأجيال القادمة لاعتبر هذا الدور خدمة جليلة للإنسانية لا تقدر بثمن. بيد أن دور العرب والمسلمين لم يقتصر على مجرد حفظهم لعلوم اليونان والرومان وإنما أضافوا لها وزادوا عليها. ذلك أنهم لم يتلقوا هذه العلوم كتلامذة وإنما كأساتذة". ويعتقد كثير من المؤرخين أنه بدون هذا الدور الذي قام به العرب بالنسبة لعلوم اليونان والرومان لتعذر ظهور عصر النهضة الأوربية. ويقول المؤرخ الفرنسي "سيديللو" في كتابه عن تاريخ العرب "باريس 1854""إن العرب وحدهم كانوا ممثلي الحضارة في القرون الوسطى فدحروا توحش أوربا التي زلزلتها غارات أمم الشمال". ومع هذا ردد كثير من الأوربيين الدعوى القائلة بأن حضارة العرب في القرون الوسطى لم تكن إلا ظل الحضارة اليونانية وأن العرب كانوا مجرد ناقلين أو حافظين لهذه الحضارة. وفي هذه الدعوى كثير من الزيف والخطأ والتعصب وقد رفضها المنصفون من علماء الأوربيين أنفسهم. وفي هذا القول يقول درابر DRAPER "ادعينا طويلا أن المسلمين لم يفعلوا شيئا أكثر من نقل علوم اليونان ونحن لا نستطيع أن نسير في مثل هذا النهج الغامض دون أن نتهم بالجهل والخطأ". وفي هذا يقول أيضا جورج سارتون SARTON أنه من سذاجة الأطفال أن نفترض أن العلم بدأ في بلاد الإغريق لأن المعجزة الإغريقية سبقتها آلاف الجهود العلمية في مصر وفي بلاد ما وراء النهرين وغيرها من البلاد، إن العلم اليوناني كان إحياء أكثر منه اختراعا وكفانا سوءا أننا أخفينا الأصول الشرقية المصرية والبابلية التي لم يكن التقدم الهليني ممكنا بدونها.
ويقول العالم الفرنسي سيديللو SIDILLOT الذي سبقت الإشارة إليه في كتابه
"تاريخ العرب العلام" إن العرب كانوا أساتذة أوربا في جميع فروع المعرفة. وقد حاول الأوربيون أن يقللوا من شأن العرب ولكن الحقيقة ناصعة وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد العرب عاجلا أو آجلا ما يستحقونه من عدل.
وعلى كل حال فإن دخول العلوم العقلية تمثل مرحلة جديدة في التربية الإسلامية مكنت الفكر الإسلامي من القيام بدوره في إثراء الفكر العالمي ودخلت هذه العلوم العقلية إلى منهاج التربية الإسلامية في مراكز التربية والتعليم المختلفة وفي مقدمتها المدارس.
2-
نشأة المدارس:
شهدت هذه الفترة ظهور المدارس ولم تكن معروفة من قبل ويقال إن نظام الملك هو أول من أنشأ المدارس في الإسلام فكان إنشاؤها يمثل قمة التربية المدرسية الإسلامية. وسنتناول الكلام بالتفصيل عن المدارس في كلامنا فيما بعد عن مراكز التعليم في الإسلام.
3-
ظهور الآراء التربوية المتميزة:
كان من أهم السمات التي تميزت بها التربية الإسلامية خلال هذه الفترة تصدي علماء المسلمين للكتابة عن موضوع التربية والتعليم كتابة مستفيضة تعكس اهتماما خاصا بها. وكان أول المؤلفين في هذا الموضوع، ابن سحنون في القرن الثالث الهجري والقابسي في القرن الرابع الهجري وغيرهم كثيرون ممن تناولوا الكلام في هذا الموضوع من أشهرهم ابن مسكويه والغزالي في القرن السادس الهجري وابن خلدون في القرن الثامن الهجري وألف برهان الدين الزرنوجي المتوفى عام 591هـ كتاب "تعليم المتعلم طريق التعلم" الذي ترجم إلى اللاتينية وحظى بشهرة كبيرة عند المسلمين. ويقول عنه الأهواني: إن قيمته ضئيلة الشأن لا تتعدى حجمه الصغير ويبرر ذلك بقوله إن صاحبه لم يأت بجديد وإنه كثيرا ما كان ينزل إلى مستوى العامة في الاعتقاد بأوهام لا تستند إلى أساس علمي "أحمد فؤاد الأهواني: ص210" وربما كان هذا الحكم قاسيا على الزرنوجي فهو لا يقف وحيدا في النقل عن السلف كما أن كتابه لا يخلو من قيمة تربوية وقد اعتبره إبراهيم سلامة واحدا من أهم كتابين في التربية ثانيهما هو
كتاب القابسي كما أن المتأخرين من دارسي الزرنوجي قد اعتبروا كتابه ذا أهمية تربوية ونفسية. ويتضح ذلك من آرائه التربوية التي أشرنا إلى بعضها في هذه الكتاب والتي تدل على سعة أفقه وعمق تفكيره إلى جانب خبرته وتجاربه.
ويلاحظ أن من ألف في التعليم من المتأخرين اعتمد بصورة أساسية على تلخيص آراء المتقدمين وأحيانا بدون ذكر المصادر التي أخذوا عنها. فالقابسي في رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين نقل كثيرا من آراء ابن سحنون أول من ألف في الموضوع "رسالة آداب المعلمين" والغزالي نقل عن ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق. والعجب أن ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق نقل عن بروسين وعن الإغريق. وشمس الدين الإنبابي في رسالته "رياضة الصبيان" نقل أيضا عن ابن مسكويه. وشيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري في كتابه "اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم" نقل عن الغزلي. وهكذا كان الخلف ينقل عن السلف. كما لم يجد علماء المسلمين حرجا في النقل عن الإغريق وفي مقدمتهم أرسطو الذي لقبوه بالمعلم الأول.
وسنتناول تفصيل الكلام عن بعض مشاهير علماء المسلمين الذين تحدثوا عن التربية والتعليم واهتموا بدراسة الموضوع دراسة تحليلية تفصيلية فيما بعد عند الكلام عن أعلام التربية في الإسلام.
الفصل الثامن: مركز التعليم الإسلامي
أولا: المساجد
…
الفصل الثامن: مركز التعليم الإسلامي
كان المسجد والكتاب من أهم مراكز التعليم الإسلامي في العصور الأولى. وعرفت المدارس فيما بعد وقامت بدور كبير في التعليم في البلاد الإسلامية. وإلى جوار هذه المراكز كانت هناك أيضا المكتبات ودور الحكمة وبلاط الخلفاء وحوانيت الوراقين والرباطات والبيمارستانات كمراكز تعليمية مع تفاوت نسبي في الأدوار بينها. وسنفصل الكلام عن هذه المراكز في الصفحات التالية:
أولا: المساجد
يميز المؤرخون في الإسلام بين نوعين من المساجد: المسجد الصغير وهو لقضاء الصلوات العادية، أما المسجد الجامع فهو مسجد كبير واسع الأركان تقام فيه الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة العيدين. وكان مركزا للحياة الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والقضائية.
وقد لعبت المساجد دورا تربويا هاما في أول الدعوة الإسلامية وكانت مركزا للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، وكانت تقوم بوظائف متعددة من أهمها:
1-
أنها كانت دورا للعبادة والصلاة.
2-
أنها كانت مراكز تربوية وثقافية هامة يعقد بها حلقات العلماء لدراسة القرآن الكريم والفقه واللغة كما كانت أماكن للفتوى.
3-
أنها كانت تستخدم أيضا كمعاهد لتعليم الناشئة أصول الدين واللغة والأدب.
4-
كانت مكانا للتقاضي يجتمع فيه القضاة للفصل في الشكاوى والخصومات.
5-
كانت مراكز لتصريف شئون الدولة قبل إنشاء الدواوين الحكومية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل السفراء في المساجد ويدير شئون الدولة فيها.
6-
كان المسجد مكانا إعلاميا هاما فيه تذاع الأخبار الهامة التي تتعلق
بالمصالح الهامة وفيه التجهيز للحروب والغزوات. ومن الأمثلة على ذلك أن عمر أعلن من على المنبر تقهقر جيوش المسلمين في العراق واستحث قومه على السير إلى هذه البلاد
…
وعلى المنبر أيضا وقف عثمان يدافع عن نفسه.
7-
كان الخليفة بعد مبايعته يصعد المنبر ويلقي خطبته الأولى مضمنا إياها سياسته في الحكم، كما كان يلقي خطبة على الناس أثناء خلافته أو التشاور معهم في الأمور الهامة التي تعنيهم كما كان يجلس فيه للفض في الخصومات بين الناس.
ومن أشهر المساجد والجوامع المعروفة: المسجد النبوي الشريف بالمدينة والجامع العتيق أو جامع عمرو "المؤسس سنة 21هـ في القاهرة" وجامع ابن طولون في القاهرة أيضا، ومسجد الكوفة "14هـ"، ومسجد البصرة "17هـ" الذي كان يضم حلقات الشعر والأدب والجدل، ومسجد دمشق ويعرف الآن بالمسجد الأموي "بني 19هـ" في تونس وجامع الزيتونة في تونس، ومسجد القرويين في فاس، وجامع قرطبة في الأندلس والجامع الكبير في صنعاء. والجامع الأزهري الذي بناه الفاطميون وسموه بالأزهر تيمنا بفاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم جدة الفاطميين. وكان كعبة لكل طلاب العلم من مشرق العالم الإسلامي لمغربه وكان في بدايته يدعو لمذهب الفاطميين وهو أساس إنشائه، ولكن كان يدرس فيه إلى جانب ذلك العلوم العقلية والنقلية بما فيها من فلسفة ومنطق وطب ورياضيات.
ويذكر ابن خلدون أن المساجد الكبرى العظيمة أو الجامعة هي التي كان يتولى شئونها الخلفاء أو الحكام فيعينون أئمتها وأهل العلم والفتوى والتدريس بها. أما المساجد الصغيرة فلم تكن تحظى بهذه الرعاية. ويفصل ابن خلدون القول فيقول: فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة، كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة، وأخرى دونها مختصة بقوم أو نحلة، وليست للصلوات العامة. فأما المساجد العظيمة، فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض
إليه، من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء، وتعيين ذلك إنما هو من طريق الأولى والاستحسان. ولئلا يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة وأما المساجد المختصة بقوم أو نحلة فأمرها راجع إلى الجيران، ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان.
وأما "الفتيا" فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس، ورد الفتيا إلى من هو أهل لها، وإعانته على ذلك ومع من ليس أهلا لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم، فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس، وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه والجلوس لذلك في المساجد، فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها والنظر في أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك وإن كانت من مساجد العامة، فلا يتوقف ذلك على إذن، على أنه ينبغي أن يكون لكل واحد من المفتين والمدرسين زاجر من نفسه، يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل فيدل به المستهدي ويضل به المسترشد "مقدمة ابن خلدون ص159".
المسجد كمركز تعليمي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من اتخذ المسجد مكانا للدعوة والتعليم ففي أول الأمر كان يتخذ من منزله ومن دار الأرقم بن أبي الأرقم مكانا لنشر الدعوة وبعد الهجرة كان إنشاء المساجد فانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم بنشاطه الديني والتعليمي إلى المسجد، وكان مسجد قباء أول المساجد التي بنيت في الإسلام وأنشئ بعده مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة. وتوالى بعدها إنشاء المساجد.
وكان التعليم في المساجد يقوم على تعليم أمور الدين وتذكير الناس بالآخرة. وكان التعليم في هذه الأمور يعتمد على الأسلوب القصصي ممتزجا بالعلوم والحكمة والموعظة، كما كانت تدرس أيضا العلوم الدينية من قرآن وتفسير وحديث.
وكان أصحاب المذاهب والملل والنحل المختلفة يجتمعون في المساجد ويلقون الدروس وفقا لمذاهبهم وأحيانا يحرم التدريس في المساجد على مذهب معين
كالشيعة مثلا. وكان أحيانا يحرم التدريس فيها. إلا من كان على مذهب أهل السنة. وقد اتسعت الدراسة بالمساجد وتنوعت فشملت علوم الكلام والفقه وكان يقوم بالتعليم بالمسجد أحد الشيوخ من يأنس في نفسه المقدرة على التعليم. وكان الشيخ يجلس على حصير أو بساط ووسادة أحيانا كان يجلس على كرسي مرتفع حتى يسمعه الحاضرون. وكان الطلاب يجلسون من حوله في حلقة تتفاوت في حجمها حسب مكانة الشيخ العلمية وحسب ظروف العمل للطلاب.
وكان الشيخ يفتتح الدرس بالبسملة والحمد لله والحوقلة والصلاة على النبي. وقد يتلو آيات من القرآن الكريم أو الحديث الشريف ما يتصل بطلب العلم وبحث عليه. ثم يبدأ في الكلام عن موضوع درسه وكانت الدروس تتنوع فمنها ما يهدف إلى التوعية العامة بأمور الدين وأصوله وأحكامه ومنها ما كان دروسا منظمة في علم من العلوم. وفي هذه الحالة كان الشيخ يستمد درسه من معلوماته أو من مذكرات كتبها لنفسه ويقوم بإملائها على تلاميذه. ومن أشهر الأمالي المعروفة أمالي أبي على القالي وأمالي سعيد بن الحداد وأمالي هبة الله بن طالب في ثلاثة أجزاء.
وكان الشيخ يقوم بالإملاء بتؤدة وتأن وبترتيب المسائل والأمور، ويقوم الطلاب بتسجيل ما يملى عليهم في كناشاتهم. وقد يقوم الشيخ بتملية النص ثم يكمل الشيخ أماليه كانت تعرض عليه أو يقوم الشرح على هامش النص. وعندما يكمل الشيخ أماليه كانت تعرض عليه أو يقوم الطلاب بقراءتها عليه لتصحيح ما قد يكون بها من أخطاء. ثم يوقع الشيخ على نسخة الطالب مجيزا إياه على روايته وتدريس هذه الأمالي من بعده. وكان للطالب أن يسأل أستاذه بتأدب للاستيضاح. وعليه أن يختار الوقت المناسب للسؤال وكان الأستاذ أحيانا هو الذي يوجه الأسئلة لاختيار فهم طلابه وكان يقوم بالإجابة على ما يصعب من الأشياء. وكان الشيخ ينهي درسه عادة بعبارة "والله أعلم ورسوله". ثم تتلى فاتحة الكتابة وبعدها يتقدم الطلاب بشكر الشيخ والترحم على والديه والدعاء له وقد يقومون بالسلام عليه وتقبيل يديه.
وكان الشيوخ والعلماء يقومون بالتعليم في المساجد احتسابا لوجه الله وتجنبا للعنة التي أوجبها الإسلام على من أخفى علمه عن الناس.
وكان الشيوخ يعيشون من التكسب من كد يمينهم وعلمهم كما كانوا يتلقون المساعدة والعطايا والهدايا من الملوك والأمراء والأعيان وأهل الخير من العامة. وكان الموسرون من الطلبة لا يبخلون بمالهم على مشايخهم كما كان المشايخ يقبلون الهدايا من طلابهم.
وفي تقويم إجمالي للمسجد كمركز تعليمي يمكن القول بأن العلماء المسلمين في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة في غرب أوربا إلى سمرقند في وسط آسيا لم يكونوا في عددهم أقل من عدد ما فيها من الأعمدة. وكانت إيواناتها تردد أصداء علمهم وفكرهم.
ثانيا: الكتاب
هدف الكتاب
…
ثانيا: الكتاب
يقول ابن منظور في كتابه لسان العرب "الكتاب" موضع تعليم الكتاب أي الكتابة. وكان الكتاب أحد مراكز التعليم في الإسلام. ويقال إنه عرف في بلاد العرب قبل الإسلام على نطاق ضيق محدود. وقد يطلق على الكتاب أحيانا اسم "مكتب". وكان الكتاب عبارة عن مكان مستقل أو غرفة في منزل أو حجرة مجاورة للمسجد أو ملحقة به أو خيمة من جملة خيام الحي في البداية "خيمة المؤدب" كما كان يعرف في تونس في شمال إفريقيا. واختلف حجم الكتاب من حجرة صغيرة إلى مكان واسع يتسع لأعداد كبيرة من التلاميذ. فقد روى ابن خلدون أن كتاب أبي قاسم البلخي كان به ثلاثة آلاف تلميذ وكان فسيحا جدا لدرجة أن البلخي كان يركب حمارا ليمر به على التلاميذ، ويشرف على تعليمهم. وقد انتشرت الكتاتيب منذ القرن الأول الهجري في الأمصار الإسلامية ويروى أن الكتاتيب أنشئت في مدينة القيروان منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري.
هدف الكتاب:
كان الهدف الأساسي من الكتاب تحفيظ القرآن الكريم وتعليم القرآن والكتابة لأن حفظ القرآن لا يسهل إلا بتعليمها. وكان يشترط في تعليم القرآن حسن الترتيل وجودة قراءته. ولما كانت معرفة القرآن معرفة صحيحة تستلزم الإلمام بقواعد الإعراب كان معلم الكتاب يعلم تلاميذه عبارات النحو واللغة وكان يدرس أحيانا الحساب وأيام العرب وتواريخها. وكان الكتاب يمثل بداية مراحل التعليم ينتقل منه الصبي إلى إكمال تعليمه في المسجد حيث يتوسع في طلب العلم.
الدراسة في الكتاب:
كانت الدراسة في الكتاب عادة تمتد من يوم السبت إلى الخميس باستثناء يوم الجمعة والنصف الثاني من يوم الخميس. وكان الصبيان يبدءون يومهم المدرسي بحفظ القرآن عندما يكونون مكتملي النشاط، ويستمر ذلك إلى الضحى ثم ينقلون بعد ذلك إلى تعلم الكتاب حتى الظهر. ثم ينصرف التلاميذ إلى بيوتهم. وكان في بعض الكتاتيب فترة في المساء يدرس فيها الصبيان النحو والحساب وأيام العرب وتاريخهم. وكان يوم الخميس يخصص عادة للمراجعة، كما كانت الدراسة تعطل بمناسبة الأعياد. وكان التلاميذ يذهبون إلى الكتاب في الصباح الباكر فيجدون معلمهم جالسا في المكان المخصص له فيجلسون من حوله على اليمين واليسار قعودا على الحصير المصنوعة من السمار أو نبات الحلفاء، وقد كان ذلك هو الأثاث المتواضع الشائع للكتاب. وكان كل منهم يضع في حجره لوحه المصنوع من الخشب المصقول أو الصقيع وعلى اللوح ما كتبه بالأمس فيشرع كل منهم في الحفظ وتتصاعد أصواتهم متشابكة مختلفة لاختلاف ما يقرؤه كل منهم بعد الآخر لتفاوت مستوياتهم. ويقوم معلم الكتاب بالاستماع إلى كل واحد منهم بعد الآخر للتأكد من حفظهم لما كتبوه على الألواح يقوم بعدها الصبي بمسح اللوح بوضعه في إناء به ماء طاهر ثم يجففه. وفي بداية تعلم الصبي للكتابة كان المعلم يقوم بإملاء آية أو آيات من القرآن على كل واحد يطالبه بكتابتها ثم ينتقل إلى صبي ثان ثم ثالث وهكذا. ثم يعود إلى الصبي الأول ليراجع له كتابه. أما كبار التلاميذ فكانوا يقومون بنسخ كتابتهم على الألواح من المصحف مباشرة وكان المعلم يستعين بهؤلاء التلاميذ الكبار كعرفاء يساعدونه في تعليم المبتدئين. ولكل تلميذ لوح ودواة وقلم متواضع من القش أو القصب ومصحف في بعض الأحيان.
وكان الصبي تتم دراسته في الكتاب عادة بحفظ القرآن كله وهو ما يسمى "بالختمة" أي أن الصبي يختم القرآن كله. وكانت تعتبر مناسبة سعيدة قد تشهد احتفالا متواضعا. وقد تعطل الدراسة يوما أو يومين احتفاء بهذه المناسبة وأحيانا كثيرة كان الصبي يكتفي وفقا لقدرته بحفظ نصف القرآن أو ثلثه أو ما تيسر له منه.
نقد طريقة التعليم بالكتاب:
عرض ابن خلدون لاختلاف الأمصار الإسلامية في تعليم الولدان وكانت هذه الأمصار تختلف فيما بينهما من حيث المواد التي تمزجها مع تعليم القرآن وتحفيظه كله أو جزئه وهو ما يمثل البرنامج الإجباري الرئيسي للكتاب.
ويورد ابن خلدون طريقة أبي بكر بن العربي الأندلسي التي تقوم على إرجاء تعليم القرآن والبدء بتعليم العربية والشعر والحساب حتى يسهل على الطفل بعد ذلك فهم القرآن وحفظه، ومع أن ابن خلدون استحسن هذه الطريقة إلا أنه يقول: إن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال.
كما انتقد ابن خلدون طريقة التلقين التي كانت سائدة في التعليم وفضل عليها طريقة المحاورة والمناظرة، وقد عرضنا لتفصيل ذلك عند الكلام عن آراء ابن خلدون. وبالرغم من هذه الانتقادات فلا يمكن أن ننكر الدور الهام الذي لعبه الكتاب في الحياة الثقافية والفكرية. وكان القاعدة العريضة التي تعلم فيه كثير من علمائنا النابهين.
معلم الكتاب:
مقدمة: خضع معلمو الكتاب لكثير من السخرية والتهكم في الكتابات العربية القديمة وانتشرت عنهم الأمثلة التي تحقر من شأنهم واتهامهم بالحمق والسخف وغيرها من النقائص. وهناك من دافع عنهم مثل الجاحظ كما سبق وأن أشرنا. وهناك من ألهبهم بلسان من نار مثل ابن حوقل في وصفه لمعلمي كتاتيب صقلية "صورة الأرض ص120".
شروط معلم الكتاب:
كان من أهم الشروط التي ينبغي توافرها في المعلم أن يكون حافظا للقرآن الكريم عالما بأمور الدين وعارفا بالقراءة والكتابة والنحو، ولا بأس من إلمامه بفنون المعرفة الأخرى كالحساب واللغة والأدب. وإلى جانب هذه الشرط الرئيسي هناك أيضا شروط دينية وخلقية منها أن يكون المعلم تقيا ورعا قائما بفروض دينه مشهودا له بالخلق الكريم.
أخلاقيات معلم الكتاب:
هناك كثير من الكتابات التي تناولت أخلاقيات المعلم بصفة عامة ومنها معلم الكتاب. فمن الناحية الخلقية يجب أن يكون معلم الكتاب رفيقا بالصبيان رحيما بهم وأن يسوي في المعاملة بينهم وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "أيما مؤدب ولي ثلاثة من صبية هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائنين".
وكان المعلم يتخذ معه عريفا يساعده إذا زاد عدد التلاميذ. واشترط فيه أن يكون قد حفظ القرآن وهو مستغن عن التعليم. وكان المعلم يلتزم بالوقار مع صبيانه فلا يتبسط في الأمور معهم فيتجرءون عليه، وكان عليه أن يحسن رعاية تلاميذه لأنه راعٍ لتلاميذه وهو مسئول عن رعيته ولا يجوز للمعلم أن يسخر تلاميذه لخدمته أو قضاء حوائجه.
مكان التعليم:
وكان المعلم هو الذي يقوم بتأجير الكتاب وتأثيثه، وفي بعض الأحيان كان آباء الصبيان يتعاونون في تأجير المكان للمعلم. وكان الكتاب يضم معلما واحد، وفي بعض الأحيان كان يضم أكثر من معلم. وقد ذكر ابن حوقل أنه رأى في مدينة "بالرمو" بصقلية كتابا واحدا يقوم بالعمل فيه خمسة معلمين. ويرجع ذلك إلى إعفاء المعلمين من الجهاد ففزع كثير من الرجال إلى هذه المهنة وحسنه لديهم جهلهم فرارا من الجهاد وشرفه والغزو وعزه. وذلك أن بلدهم ثغر من ثغور الروم وناحية تحاد العدو والجهاد فيهم لم يزل قائما "ابن حوقل ص120".
الدرة والفلقة:
كانت الدرة والفلقة من عدة المعلم يستخدمها في عقاب المقصرين من تلاميذه. ولكن الضرب بالدرة والفلقة كان لا يستخدم عادة إلا إذا فشل النصح، والتقريع بالكلام غير البذيء أو الجارح. وكان الضرب عادة بعيدا عن العنف والقسوة وفي أماكن من الجسم لا يترتب عليها إلحاق ضرر بالطفل، وعادة ما يكون الضرب على الرجلين في حدود ضربة واحدة إلى ثلاث.
أجر معلم الكتاب:
سبق أن أشرنا إلى أجور المعلمين وبالنسبة لمعلمي الكتاب هنا نقول: إنه كان يتقاضى أجرا عن التعليم إما شهريا أو سنويا وذلك بالاتفاق مع آباء التلاميذ وأحيانا يترك تحديد الأجر بما تجود به همتهم.
وقد قال معظم فقهاء المسلمين يجوز أخذ المعلم أجرا على التعليم على الرغم من أن بعضهم ومن بينهم الغزالي والماوردي استقبح ذلك. وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.
ثالثا: المدارس
مدخل
…
ثالثا: المدارس:
كان طالب العلم قبل ظهور المدارس يسعى إليه بالسفر والارتحال في طلبه على يد الشيخ الذي يريده. وكان يبذل الجهد والمال في طلب المشهورين أو المرموقين من الشيوخ. وكانت المساجد أماكن للدرس والتدريس للشيوخ والعلماء يفد إليهم الطلاب من كل صوب وحدب. وفي أواخر القرن الرابع وبداية الخامس الهجري بدأ ظهور المدارس، وبدأ الملوك والأمراء في إنشاء المدارس. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة "إن إنشاء المدارس في الإسلام ابتدأ في أواخر القرن الرابع الهجري. وكان يقوم بإنشائها بعض الأمراء وبعض الملوك إذاعة لنفوذهم أو خدمة لدينهم أو نشرا للنور والمعرفة بين شعوبهم. وكانوا يجمعون العلماء في هذه المدارس، فصار طالب العلم لا ينتقل إلى العلم فقد انتقل إليه العلم وصار لا يبحث عن شيخه فقد جاء الشيخ إليه
…
كما أن بعض العلماء الذين أوتوا بعض اليسار كانوا يقومون بإنشاء المدارس مثل مدرسة بني قدامة بالشام "محمد
أبو زهرة 1977: 155-156" وكان يوجد أحيانا مدرسة تختص بفرع واحد من فروع العلوم الإسلامية لا سيما الفقه والحديث.
ومن أوائل المدارس وجودا مدرسة أبي علي الحسيني المتوفى سنة 393هـ بخراسان وكانت لتعليم الحديث وكان بها ما يقرب من ألف طالب. وكان هناك مدرسة ابن فورك المتوفى سنة 406هـ بخراسان أيضا؛ ومدرسة أبو حاتم البستي المتوفى سنة 420هـ. ويعقب الشيخ محمد أبو زهرة على ذلك بقوله: "وترى من هذا أن فارس وخراسان سبقا البلاد الإسلامية "الأخرى" بإنشاء المدارس". "محمد أبو زهرة 1977: 156-157".
بيد أن بعض الباحثين منهم جرجي زيدان "ج3 ص225" يرى أن نظام الملك الوزير السلجوقي الفارسي هو أول من بنى المدارس في الإسلام في القرن الخامس الهجري واشتهر بها. وكان أشهر هذه المدارس النظامية في بغداد. مع أنه أنشأ مدارس نظامية أخرى في البصرة والموصل وبلخ وأصفهان ونيسابور وهراة ومرو. وكانت نظامية بغداد قد تولى بناءها سعيد الصوفي عام 457هـ على شاطئ نهر دجلة وكتب عليها اسم نظام الملك. وبنى حولها أسواقا تكون محبسة عليها وابتاع ضياعات وخانات وحمامات وقفها عليها "جرجي زيدان: 220". وكان لهذه المدرسة شأن كبير في العالم الإسلامي. فقد تخرج منها جماعة من رجال العلم طار ذكرهم في الآفاق. أول أساتذتها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ثم الإمام أبو نصر الصباغ ثم أبو القاسم الدبوسي وأبو حامد الغزالي والشاشي والهراسي والسهروردي وكمال الدين الأنباري وغيرهم من أقطاب العلم" "المرجع السابق".
ويقول "السبكي" في "طبقات الشافعية: إنه ليس صحيحا أن نظام الملك هو أول من بنى المدارس في الإسلام فقد وجد في نيسابور مدارس قبل المدارس النظامية منها المدرسة السعدية التي أنشأها نصر بن سبكتكين حاكم نيسابور والمدرسة البيهقية التي بناها الشيخ أحمد البيهقي في نيسابور أيضا. ويتفق كل من المقريزي والسيوطي مع السبكي في هذه الرأي. وهو رأي مخالف لما ذهب إليه جرجي زيدان.
وبعد نظام الملك جاء محمود نور الدين زنكي فأنشأ مدرسة دمشق للحديث وحبس عليها أحباسا كثيرة. وبنى مدارس أخرى في حلب وحمص وغيرها من بلاد الشام. ثم جاء صلاح الدين فأكثر من إنشاء المدارس بمصر والشام وكان يحضر بعض الدروس فيها. وقد وضع لها نظما ثابتة مقررة "محمد أبو زهرة 1977: 158". فنظم أجر المعلم وجعله أربعين دينارا، وأجر المعيد عشرون دينارا، كما كان يصرف للمعلم كل يوم ستون رطلا من العيش عدا الكعك واللحم في عيدي الفطر والأضحى وكان يطلق على أجر المعلمين وغيرهم في أيام المماليك جامكية "جمع جوامك". وكانت أول مدرسة نظامية في القاهرة في عهد الأيوبيين المدرسة الناصرية التي بناها السلطان العادل زين الدين كتبغا المنصوري وأتمها السلطان محمد بن قلاون سنة 703هـ. وقد وصفها المقريزي في خططه بأنها من أجمل مباني القاهرة وبأنها من أعجب ما صنعته يد بشر. وهكذا ازدهرت المدارس في عهد الأيوبيين. ثم جاء المماليك فساروا على سنة الأيوبيين في عنايتهم بإنشاء المدارس والإنفاق عليها ورصد الأموال لها.
وعمت حركة إنشاء المدارس كل العالم الإسلامي. ويذكر المؤرخون أنه كان في الصالحية وهي أحد أحياء دمشق قرابة 360 مدرسة لتعليم مختلف العلوم من مختلف التخصصات التي كان لها شأن. فكانت هذه المدارس داخله في نطاق الأوقاف الإسلامية يضاف إليها المستشفيات، والبيمارستات والملاجئ التي يأوي إليها ذوو العاهات وأصحاب الحاجات. وكانت هذه المنشآت التعليمية والخيرية أحسن حالا وأكثر متانة ورونقا من قصور الأثرياء وذوي الجاه والسلطان آنذاك. وشملت النهضة أيضا شمال إفريقيا ومن أشهر المدارس هناك مدرسة القيروان السنية وفي مصر يذكر المقريزي أنه كان في القاهرة وحدها 13 مدرسة.
وأما في الأندلس فيستفاد مما ذكره المقري صاحب نفح الطيب "ج1 ص104" أنها لم تعرف المدارس بالصورة التي كانت عليها في الشرق وإنما اعتمدت على المساجد كمراكز للتعليم. يقول المقري: "وليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم يقرءون جميع العلوم في المساجد بأجرة".
أسباب إنشاء المدارس:
يقول جرجي زيدان "ج3 ص225""ومن الأسباب التي كانت تحمل الأمراء غير العرب على إنشار المدارس والمساجد -غير التماس الأجر والثواب- أنهم كانوا ينشئون في بلاط السلطان ويغلب أن يكونوا من صنائعه أو مواليه فيكون له عليهم حق الولاء أو الرق. فإذا توفي أحدهم عن مال أو ضياع وأراد السلطان قبضها فعل وحرم أبناءه منها. فكان الرجل منهم إذا بلغ الإمارة وكثر ماله خاف عادية السلطان على ما يخلفه من ذريته فيبني المدارس أو الزوايا أو الربط. ويقف عليها الأوقاف المغلة من ضياعه أو أبنيته. ويجعل في شروط الأوقاف أن يتولاها بعض ولده وله نصيب منها. والأوقاف ثابته فيأمن بذلك على أولاده الفقر".
وهو يشير إلى سبب آخر لإنشاء المدارس هو ترويج وتأييد المذهب الذي يتبعه السلطان أو الأمير ويضرب مثلا لذلك بالقاهرة التي كانت شيعية منذ بنيت وكان إنشاء الجامع الأزهر لترويج هذا المذهب. وكانت الدروس التي تلقى فيه على هذا المذهب. فلما تولاهم صلاح الدين الأيوبي أبطل هذا المذهب وأحيا المذهبيين المالكي والشافعي. فأنشأ المدارس لتعليم هذين المذهبيين. فبنى المدرسة الناصرية سنة 566هـ للمذهب الشافعي. وهي أول مدرسة بمصر. واقتدى به من جاء بعده من الأكراد والأتراك "المرجع السابق". ويقول الشيخ محمد أبو زهرة "كانت المساجد أماكن الدرس لأكابر العلماء حتى إذا جاء القرن الخامس أخذ الملوك والأمراء ينشئون المدارس إذاعة لنفوذهم أو خدمة لدينهم أو نشرا لنور المعرفة بين شعوبهم "محمد أبو زهرة 1977 ص156". وهنا نجد أنه يضيف سببين جديدين لإنشاء المدارس، وبالإضافة إلى ما سبق أن أشار إليه جورجي زيدان.
نمط المدرسة الإسلامية الأولى:
يروى أن المدارس الإسلامية الأولى بنيت على الطراز المعماري للمساجد ولم يكن يميز المدرسة عن المسجد إلا وجود الإيوان وهو قاعة الدرس بالإضافة إلى أماكن إقامة المعلمين والطلاب وما يتطلبه ذلك من مرافق خاصة. وربما يرجع ذلك إلى تداخل وظيفة المدرسة أول ظهورها بوظيفة المسجد. فقد كان يعين للمدارس مؤذنون ويقام فيها منابر للخطابة. وأقيمت فيها الصلاة كالمسجد، كما استخدمت في بعض الأغراض الأخرى للمسجد كمركز للتقاضي وفض المظالم.
وكانت المدرسة تتكون عادة من صحن أو فناء ومن إيوانات تحيط بها عليها قباب وكانت تلحق بها مكتبة. وكان برنامج الدراسة يتضمن موادا أساسية هي علوم الدين والعلوم الفرعية وهي الحساب والتاريخ والأدب.
وقد تعرض ابن بطوطة في رحلته المشهورة المسماة "تحفة المنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" إلى إشارات عن المدارس والتعليم في البلاد التي زارها. ووصف ابن بطوطة المدرسة المستنصرية التي بناها أمير المؤمنين العباسي المستنصر بالله في بغداد عام 631هـ "1234م" وكانت أشبه بمدينة فيها أربعة أروقة يختص كل منها بمذهب خاص من مذاهب السنة وكان عدد طلابها ثلاثمائة موزعين على هذه الأروقة. وكان الطلاب يقيمون إقامة داخلية بالمدرسة. وكانت إقامتهم وتعليمهم بالمجان كما كان الطالب يعطى دينارا من الذهب في الشهر. وعندما زارها ابن بطوطة كان يدرس بها المذاهب الأربعة فيقول في وصفها: "لكل مذهب إيوان فيه المسجد وموضع التدريس وجلوس المدرس في قبة خشب صغيرة على كرسي عليه البسط ويقعد المدرس وعليه السكينة والوقار لابسا ثياب السواد معتما وعلى يمينه ويساره معيدان يعيدان كل ما يمليه. وهكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة وفي داخل هذه المدرسة حمام لطلبة ودار الوضوء. ووصف جامع دمشق المعروف بجامع بني أميه وعرض باختصار لمدرسيه ومعلميه ووصف طرقهم في التعليم وأشهر المدرسين به. وذكر أيضا مدارس الشافعية بدمشق كالعادلية والظاهرية وإن كانت مجرد إشارة إلى الأسماء فقط دون التعرض بالتفصيل لوصفها. وذكر بعض علماء مصر والإسكندرية وذكر أن مدارسها يعييها الحصر لكثرتها. وابن جبير الرحالة العربي المشهور في القرن الثاني عشر وصف مدارس بغداد وعد منها ثلاثين مدرسة وأهمها المدرسة النظامية التي أنشئت 457هـ "1065م" وتم بناؤها في عامين. وكان التلاميذ يتلقون العلم بالمجان كما كانوا يحصلون على الطعام والعناية الطبية ويأخذ كل منهم دينارا من الذهب كل شهر لنفقاته كما أشرنا سلفا. ويرجح أن النساء كن أيضا يذهبن إلى المدارس في بعض الأحوال ذلك لأننا سمعنا عن اشتغال النساء بالتدريس "جلال مظهر: 267".
طريقة التعليم:
كانت طريقة التعليم في هذه المدارس تختلف باختلاف الأماكن فكانت هناك الطريقة القيروانية والقرطبية والبغدادية والمصرية. وقد كتب ابن خلدون في مقدمته فصلا ممتعا عن تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه يقول فيه: "فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف جملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر.. وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتابة ولا يختص عنايتهم بالقرآن دون غيره بل عنايتهم بها من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة.
وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسه قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبعا لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن كذلك على ما يبلغنا ولا أدري أهل الأندلس. وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم وصف العلم وقوانينه في زمن التشبيبة. ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر على الإجادة".
مناقب ومثالب:
ترتب على إنشاء المدارس نتائج متباينة تتراوح بين النعمة والنقمة. فمن الناحية الأولى عملت المدارس على انتشار العلم وكثرة المشتغلين به من علماء ومتعلمين. كما ساعدت على كثرة التأليف في العلوم المختلفة بل وظهور الموسوعات العلمية التي ألفها كبار الشيوخ والعلماء سواء في العلوم النقلية أو العلوم العقلية. يضاف إلى ذلك أن المدارس بما جمعته من شيوخ وعلماء وطلاب علم أصبحت بوتقة علمية ينصهر فيها عقول العلماء وطلاب العلم يتلاحقون في فكرهم ويشحذون عقولهم وتفكيرهم.
أما من الناحية الثانية فنقتبس ما يقوله الشيخ محمد أبو زهرة من أن إنشاء المدارس مع أنه أدى إلى نشر العلم وكثرة تحصيله قد أدى إلى التعصب الفكري وكثرة الأتباع، وقلة التفكير الحر المستقل الذي ينظر إلى الدليل وما يوصل إليه البرهان من غير تقليد أو اتباع. وإن تساهلنا وقلنا إن ذلك التحيز الفكري قد اقترن بإنشاء المدارس فإنه لا بد أن ذلك كان بعض أسبابه وإن لم يكن كلها. "محمد أبو زهرة 1977: 157". ويضيف الشيخ محمد أبو زهرة نتيجة سلبية أخرى لإنشاء المدارس هي أن المخلصين وغير المخلص ويطلبه ذوو الأدب وذوو الدين ويطلبه العلية ويطلبه السفلة. حتى ليروى أن علماء ما وراء النهر عندما علموا بإنشاء المدارس وجلب العلماء لها أقاموا مأتما للعلم لأنهم حسبوا ذلك يؤدي إلى ضياعه وفساد الأمر "المرجع السابق".
رابعا: المكتبات
لم يكن للمكتبات شأن كبير في العصر الأموي ولكنها انتشرت في العصر العباسي مع انتشار استخدام الورق في نسخ الكتب وظهور كثير من الوارقين وانتشار حلقات الأدباء والعلماء.
كان استخدام الورق في الكتابة معروفا في البلاد الإسلامية منذ القرن الثامن الهجري ويقال إنه نقل عن بلاد الصين التي عرفت الورق في وقت مبكر وكان للمسلمين فضل إدخاله إلى أوربا إذ كانت الأندلس أول من عرف الورق من البلاد العربية في منتصف القرن العاشر الميلادي، في حين لم تعرفه ألمانيا إلا في النصف الأول من القرن الثالث عشر وإنجلترا في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي.
وقد أنشئ أول مصنع للورق في البلاد الإسلامية في بغداد عام 794م على يد الفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد وكان من الطبيعي أن يسهل ذلك تأليف الكتب وتداولها. وقد حرص المسلمون على اقتناء الكتب تقديرا منهم لقيمة العلم ولم يبخلوا بالأموال في شراء الكتب النفيسة القيمة يجلبونها من كل البلاد.
وصارت المكتبات من أهم مراكز التربية والثقافة الإسلامية وكانت هناك مكتبات عامة في المدن تقام لها أبنية خاصة أو تلحق بالمساجد والمدارس والرباطات والبيمارستانات. وكانت هذه المكتبات مفتوحة لراغبي العلم يجلسون في الأروقة المخصصة للاطلاع فقد كانت هناك حجرات خاصة لرواد المكتبة، وحجرات خاصة للنساخ يقومون فيها بنسخ الكتب. وكان أثاث المكتبات العامة متواضعا بسيطا إذ كانت تفرش أرضها بالبسط أو الحصر يجلس عليها القراء كما كان بالمكتبة خزانات وفهارس لها.
وكان يشرف على المكتبة خازن كان عادة من رجال العلم والأدب وكان هناك النساخ والمجلدون والمترجمون والخدم الذين يقومون بخدمة القراء.
ومن أشهر المكتبات العامة مكتبة بيت الحكمة في بغداد التي بناها هارون الرشيد وبيت الحكمة في رقادة بشمال إفريقيا ودار الحكمة في القاهرة التي بناها الحاكم بأمر الله الفاطمي، وسيأتي تفصيل الكلام عنها. وكانت هناك مكتبة الموصل التي أسسها بعض محبي الخير سنة 950م وكان الطلبة يتزودون فيها بالورق والكتب. ومكتبة الري كانت تضم عددا كبيرا من الكتب لدرجة أن فهارس كتبها وصلت إلى عشرة أجزاء، ومكتبة البصرة التي كانت تمنح معاشات شهرية للعلماء المشتغلين فيها، ومكتبة مرو وخوارزم التي يروى أن ياقوت الجغرافي الحموي قضى ثلاث سنوات فيها يجمع معلومات لمعجم بلدانه. وكانت توجد في معظم المدن دور عامة للكتب مفتوحة لطلاب العلم. وكانت هذه المكتبات تعطي رواتب وإعانات لمن يشتغلون فيها من الطلاب.
وعندما قوض المغول بغداد كان يوجد بها 36 مكتبة عامة، وكانت هناك أيضا مكتبة القيروان بشمال إفريقيا التي كانت ملحقة بجامع القيروان وكان لها نفس نظام المكتبات في الشرق إلا أن أدوات الكتابة كان يصنع أغلبها بمدينة القيروان فكانوا يكتبون على جلود الخرفان المصقولة، أو على ورق البردي المجلوب من الإسكندرية، وفيما بعد يصنع الورق من خرق القماش البالي. وكانت النساء تقوم بصنعه وتغطيته بطبقة من الغراء لتزيد تماسكه وصقله. وكان الحبر يصنع من الصمغ أو المواد الكيميائية، وكانت المحابر تصنع من الخزف، أو من الزجاج أو النحاس وكانت الكتابة أحيانا بالرمل الناعم الملون.
وكانت توجد في معظم المساجد مكتبات عامة كما كانت هناك مكتبات خاصة يبنيها الأمراء في قصورهم أو العلماء في بيوتهم. وكانت هذه المكتبات ضخمة جدا لدرجة أنه يروى أن الصاحب بن عباد في القرن العاشر كانت تضم مكتبته من الكتب ما يوازي كل الكتب التي كانت تضمها مكتبات أوربا مجتمعة في ذلك الوقت. كما يروى أيضا أن أحد أطباء العيون العرب رفض دعوة سلطان بخارى للإقامة ببلاطه لأنه يحتاج إلى 400 بعير لنقل مكتبته، وعندما مات الواقدي ترك وراءه ستمائه صندوق مملوءة بالكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لنقله. وهذا يدل على مدى اهتمام المسلمين باقتناء الكتب وجمعها وأحيانا ما كانوا هم أنفسهم يقومون باستنساخها وكانت المكتبات في هذه الفترة مما لا يحصى ولا يعد.
وقد زخرت مكتبة قرطبة التي أنشأها الحاكم المستنصر في مقره بقرطبة في منتصف القرن الرابع الهجري، وكانت تضم بين خزائنها 400 ألف مجلد في وقت لم تعرف فيه الطباعة، وكانت تحتوي على 14 مجلدا للفهارس، وكانت تضم الباحثين والعلماء الذين كانوا يعملون لحساب الخليفة الأموي في الأندلس وانتشروا في جميع أنحاء العالم الإسلامي لجلب الكتب والمؤلفات وكان بها عدد كبير من الناسخين والمجلدين والمزخرفين.
خامسا: دور الحكمة
بيت الحكمة في بغداد
…
خامسا: دور الحكمة:
شهد تطور الحركة الفكرية والثقافية في العصر العباسي ميلاد دور الحكمة التي كانت تعتبر مظهر لما وصل إليه الرقي الفكري، كما أن اسمها يعكس مدى الاحترام الشديد للعلم باعتباره مفتاح الحكمة.
ويمكن القول مما يورده المؤرخون عن دور الحكمة: إنها كانت مركزا علميا للبحث والدراسة؛ ولذا نجد بعض الكتابات تطلق عليها اسم الجامعة ولها من الجامعة وظيفة البحث والدراسة. فمدرسة الإسكندرية التي كانت الحاضرة الثقافية والفكرية للعصر الهليني بعد أثينا أخذت شهرتها ومكانتها من مكتبتها ومتحفها.
وما نريد أن نخلص إليه هنا أن دور الحكمة كانت مركزا للدراسة والبحث يقوم العلماء ومحبو العلم بالوفود إليها ليجدوا في مكتبتها غايتهم، كما كانت تدرس في بعضها العلوم وكان يلحق ببعضها مساكن لإقامة الطلاب وكان يصرف لهم الغذاء والكساء.
وأهم دور الحكمة المعروفة بيت الحكمة في بغداد وبيت الحكمة في رقادة بشمال إفريقيا ودار الحكمة في القاهرة، وسنفصل الكلام عن كل واحدة منها في السطور التالية:
أ- بيت الحكمة في بغداد:
وقد أسسها هارون الرشيد وجمع فيها الكتب المؤلفة والمترجمة وجعلها مركزا للترجمة والنقل، وكان لها مدير يشرف على شئونها يسميه المؤرخون العرب صاحب بيت الحكمة
…
وتوسع المأمون فيها وألحق بها عددا كبيرا من أشهر علماء عصره ومترجميه وأصبحت مركزا للترجمة والنسخ والمطالعة والتأليف، فكان يجتمع فيها القراء والمؤلفون للاطلاع على المصادر التي يريدون مراجعتها، ويجتمع فيها المترجمون للترجمة وبين أيديهم الكتاب الحذاق يكتبون ما يملون عليهم والنساخ في أماكن خاصة بهم ينسخون لأنفسهم أو لغيرهم بالأجر. وكانت بيوت الحكمة أكبر خزائن الكتب في العصر العباسي فظلت قائمة حتى هدم المغول بغداد سنة 656هـ، ورموا بكل ما فيها من الكتب في نهري دجلة والفرات.
ب-
بيت الحكمة في رقادة:
بناه الأمراء الأغالبة بمدينة رقادة، بشمال إفريقية. وأرادوا له أن يكون على غرار بيت الحكمة الذي أسسه العباسيون في بغداد. وينسب بناء بيت الحكمة إلى إبراهيم الثاني الأغلبي الذي اشتهر بولعه الشديد بحب العلوم والحكمة، وهو الذي أنشأ أيضا مدينة رقادة سنة 264هـ، 878م.
ومن المرجح أن بيت الحكمة كان ملحقا بقصر رقادة، وكان يضم مجالس أو غرفا كثيرة بعضها للمكتبة وبعضها للنسخ وبعضها للدرس والمناقشة والمناظرة وبعضها للرصد. وكانت هذه الغرف مفروشة بالحصر واللباد والبسط القيروانية الشهيرة. وكان للأمير فيه سرير يجلس عليه ليشرف فيه على المناقشات أو المناظرات التي كانت تدور بين العلماء في حضرته. وكان محبو العلم والطلاب يفدون أيضا إلى بيت الحكمة للاطلاع ونسخ الكتب، وكان من يتولى الإشراف على بيت الحكمة يسمى "صاحب بيت الحكمة" كما أشرنا، وكان أبو اليسر إبراهيم الشيباني البغدادي تلميذ الجاحظ أول من تولى هذا المنصب وكان إلى جانب هذا يقوم بتدريس الأدب في بيت الحكمة. وكان الأمراء الأغالبة يوفدون في كل عام سفارة إلى البلاط العباسي لتجديد العهد ودفع الخرج السنوي، وكانوا يكلفون رئيس الوفد بأن يشتري لهم أنفس الكتب المؤلفة والمترجمة، وأن يجلب إلى رقادة فطاحل علماء العصر. وهكذا وجدت في بيت الحكمة مصنفات في جميع العلوم والفنون ومن مختلف الملل والنحل. كما وجد علماء أجلاء من مختلف أقطار العالم الإسلامي.
ولما انقرضت دولة بني الأغلب سنة 296هـ آل بيت الحكمة إلى بني عبيد الفاطميين الذين انتزعوا الملك منهم. وبهذا أصبح بيت الحكمة مركز إشعاع للدعوة الفاطمية الإسماعيلية، وعندما أنشأ عبد الله المهدي الفاطمي مدينة المهدية سنة 308هـ بتونس نقل إليها بيت الحكمة بما كان فيها من أثاث ونفائس وكتب وأدوات وآلات الرصد فأفل نجم رقادة إلى الأبد وتعطلت الرسالة الثقافية لبيت الحكمة وتحولت إلى حركة إسماعيلية، وبعد أن شع بعلومه وثقافته طيلة أربعين عاما. ولما انتقل الفاطميون إلى القاهرة حملوا معهم ما تجمع لديهم من الكنوز والنفائس العلمية وهكذا كانت مكتبة بيت الحكمة في رقادة النواة الأولى لمكتبة دار الحكمة التي بناها الفاطميون في مصر، كما كانت بيت الحكمة في القيروان نواة المدرسة الطبية القيروانية الشهيرة التي انتشر تأثيرها طيلة ثلاثة قرون متتالية.
ج-
دار الحكمة بالقاهرة:
أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 395هـ وقد كانت كما أرادها أروع من نظيرتها في بغداد. ويؤكد ذلك وصف المقريزي لها بأنها كانت من عجائب الدنيا "المقريزي ص255" ولم يكن لها نظير في الأمصار الإسلامية كما أنها حوت عددا من الكتب يزيد على المليون ونصف المليون وضمت النفيس النادر من المخطوطات في العلوم والآداب المختلفة، ويروى أنها كانت تضم ستة آلاف كتاب في الطب وحده. وكان في هذه المكتبة خريطة جغرافية دقيقة مرسومة على الحرير وصورة لأقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها.
وقد أنفق عليها الحاكم بأمر الله بسخاء فأمدها بكل ما كانت تحتاجه من النساخين والورقين والأقلام. وكانت موئلا للعلماء والأدباء. وظلت دار الحكمة قائمة حتى أيام صلاح الدين الأيوبي هدمها وبنى عليها مدرسة الشافعية.
سادسا: حوانيت الوراقين:
ظهرت في مطلع الدولة العباسية. وكانت تبيع الكتب الهامة كما كان الوراقون يقومون بنسخ الكتب الهامة فيها. وإلى جانب هذا كانت تقوم بمهمة المكتبة العامة التي يفد إليها الناس للاطلاع وكانت تعقد بها المناقشات والمناظرات، يشترك فيها إليها الوراقون أنفسهم فقد كانوا على حظ من الثقافة والاطلاع. وكانوا يحرصون على اجتذاب العلماء إلى حوانيتهم. وقد ارتبط ظهور حوانيت الوراقين باختراع الورق للكتابة. ومع أن أصل صناعة الورق ترجع إلى الصين منذ عام 105م إلا أن تطوير هذه الصناعة بحيث يستخدم في أغراض الكتابة يرجع إلى العرب. وقد تأسست أول صناعة للورق في بغداد سنة 794م كما أشرنا. وذلك عندما أنشئ أول مصنع له بفضل الفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد. ومن بعدها انتشرت هذه الصناعة بسرعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي فدخلت سوريا ومصر وشمالي إفريقيا والأندلس. ويقول القلقشندي في صبح الأعشى: إن الرشيد أمر ألا يكتب الناس إلا في الكاغد "الورق" بعد أن كانوا يكتبون على اللخاف والرق. وقد كان هذا الاختراع عاملا هاما في انتشار الكتب في كل مكان في العالم الإسلامي.
سابعا: الرباطات:
يختلف معنى الرباطات في الشرق الإسلامي عنه في الغرب الإسلامي والرباطات جمع رباط ويقصد في الشرق الإسلامي البيوت التي كان يقيم بها الفقراء ويتفرغون للعبادة والتعليم ومنها رباط البغدادية للشيخة زينب البغدادية بني 684هـ
…
وكانت تسكنه مع عدد النساء اللاتي انقطعن للتعليم والعبادة.
أما الرباط في المغرب الإسلامي. فهو ثكنة عسكرية محضة ذات صحن واسع تحيط به غرف وقد يكون على طابق واحد أو على طابقين تعلوه صومعه مستديرة للأذان وخصوصا لمراقبة السواحل اتقاء للغارات البحرية الموجهة من طرف أساطيل الروم.
فالرباط حصن دفاعي أخذ تسميته من مرابطة المجاهدين في سبيل الله فيه. فكان هؤلاء المجاهدون يرابطون فيه ويقضون يومهم وليلهم في العمل أو العبادة. وجميع الرباطات في المغرب العربي بنيت على ساحل البحر، وكانت تتصل بعضها البعض بواسطة العلامات النارية أو الحمام الزاجل. وكان لكل رباط من الرجال رباط النساء، يتعبدن فيه ويساعدن الرجال في الأشغال الفلاحية وغيرها. وكان المرابطون يقومون بعدة أشغال منها صنع الورق والحبر وهما لازمان لما كانوا يقومون به من نسخ المصاحف وكتب الفقه والحديث. وكان المؤلفون وأصحاب التصانيف يعطون مؤلفاتهم الأصلية التي كتبوها بخط أيديهم إلى الرباطات لتنسخ منها نسخ أخرى ويحتفظ بالأصل للرجوع إليه عند الالتباس. وكان المرابطون يقومون بنسخ الكتب وتوزيعها على طلاب العلم مجانا.
وكان الرباط مدرسة يؤمها العلماء والطلبة، وكان العلماء يرابطون فيها فترة من العام قد تكون شهرا ليدرسوا العلم احتسابا لوجه الله. كما كان الطبيب يرابط أيضا فترة من أجل مداواة المرضى، وكذلك رجل البريد. فالكل يرابط من أجل الجهاد في سبيل الله. وفي كل رباط مكتبة مقامة في الجدار على هيئة طاقات في الحائط بها النسخ الأصلية والفرعية للمؤلفات والتصانيف. وأقدم الرباطات التي شيدها العرب بإفريقية هو رباط المستنير، الذي بناه الأمير هزيمة بن أيمن والي القيروان سنة 181هـ وهو ما زال قائما حتى اليوم، ومن الرباطات الأخرى الموجودة حتى الآن رباط سوسة والرباط الأعلى والرباط الأسفل بتونس.
ثامنا: البيمارستانات والمستشفيات
البيمارستان كلمة فارسية مركبة من كلمتين: بيمار: مريض، وستان: دار فهي إذن دار المرضى، وظلت هذه الكلمة تطلق على دور العلاج والمرضى حتى حلت محلها كلمة مستشفى عند إنشاء مستشفى أبو زعبل في مصر ويقول المقريزي: إن أول من بنى البيمارستانات في الإسلام الوليد بن عبد الملك سنة 88هـ وجعل فيها الأطباء وأجرى فيها الإنفاق. وهذا خلاف ما ذكره ديورانت أن أول بيمارستان معروف لنا أنشئ في بغداد أيام هارون الرشيد. "ديورانت: 13 ص1980".
وقد انتشرت دور الاستشفاء أو المستشفيات في العالم الإسلامي تحصيها كتب التاريخ بثلاث وأربعين دارا كانت منتشرة من فارس إلى مراكش ومن شمال سوريا إلى مصر. وكان في بغداد وحدها سنة 931م ثمانمائة وستون طبيبا مرخصا، وكانت أجورهم ترتفع حسب قربهم من بلاط الخلفاء. وقد حقق بعضهم ثروات هائلة فقد جمع ابن بختيشوع طبيب هارون الرشيد والمأمون والبرامكة ثروة تقدر بحوالي سبعة ملايين دينار. ويقول عنه المؤرخون إنه كان يتقاضى من
الخليفة مائة ألف درهم نظير حجامته مرتين في العام ومثل هذا المبلغ لإعطائه مسهلا كل نصف عام.
وقد أسس ابن طولون أول مستشفى في مصر سنة 872م ومن بعده كان هناك البيمارستان المنصوري الكبير الذي بني 683هـ وكان من أشهر البيمارستانات. وأنشأ نور الدين في دمشق سنة 1170م بيمارستانا ظل ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن. ولما وفد ابن جبير إلى بغداد سنة 1184م دهش من بيمارستانها العظيم الذي كان يرتفع كما ترتفع القصور الملكية على شاطئ نهر دجلة. وكان يطعم المرضى ويعالجهم ويمدهم بالدواء كما أشرنا.
وربما يكون مستشفى السلطان قلاون الذي تأسس بالقاهرة سنة 1285م أعظم مستشفيات العالم الإسلامي وأكثرها شهرة في العصر الوسيط، وقد أورد له المقريزي وصفا رائعا في خططه "ج - ص260".
وكانت هذه البيمارستانات معدة ومنظمة جيدا فكان بها قسم للرجال وآخر للحريم. وكل قسم مجهز بالآلات والعدد والمشرفين والخدم وفي كل قسم قاعات لمختلف الأمراض. قاعة للأمراض الباطنية وأخرى للجراحة وثالثة للحاملة ورابعة للتجبير. وكان للبيمارستان صيدلية سميت "شرانجاز" في العصر المتأخر ولها رئيس يسمى شيخ صيدلي البيمارستان.
وكان لك بيمارستان رئيس أطفال يلقى دروسه على طلبة الطب ويأذن لمن أتم دراسته منهم وقدم رسالة في فرع الطب الذي يختاره بممارسة المهنة ويعطيه ترخيصا كتابيا أو إجازة بذلك، ولم يكن يجوز لأحد أن يمارس هذه المهنة إلا إذا قدم لامتحان يعقد لهذا الغرض.
تاسعا: منازل العلماء
لعبت منازل العلماء دورا كبيرا في نشر العلم وتوسيع مجالات التعليم فقد كان الطلبة يقفون على أبواب الشيوخ ليسألوهم أو ليسمعوا منهم. وكانت الدروس المنتظمة تلقى في تلك البيوت التي كانت تصاميم بنائها تلائم هذه الأغراض. وربما عقدت مجالس الدروس عند عتبة الباب حيث يجلس الطلبة في الطريق مع شيخهم الذي يلقي عليهم دروسه. كما كان يجلس هناك بعض رفاقه. ومن هذه المجالس مجالس النظر التي كان يعقدها القاضي المجاملي كل يوم أربعاء وتبحث فيها المسائل الفقهية وقد استمر هذا المجلس حتى بعد وفاته، ومن هذه المجالس أيضا مجلس القاضي السمناني ومجلس اللغة لإبراهيم الحربي الذي واظب على حضوره النحوي المشهور ثعلب مدة خمسين عاما. وكان منزل الإمام أحمد بن حنبل ملتقى لعلماء بغداد وللوافدين عليها وكان يقصده عدد كبير من الطلبة.
الفصل التاسع: أعلام التربية الإسلامية في العصر الوسيط
ابن سحنون وآراؤه التربوية
…
الفصل التاسع: أعلام التربية الإسلامية في العصر الوسيط
المقدمة:
سبق أن أشرنا إلى تميز المرحلة الثانية من تطور التربية الإسلامية بظهور الآراء التربوية المتميزة، وسنحاول في الصفحات التالية أن نعرض لأهم آراء أعلام التربية في الإسلام مبتدئين برائدهم ابن سحنون.
1-
ابن سحنون وآراؤه التربوية:
الاسم الكامل له هو محمد بن سعيد بن حبيب، التنوخي القيرواني، ولد بالقيروان بتونس 202هـ ومات سنة 256هـ ودفن بجوار أبيه في القيروان، وقد نشأ ابن سحنون في بيئة مثقفة متدينة فقد كان أبو الإمام سحنون عالما متدينا ذائع الصيت وقاضيا متنورا عادلا تولى القضاء في عهد الأمير أبي العباس أحمد بن الأغلب وباشر الحسبة والمظالم بنفسه واستحق أن يلقب بسراج القيروان وقد تلقى ابنه محمد العلم عنه وعن غيره من علماء عصره، وارتحل إلى الشرق حبا في الاستزادة في طلب العلم.
وقد ألف محمد بن سحنون كتبا كثيرة تزيد على العشرين مصنفا في مختلف العلوم. إلا أن شهرته بالنسبة لدراسة التربية الإسلامية ترتبط بكتابه المعروف "آداب المعلمين" الذي نشر 1348هـ - 1929م وقامت بنشره اللجنة التونسية لنشر المخطوطات العربية على أساس نسخة خطية من مخطوطات يرجع تاريخها إلى القرن الثامن الهجري.
وقد نسب ابن خلدون في مقدمته هذا الكتاب خطأ إلى محمد بن أبي زيد. والكتاب نفسه صغير الحجم عظيم القدر فهو يقع في اثنتي عشرة صفحة في النسخة الخطية وفي 26 صفحة في النسخة المنشورة، وقد نقل ابن سحنون هذا الكتاب عن أبيه كما يتضح من التذييل المكتوب في نهاية الكتاب، وكما يتضح أيضا من محتويات الكتاب نفسه. ويتضمن الكتاب عشرة أبواب على الترتيب هي:
1-
ما جاء في تعليم القرآن العزيز.
2-
ما جاء في العدل بين الصبيان.
3-
باب ما يكره محوه من ذكر الله تعالى.
4-
ما جاء في الأدب ما يجوز في ذلك وما لا يجوز "العقاب".
5-
ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمعلم "من حيث الأجر".
6-
ما جاء في القضاء بعطية العيد.
7-
ما ينبغي أن يخلى الصبيان فيه "العطلات المدرسية".
8-
ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان.
9-
ما جاء في إجازة المعلم ومتى تجب "أجر المعلم".
10-
ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه وما شابهها.
وهناك تداخل أحيانا وتكرار أيضا في الآراء التي يوردها ابن سحنون تحت هذه العناوين بل إنه قد يرد تحت العنوان كلام لا يدخل في بابه أو موضوعه. وفي ضوء هذا التنبيه وهذه الإشارة سنعرض لأهم الآراء والمبادئ التي أوردها ابن سحنون تحت هذه العناوين مع التزامنا بترتيبها كما أوردها، ولا يعتبر ذلك نقدا لابن سحنون أو تقليلا لأهمية الآراء التي أوردها فهو صاحب فضل وسبق كبير باعتباره أول من ألف في التربية الإسلامية من العرب والمسلمين، فلم يرد قبله كتاب تناول هذا الموضوع. وهو بهذا يعتبر رائدا في الكتابة عن التربية الإسلامية. وقد اعتمد عليه من ألف بعده في نفس الموضوع، ومنهم القابسي في رسالته عن أحوال المعلمين والمتعلمين، بل إن القابسي كان ينقل أحيانا نقلا حرفيا عن ابن سحنون وأحيانا أخرى كان ينقل بتصرف في العبارة دون إخلال بالمعنى.
أهم الآراء التي وردت في رسالة ابن سحنون:
لا يورد ابن سحنون آراء وأحكاما مستقلة تعبر عن رأيه وإنما يستخلص هذه الآراء من الكتاب والسنة ويوردها منسوبة إليهما أو الروايات المدققة.
فضل تعليم القرآن وتعلمه:
كان أول ما أكده ابن سحنون فضل تعلم القرآن الكريم وتعليمه، ويقتبس لذلك أحاديث للنبي كقوله صلى الله عليه وسلم. "أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه". "ويرفع الله بالقرآن أقواما" و "أن لله أهلين من الناس: حمله القرآن هم أهل الله وخاصته" و "من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد".
العدل بين الصبيان:
في إشارته إلى عدل المؤدب بين الصبيان يورد ابن سحنون حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "أيما مؤدب ولي ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائنين".
ما يكره محوه من ذكر الله تعالى:
يستدل ابن سحنون في الكلام عما يكره محوه من ذكر الله تعالى بما ورد عن أنس بن مالك قوله: "إذا محت صبية الكتاب تنزيل رب العالمين من ألواحهم بأرجلهم نبذ المعلم إسلامه خلف ظهره ثم لم يبال حين يلقى الله على ما يلقاه عليه".
ويورد على لسان أنس تفسيره للطريقة التي كانت تمحى بها الألواح وما عليها من القرآن أيام الخلفاء الأربعة فيقول: كان للمؤدب "إجانة" وكان كل صبي يأتي يوم نوبته بماء طاهر يصبه فيها، وتمحى الألواح بغمسها في الإجانة المملوءة بالماء ثم يوضع الماء بعد الانتهاء في غسل الألواح في حفرة في أرض يصب فيها لينشف كما يمكن مسح الألواح بلعقها أو بمسحها بالمنديل وما أشبه.
ما يجوز في الأدب وما لا يجوز:
يورد ابن سحنون تحت هذا العنوان روايات تتضمن أقوالا للنبي صلى الله عليه وسلم تحدد مدى ما يجوز للمعلم في عقاب الصبيان وتأديبهم، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يضرب أحدكم أكثر من عشرة أسواط إلا في حد" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدب الصبي ثلاث درر فمن زاد عليه قوصص -من القصاص- يوم القيامة". وهذا يعني أن ضرب المعلم الصبي يجوز بين ثلاث درر ولا يزيد عن عشرة عند تأديبهم
على اللعب والبطالة. ويكون التأديب بهدف منفعتهم لا بسبب غضب المؤدب. ولا يجوز أن يزيد في ضربه على ثلاث درر في تأديب الصبي على قراءة القرآن ويجب أن يكون التأديب على قدر الذنب دون إسراف.
وفي ختمة القرآن وما يجب للمعلم:
يفهم مما يورده ابن سحنون أن ختمة القرآن إما بحفظ القرآن كله أو معظمه أو نصفه أو ثلثه أو ربعه، ويكون ذلك حسب قدرة المتعلم ولا يجوز للمعلم أن يحمل المتعلم فوق ما يريد أن يحفظه من القرآن إلا بإذن أبيه. كما يجوز للمعلم أن يأخذ هدايا من الصبيان في مناسبة الختمة والأعياد فقط ولا يجوز له أن يأخذ منهم هدايا فيما عدا ذلك إلا بإذن الآباء.
وفي عطية العيد:
لا يجوز للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجره شيئا من هدية أو غير ذلك، وحرام عليه أن يقبل منهم هدية سألهم عليها ولا جناح عليه أن يقبل الهدية إذا جاءت منهم بدون سؤال، ولا يجوز له أن يعاقبهم أو يهددهم على عدم إهدائهم، كما لا يحل له أن يخليهم إذا أهدوا له لأن التخلية داعية إلى الهدية وهو أمر مكروه.
ما ينبغي أن يخلى الصبيان فيه:
يفهم مما يذكره ابن سحنون أن إجازة الصبيان في الأعياد تكون من يوم إلى ثلاثة في عيد الفطر ومن ثلاثة أيام إلى خمسة في عيد الأضحى. ولا يجوز للمعلم أن يرسل أحد من صبيانه في طلب من تغيب منهم إلا بإذن أولياء الأمور إلا أن تكون الأماكن قريبة لا تلهي الصبي عن دراسته، وعليه أن يتعهد المتغيبين من الصبيان بنفسه، وأن يخبر آباءهم بتغيبهم. ومن الأفضل ألا يكلف أحد صبيانه في القيام بالضرب وألا يجعل لهم عريفا عليهم إلا إذا كان قد ختم القرآن وعرفه وأصبح مستغنيا عن التعليم فلا بأس من أن يستعين به في التعليم لما في ذلك من منفعة للصبي. وله أن يستأذن والده في ذلك. ويجوز له أن يستأجر من يعينه إذا كان في مثل كفاءته.
ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان:
مما يورده ابن سحنون تحت هذا العنوان ما يلي:
1-
لا يحل للمعلم أن ينشغل عن الصبيان وهو يقوم بتعليمهم اللهم في الأوقات التي تتخلل عمله فلا بأس من أن يتحدث وهو يتفقدهم وعينه عليهم.
2-
يعرض ابن سحنون لتحريم رمي الفاكهة على الناس عند الاحتفال بختم القرآن لأن ذلك يعتبر طعاما ننهبه، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل الطعام النهبة.
3-
يجب على المعلم أن يتفرغ لتلاميذه ولا يترك عمله للصلاة على الجنائز إلا في حالات الضرورة، ولا يجوز له أن يترك عمله للسير في الجنائز أو عيادة المرضى.
4-
ينبغي أن يخصص المعلم لتلاميذه وقتا لتعليم الكتاب وينبغي أن يعلمهم إعراب القرآن والشكل والهجاء والخط الحسن والقراءة الحسنة والتوقيف والترتيل أما تعليم الحساب والشعر والعربية والنحو فليس واجبا عليه إلا إذا اشترط عليه ذلك.
5-
لا يجوز للمعلم أن يضرب الصبي على رأسه أو وجهه ولا يجوز له أن يمنع من طعامه وشرابه إذا أرسل في طلبه.
6-
لا يجوز للمعلم أن يوكل تعليم الصبية لبعضهم بل يجب أن يتولى ذلك بنفسه.
7-
لا يجوز للمعلم أن ينشغل عن الصبيان بأن يكتب لنفسه أو لغيره كتب الفقه إلا بعد انتهاء الصبيان من القراءة.
8-
على المعلم أن يحضر الدرة والفلقة وعليه أيضا استئجار الحانوت وليس على الصبيان شيء من ذلك كله، ولكن إذا استأجر الآباء المعلم على تعليم الصبيان لمدة سنة فعليهم استئجار المكان للمعلم.
9-
على المعلم أن يختبر مدى تقدم صبيانه في التعليم.
10-
على المعلم أن يخصص وقتا معلوما لمراجعة حفظ القرآن مثل عشية الأربعاء ويوم الخميس وأن يعفيهم "أي التلاميذ" من الحضور للدراسة يوم الجمعة.
11-
لا يجوز للمعلم أن يعلم صبيانه قراءة القرآن بالألحان والغناء لأنه مكروه.
12-
يجعل المعلم وقت الدراسة بالكتاب من الضحى إلى وقت الظهر، "الانقلاب".
13-
يجوز للمعلم أن يجعل صبيانه يملي بعضهم بعضا لما في ذلك من منفعة لهم ويجب أن يتفقد إملاءهم أو يفحصها.
14-
لا يجوز للمعلم أن ينقل الصبي من سورة إلى سورة إلا إذا حفظها بإعرابها وكتابتها.
15-
لا يجوز للمعلم أن يرسل الصبيان في قضاء حوائجه.
16-
يجب على المعلم أن يأمر الصبي بالصلاة إذا كان ابن سبع سنين ويضربه عليها إذا كان ابن عشر. وعليه أن يعلمهم الوضوء والصلاة لأنها من تمام دينهم، ويعلمهم أيضا سنن الصلاة، والابتهال إلى الله.
17-
لا يجوز تعليم الصبيان في المسجد لأنهم لا يتحفظون من النجاسة ولم ينصب المسجد لتعليم الصبيان.
18-
لا يجوز للمعلم أن يعلم أولاد النصارى القرآن.
19-
من المكروه تعليم الجواري باختلاطهن بالغلمان لأن ذلك فساد لهم.
20-
على المعلم أن يؤدب الصبيان إذا آذى بعضهم بعضا.
21-
إذا أدب المعلم الصبي الذي يجوز له تأديبه فأخطأ ففقأ عينيه أو أصابه فقتله كان على المعلم حد الكفارة في القتل والدية إذا جاوز حد التأديب إلى القسوة وإذا لم يجاوز المعلم الحد فلا دية عليه. وإذا ضرب المعلم الصبي بشيء غير مسموح به فقتله فعلى المعلم القصاص.
ومن الإشارات الطريفة عن المعلمين لابن سحنون قوله: إنهم كانوا يسرون بوقوع الحبر على ثيابهم دلالة على اجتهادهم الشديد في تعليم الصبيان.
ما جاء في إجازة "أجر" المعلم ومتى تجب:
من أهم المبادئ التي أوردها ابن سحنون تحت هذا العنوان ما يأتي:
1-
يجوز أن يؤجر المعلم شهريا أو سنويا أو يدفع له الأجر حسب الاتفاق.
2-
يستحق المعلم الأجر المتفق عليه ولو كان لمدة سنة في حالة مرض الصبي أو خروجه مع والده في سفر.
3-
يجوز أن يستأجر المعلم لجماعة من الصبيان إذا تراضى الآباء بذلك ويقوم كل منهم بدفع نصيبه.
4-
يمنع المعلم من التعليم إذا عرف عنه التفريط أو التقصير في تعليم تلاميذه.
5-
يجوز للمعلم أن يعلم مع صبيان استؤجر على تعليمهم صبيانا آخرين بحيث لا يضر بتعليمهم.
ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه:
من أهم المبادئ التي أوردها ابن سحنون تحت هذا العنوان ما يأتي:
1-
يجوز أن يستأجر المصحف للقراءة فيه كما يجوز بيعه لأن ما يباع هو الحبر والورق.
2-
ويجوز أيضا إجازة كتب الفقه وبيعها إذا علم من استأجرها واشتراها.
2-
القابسي وآراؤه التربوية:
الاسم الكامل للقابسي هو أبو الحسن علي بن محمد خلف المعافري المعروف بالقابسي، ولد بالقيروان سنة 324هـ "935م" وبها تربى وتعلم وعلم. وبها مات ودفن سنة 402هـ "1012م". ويرجع نسب القابسي على الأرجح إلى قرية المعافرين التي ينتسب إليها وكانت ضاحية من ضواحي تونس.
وكان القابسي عالما ضريرا فقيها ورعا. وله مؤلفات كثيرة تصل إلى 15 كلها في الفقه والحديث والمواعظ باستثناء واحد أفرده القابسي لشئون التعليم في الإسلام هي رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين. وقد صنفها في النصف الثاني من القرن الرابع وضاع الأصل وبقيت منه نسخة خطبة فريجة ترجع إلى عام 706هـ وهي محفوظة بالمكتبة القومية بباريس ومكتوبة بخط مغربي جميل.
وهذه الرسالة أكبر من حجمها من رسالة ابن سحنون وقد تأثر بما كتبه ابن سحنون ونقل عنه نقلا حرفيا في بعض الأحيان، كما سبق أن أشرنا، كما نقل أيضا عن الفقهاء الذين أخذ عنهم ابن سحنون كابن القاسم وابن وهب إلا أن للقابسي فضل التوسع والاستفاضة في الأبواب والمعالجة.
آراء القابسي التربوية:
تصدى القابسي في رسالته إلى الكلام عن تعليم الصبيان من حيث أغراضه ومناهجه وطرق تدريسه وأماكنه ومراحل. كما تحدث عن بعض الأحكام الخاصة بالمعلم. وقد تناول القابسي في الجزء الأول من رسالته فضل تعلم القرآن وتعليمه. وهو بهذا يشترك مع ابن سحنون بل إنه ينقل نفس الأحاديث النبوية إلا أنه يتوسع في الكلام.
الغرض من التعليم معرفة الدين علما وعملا:
يجعل القابسي من تعليم القرآن غرضا هاما لتعليم الصبيان. بالقرآن ضرورة لمعرفة الدين. والصلاة لا تتم إلا بقراءة شيء من القرآن وهي مفروضة على المسلمين لأنها ركن من أركان الدين. وهو يتفق مع غيره من علماء المسلمين في أن الغرض الأول من تعليم الصبيان هو معرفة الدينه علما وعملا أو نظرا وتطبيقا وممارسة.
وجوب تعليم الصبيان:
يتعرض القابسي لقضية لم ترد عند ابن سحنون هي قضية القول بضرورة تعليم جميع الصبيان فتعليمهم واجب وجوبا شرعيا. وهو يدلل على هذا الوجوب بوجوب معرفة القرآن والعبادات، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولذا كان التعليم واجبا لأنه شرط معرفة القرآن والعبادات. وهكذا نجد بذور فكرة التعليم الإجباري الإلزامي عند القابسي، وقد كان صريحا كما كان جريئا
فيها. وقد استقر هذا المبدأ عند فقهاء المسلمين فيما بعد عندما أصبح طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وتقتضي ضرورة تعليم الصبيان أن يكون الوالد مكلفا بتعليم ابنه بنفسه فإن لم يستطع فعليه أنه يرسله لتلقي العلم بالأجر فإذا لم يكن قادرا على ذلك قام التكليف أقرباؤه. فإذا عجز الأهل عن نفقة التعليم قام بها المحسنون أو قام معلم الكتاب بتعليم الفقراء احتسابا لوجه الله، أو دفع لهم الحاكم أجر تعليمهم من بيت المال. وهكذا يتحقق تعليم كل المسلمين بصرف النظر عن الغني أو الفقير.
تعليم البنت حق:
يعترف القابسي بحق البنت في التعليم انطلاقا من أن التكاليف الدينية واجبة على الرجل والمرأة. وهو يتفق مع روح الإسلام الحقيقة التي جعلت من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة على حد سواء. إلا أنه ذهب إلى عدم الخلط بين الصبيان والإناث وهو مبدأ سبق أن أكده ابن سحنون لاعتبارات أخلاقية وينبغي أن تعلم البنت ما فيه صلاحها ويبعدها عن الفتنة.
منهج الدراسة:
يذهب القابسي إلى أن الغاية الدينية هي التي تحدد العلوم التي يدرسها الصبيان، وأول هذه العلوم حفظ القرآن وقراءته وكتابته ونطقه وتجويده. وتعليم الحساب والمواد في نظره ليس بشرط لازم، وهو يتفق مع ابن سحنون في هذا الرأي.
الدين أصل الأخلاق:
يعتبر القابسي الدين أصل الأخلاق، فالدين أساس التربية الخلقية في الإسلام. لذلك يجب أن يعمل التعليم على تهذيب الأخلاق وأساس الأخلاق عنده الضمير الخلقي الحي المستمد من الدين الذي يعتمد على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل ما الإيمان؟ قال:"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك" ويكون اكتساب الأخلاق عن طريق التعليم والقدوة. ولذلك كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ذات فائدة تعليمية خلقية عظيمة. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} .
الفضائل والرذائل:
إن الفضائل من تمام كمال الإنسان. وقد تنبه القابسي إلى أثر تكوين العادة في اكتساب الفضائل لدى الإنسان ولذا يوصي المعلم بتوجيه الصبيان إلى العادات الحسنة وإبعادهم عن العادات الرذيلة. وأول الصفات الطيبة التي يتحلى بها الصبيان في نظره الطاعة وهي ليست واجبة عليهم نحو المعلم فحسب بل هي واجبة نحو الله والرسول وأولى الأمر كما جاء في القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
ومن الصفات الطيبة النظام. فالغوضي مفسدة للصبيان. ويقتضي النظام من الصبيان الانتظام في الحضور وعند الانصراف من الدرس والتحلي بالنظام في الدرس والأعمال المدرسية. والعبادات الإسلامية خير ما يعود الإنسان على الطاعة والنظام ولذا كانت ممارستها واجبة. والمعلم مطالب بتعليمها للصبيان باعتبارها أصل الفضائل وعصمة من الرذائل.
الرفق بالصبيان:
إن العقوبة مشروعة في الإسلام وجعل لنا في القصاص حياة. وقد أقر القابسي مبدأ عقاب الصبيان لكنه يترفق معهم تمشيا مع روح الإسلام التي تتسم بالرحمة والعفو. وينزل المعلم من الصبي منزلة الوالد، وطالبه بأن يكون رفيقا به عادلا في عقابه غير متشدد فيه. ومن الرفق ألا يبادر المعلم إلى العقاب إذا أخطأ الطفل وإنما ينبهه مرة بعد أخرى فإذا لم ينتصح لجأ إلى العقاب وقد نهى القابسي عن استخدام أسلوب الحرمان من الطعام والشراب في العقاب. بل طلب من المعلم أن يترفق بالصبيان فيأذن لهم بالانصراف إلى تناول الغذاء من طعام وشراب ثم يعودون. وهذا يعني أن الدراسة بالكتاب كانت تمتد إلى العصر. ونهى القابسي عن الانتقام في العقاب ولذا نهى المعلم عن ضرب الصبيان في حالة الغضب حتى لا يكون "ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه".
وأشار القابسي إلى اتباع أسلوب الترغيب والترهيب في معاملة الصبيان فأقر الضرب كعقوبة إلا أنه اشترط لها شروطا من أهمها:
1-
لا يوقع المعلم الضرب إلا على ذنب.
2-
أن يكون العقاب على قدر الذنب.
3-
أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن ولي الأمر فيما زاد عن ذلك.
4-
أن يقوم المعلم بالضرب بنفسه ولا يوكله لواحد من الصبيان.
5-
أن يكون الضرب على الرجلين، ويتجنب الضرب على الوجه والرأس أو الأماكن الحساسة من الجسم.
6-
أن تكون آلة الضرب هي الدرة والفلقة، ويجب أن يكون عود الدرة رطبا مأمونا. وهذه نفس الشروط تقريبا التي أشار إليها ابن سحنون من قبل.
نظام الدراسة:
إن نظام الدراسة الذي أشار إليه القابسي هو النظام المتعارف عليه وهو يقوم على أساس الدراسة طول أيام الأسبوع باستثناء يوم الجمعة والنصف الثاني من يوم الخميس، ويخصص مساء الأربعاء وأول يوم الخميس للمراجعة والتدقيق من جانب المعلم للصبيان، وتكون الدراسة في أول النهار حتى الضحى مخصصة للقرآن الكريم ومن الضحى إلى الضحى إلى الظهر لتعليم الكتابة، وعند الظهر ينصرف التلاميذ لتناول الغداء ثم يعودون بعد صلاة الظهر حيث يدرس الصبيان لفيما يتبقى من النهار بقية العلوم كالنحو والحساب والشعر. وهو يتفق في كثير من هذه الأمور مع ابن سحنون.
النهي عن تعليم غير المسلمين:
يتفق القابسي مع ابن سحنون في النهي عن تعليم غير المسلمين في الكتاتيب والنهي أيضا عن تعليم أبناء المسلمين في المدارس النصرانية، ومن الواضح الأساس الذي بني عليه هذا النهي.
المعلم:
اقتصر القابسي في رسالته على الكلام عن معلمي الكتاتيب الذين يتصلون بأولاد العامة وذاع عنهم الحمق فقيل في المثل: "أحمق من معلم الكتاب". وهكذا وصفوا بالحمق وقلة العقل ولم تقبل شهادتهم. وقد انتصر الجاحظ لمعلمي الخاصة وهم المؤدبون الذين كانوا أكثر احتراما من معلمي الصبيان. ولعل هذه الوصمة لحقت بمعلمي الصبية من جراء العناصر الوضيعة التي اشتغلت بالمهنة والممارسات السيئة التي عرفت عنهم مما يتضح مما نهى القابسي المعلمين عنه. ولم تكن هناك شروط يسمح للمعلم بناء عليها بمزاولة المهنة. ولكن كان الأمر يعتمد على الشعور بالقدرة فمن آنس في نفسه المقدرة على التعليم جاز له ذلك، وقد اشترط القابسي في المعلم معرفة القرآن والنحو والشعر وأيام العرب إلى جانب شخصيته الدينية وسمعته الطيبة. وهو بهذا يتفق مع ابن سحنون ويتفق معه أيضا في مطالبة المعلم بعدم الانشغال عن تعليم الصبيان وعدم طلب الهدايا منهم أو إرسال تلاميذهم في قضاء حوائجهم والحصول على طعام باسمهم في مناسبات الأفراح أو إحضار الطعام والحطب من بيوتهم.
ولا يجوز للمعلم أن يترك عمله للصلاة على الجنازة أو السير فيها أو عيادة المرضى أو حضور شهادة البيع والنكاح. وربما من هنا جاءت فكرة عدم قبول شهادة معلم الصبية لا لنقص فيه ولكن لأنه منهي عن الانشغال عن التعليم وهو واجبه بأعمال أخرى.
ومن الواضح أوجه الاتفاق والشبه الكبير بين ما يقول القابسي وما ذهب إليه ابن سحنون. وكلاهما يتفقان أيضا على أن يأخذ المعلم أجرا نظير عمله إما مشاهرة أو مساناة. وأعطى القابسي للمعلم سلطة كبيرة على الصبي تساوي سلطة الوالد، ولكنه حمل المعلم المسئولية والنتيجة النهائية لعمله، وليس له أن يعتذر عن فساد النتيجة بنقص سلطته أو إلقاء اللوم على الصبيان. ولهذا صح عقاب المعلم ومحاسبته على التقصير في أعماله، وقد يصل العقاب إلى حد منعه من الاشتغال بالتعليم.
ابن مسكويه وآراؤه التربوية
مدخل
…
3-
ابن مسكويه وآراؤه التربوية"
"320هـ-412هـ، 933م-1030م"
هو فارسي الأصل كما يبدو من اسمه الذي يتكون من مقطعين مسك وهو العطر المعروف و"ويه" وتعني رائحة. فيكون معنى اسمه رائحة المسك. واسمه الكامل هو أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه. ومسكويه هو اسمه واسم جده أيضا، ولذلك يقال له مسكويه وابن مسكويه "شريف: 159". أصله من الري وسكن أصفهان وتوفي بها. وإذا كان بعض علماء المسلمين قد لقبوا أرسطوا بالمعلم الأول والفارابي بالمعلم الثاني فابن مسكويه يلقب بالمعلم الثالث.
وكانت ولادته سنة 330هـ - 933م، ووفاته عام 421هـ - 1030م. وهذا يعني أنه قد عاش ما يقرب من مائة عام. ويعتبر ابن مسكويه من أعيان الشيعة فقد كان شيعيا مخلصا يؤمن كغيره من الشيعة فإقامة سيدنا علي في خلافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. اشتغل بالكيمياء والفلسفة والمنطق مدة طويلة. ثم أولع بالأدب والتاريخ والإنشاء. اشتهر بالخازن لأنه كان أمينا على خزانة كتب ابن العميد ثم كتب عضد الدولة ابن بويه.
وحياة ابن مسكويه مليئة بالتناقض. فقد عاش في شبابه حياة ترف ولهو استمتاع ومجون. ولكنه عدل من ذلك فيما بعد في مرحلة متقدمة من عمره. وهو نفسه يشير إلى ذلك في كتابه تهذيب الأخلاق في كلامه عن تأديب الصبية والأمور التي تسيء إلى تربيتهم من سماع الأشعار السيئة ومرافقة أهل السوء وميل طبعه إلى كثرة الطعام واللباس والزينة. ويعقب على ذلك بقوله: "كما اتفق لي مثل ذلك في بعض الأوقات". وقد يرجع سبب ذلك إلى إهمال والديه تربيته منذ الطفولة. فقد تركا له الحبل على الغارب ولم يعوداه على السلوك السليم منذ صغره. بل إن أمه لم تكن مثلا يحتذى له في حياته. فقد تزوجت بعد موت أبيه برجل أقل شأنا منه وكان غير راض عن سلوكه وتصرفاته. والغريب أن هذا الشاب المترف الماجن المستهتر يعود في آخر سنوات حياته ليكتب كتابا عن "تهذيب الأخلاق" يعتبر من أهم الكتب في فلسفة الأخلاق الإسلامية. وربما يكون السبب في ذلك أسفه وندمه الشديد على ما فعله في شباب وتكفيره عن ذلك بكتابه هذا الكتاب الذي اعتمد في كتابته على معرفته بالعلوم الفلسفية وخبرته الذاتية الشخصية.
مؤلفات ابن مسكويه:
يعتبر كتاب "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" من أهم وأشهر كتبه. وهو كتاب صغير الحجم عظيم القدر يبدو منه بوضوح تأثيره على فكر حجة الإسلام الغزالي الذي جاء من بعده ونقل عنه كثيرا من أفكاره. وهناك كتب أخرى لابن مسكويه منها "كتاب الفوز الأصغر والفوز الأكبر وفوز النجاة" و"كتاب ترتيب السعادات" وكتاب "آداب العرب والفرس" و"كتاب تجارب الأمم"، وله كتاب "الحكمة الخالدة" تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي. ويقول الدكتور أحمد عبد الحليم عطية محقق كتاب السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية لأبي الحسن محمد بن يوسف العامري المتوفى 381هـ في ص17 أن ابن مسكويه نقل فيه عن العامري وخصص فيه فصلا طويلا عن وصايا العامري وآدابه1. هذا إلى جانب بعض الرسائل الصغيرة ما زال الكثير منها إن لم يكن معظمها مخطوطا. من هذه الرسائل رسالة "في النفس والعقل" ورسالة "اللذات والآلام" و"ورسالة في جوهر النفس والبحث عنها".
1 يقول التوحيدي -الذي ينقل في مؤلفاته عن أستاذه العامري- في كتابه الإمتاع والمؤانسة ج1 ص36. إن ابن مسكويه رغم تتلمذه على العامري الذي سكن الري خمس سنين ودرس وأملى وصنف وروى لم يأخذ عنه كلمة واحدة ولا مسألة حتى كأن بينهما سدا.
تأثير ابن مسكويه بفلاسفة الإغريق:
تأثر ابن مسكويه بفلاسفة الإغريق
شأنه في ذلك شأن كثير من فلاسفة الإسلام كالكندي وكالفارابي وابن سينا والعامري والغزالي وغيرهم. وهو يشير إلى آراء جالينوس وأرسطو وسقراط وفورفيوس وبروسن وفيثاغورث وبقراط وأفلاطون والرواقيين من فلاسفة الإغريق وينقل عنهم. بل إنه يعترف صراحة بأنه نقل عنهم "ابن مسكويه: ص66، 84، 87، 91، 167، 180". ويقول أحد الباحثين إن مسكويه اعتمد في كتابه تهذيب الأخلاق على كتاب الأخلاق النيقوماخية لأرسطو "محمد الجليند: 265" نسبة إلى نيقوماخوس والد أرسطو.
تأثيره على حجة الإسلام الغزالي: كان لابن مسكويه تأثير واضح على حجة الإسلام الغزالي. ويبدو هذا التأثير فيما نقله نقلا حرفيا عنه في كلامه عن النفس وتقسيماتها والفضائل وأمهاتها وصفاتها الأخلاقية والصفات التي تتدرج تحتها وغير ذلك مما سنشير إليه في كلامنا عن ابن مسكويه وفي كلامنا أيضا عن الغزالي. ويقول ابن الخطيب محقق كتاب ابن مسكويه وشارح غريبه "ص6" في تعليقه على الكتاب إنه كان قد قرأ أبوابا برمتها منه في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي فظن بادئ ذي بدء أن ابن مسكويه نقل عن الغزالي هذه الأبواب. ولكن بعد البحث وجد أن ابن مسكويه توفي في عام 421هـ في حين أن الغزالي توفي عام 505هـ فيكون ابن مسكويه أسبق من الغزالي. وبذلك يكون الغزالي هو الناقل عن ابن مسكويه.
آراؤه التربوية:
يتحدث ابن مسكويه عن ضرورة الاجتماع البشري ويذكر عبارة "الناس مدينون بالطبع""ص126" ويكررها في "ص167". وهو بهذا يكون سابقا للماوردي والأصفهاني وابن خلدون في القول بذلك. والواقع أن أستاذ ابن مسكويه وهو أبو الحسن محمد بن يوسف العامري المتوفى 381هـ يذكر مثل هذه العبارة في كتابه "السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية""ص257" وينسبها إلى أرسطو. وتكلم ابن مسكويه في أمور كثيرة تتعلق بالعقل والقلب والنفس والأخلاق وتربية الصبيان وسنعرض في السطور التالية لبعض آرائه.
1-
إعلاؤه لشأن العقل: ينزل ابن مسكوية العقل منزلة كبرى تمشيا مع فلاسفة الإغريق الذين يمجدون العقل كأعلى قيمة في حياة الإنسان. والواقع أن الإسلام الذي ينتمي إليه ابن مسكويه يعلي من شأن العقل إلى درجة كبيرة قل أن نجد لها نظيرا في الأديان الأخرى. والقرآن الكريم مليء بالشواهد الكثيرة التي تدل على ذلك. ويتردد في القرآن دائما في عبارة مثل "لعلهم يعقلون""ألا يعقلون"، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} ، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون} "ولعلكم تتفكرون"، "أفلا تنكرون"، {أَفَلا يَتَدَبَّرُون} ، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} .
والمفكر الإسلامي الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله كتب كما أشرنا كتابا بعنوان "التفكير فريضة إسلامية" فإذا كان التفكير وهو وظيفة العقل فريضة في الإسلام ألا يدل ذلك على إعلاء الإسلام من شأن العقل؟ ولا شك في أن ابن مسكويه قد تأثر في كلامه بما يقوله الإسلام عن العقل إلا أن لأسلوب كلامه طابعا يونانيا قديما.
والعقل عند ابن مسكويه يعتبره على غرار الإغريق قوة النفس الناطقة. ذلك أنه يرى أن للنفس قوى مختلفة لها مراكز جسمية. والعقل والفكر في الدماغ والغضب في القلب والشهوة في البطن.
وهو يرى أن العقل هو مناط التكليف الإلهي. وعلى أساسه يكون حساب الإنسان ثوابا عقابا. وبه يستطيع المرء أن يكون قاب قوسين أو أدنى من سدرة المنتهى التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة النجم بقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} . وبه أيضا يهوى إلى الدرك الأسفل من النار شأنه شأن المنافقين الذين قال عنهم القرآن الكريم في سورة النار {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} . أو يكون شبه الحيوانات والأنعام الذين قال فيهم رب العزة في سورة الفرقان {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} .
النفس الإنسانية:
تحدث ابن مسكويه عن النفس من حيث طبيعتها وصلتها بالجسم. فمن حيث طبيعتها يناقش ما إذا كانت النفس الإنسانية نفسا واحدة أم أنها متعددة. ويصل إلى القول بأن النفس واحدة ترد إليها قوى مختلفة هي بمثابة الفروع للشجرة الواحدة. ومن حيث صلة النفس بالجسم يتساءل هل هي جزء من الجسم تفنى بفنائه؟ ويجيب على ذلك بقوله إن النفس مغايرة للبدن وليست جزءا منه ولا حالا من أحواله. ويستدل على ذلك بأن النفس هي التي تحرك البدن وقد تكون هذه الحركة مخالفة لطبيعته كالصعود إلى أعلى أو التحرك من مكان إلى مكان. كما أن الجسم يعتريه التغيير والتبديل والزيادة والنقصان. ومع ذلك يظل الإنسان مدركا لنفسه في كل ذلك. وهذا يعني أن هناك جوهرا غير الجسم مسئول عن ذلك. ويقول أيضا إن النفس ليست جسما بل هي جوهر مفارق للبدن ومخالف له في الطبع. فهي من عالم آخر غير عالم المادة الذي ينتمي إليه الجسم. ويرى ابن مسكويه أن النفس بعد الموت تصعد إلى بارئها أما الجسم فيفسد ويتحلل وهذا يعني أن النفس خالدة ولا تفنى بفناء الجسم. فهي ليس جزاء منه. وهو بهذا يخالف الفلاسفة الحسيين الذين يقولون بأن النفس جزء من
الجسم وأنها تفنى بفنائه.
وينقل ابن مسكويه عن فلاسفة الإغريق وعلى رأسهم أفلاطون تقسيم قوى النفس إلى ثلاث: قوة العقل وآلتها الدماغ وقوة الغضب وآلتها القلب وقوة الشهوة أو القوة البهيمية وآلتها الكبد. وهو يرى أن هذه القوى الثلاث إذا أحسن المرء توجيهها والتحكم فيها فإنها تكون مصدر خيره وسعادته. أما إذا ترك لها الحبل على الغارب وانساق وراء أهوائها فإنه يصبح عبدا لها وتكون وبالا عليه وشرا مستطيرا. وهو يذكر أن لكل قوى من هذه القوى الثلاث للنفس فضيلتها. ففضيلة العقل الحكمة وفضيلة القلب الغضب أو الشجاعة وفضيلة الحس الشهوة أو العفة. ومن هنا كانت صفة العدل شرطا أساسيا لهذه الفضائل وإذا انتفت صفة العدل عن الإنسان لم يعد إنسانا فاضلا وانقلبت هذه الفضائل إلى رذائل. وكان لابن مسكويه تأثيره الواضح على الغزالي في هذا التقسيم الثلاثي لقوى النفس ونقله عنه نقلا كاملا. ويذكر ابن مسكويه أن النفس العاقلة أو ما يسميها بالناطقة أو العالمة تتصف بالحكمة والمعرفة. أما النفس الغضبية فهي حوشية الطبع لكنها تقبل الأدب والتهذيب. أما النفس الشهوانية فلا تقبل التأديب أو التهذيب في نظر ابن مسكويه. ويشبه ابن مسكويه هذه النفوس الثلاث أو القوى الثلاث للنفس بمثال الصياد الذي يركب دابته ومعه كلبه. فإذا كانت القيادة للصياد أمكنه الوصول إلى غايته. أما إذا كانت لدابته أو لكلبه فإنه يضل الطريق ولا يصل إلى مراده. لأن الدابة تمثل قوة الشهوة ولا هم لها إلا إشباع معدتها بالحشائش الخضراء غير عابئة بالعوائق التي تعترض طريقها.
وفي هذا خطر على الصياد. والكلب وهو يمثل قوة الغضب يندفع ويجري بعيدا باحثا عن صيد. وقد يجر الصياد إلى المهالك التي تقضي عليه. وهذا المثال يذكرنا بأسطورة أفلاطون عن السائق والعربة التي يجرها جوادان أحدهما سلس القيادة والآخر عصي جامح. وذلك في حديثه عن قوى النفس العاقلة والغضبية والشهوانية. والسائق في الأسطورة يمثل العقل والعربة تمثل الجسم أو البدن، والجواد سلس القيادة يمثل إرادة أو قوة الغضب والجواد العصي أو الجامح يمثل الشهوة. "انظر محمود قاسم ص42".
الفضيلة وصفاتها الأخلاقية:
يسلك ابن مسكويه في نظرته إلى المستقبل مسلك أرسطو الذي يقول بأن الفضيلة وسط بين رذيلتين أو نقيضين كل منهما ليس بفضيلة. ويؤكد ابن مسكويه أن هذه الفضائل لا تحقق إلا بالممارسة والتعامل بين الناس. وذلك أن فصيلة الفرد من فضيلة الجماعة والعكس. كما أن خير الفرد من خير الجماعة والعكس صحيح أيضا. ومن هنا تكون العلاقة بين الفرد والجماعة علاقة تفاعلية تبادلية تقوم على أساس الأخذ والعطاء وكل منهما يستمد قوته من الطرف الآخر.
وأمهات الفضائل عن ابن مسكويه الحكمة والشجاعة والعفة والعدل. وإذا كانت الحكمة ترتبط بالعقل والشجاعة ترتبط بالقلب والعفة ترتبط بالحسن فإن العدل كما يراه ابن مسكويه هو العدل بين هذه الفضائل حتى لا تشط إحداها إلى أحد طرفيها فتصبح رذيلة. فالحكمة قد تصبح سفها أو بلاهة والشجاعة قد تصبح تهورا أو جنبا والعفة قد تصبح شرها أو خمودا "عزوفا". وينقلب الإنسان من أخلاق الفضيلة إلى أخلاق الرذيلة، ويندرج تحت ما يسميه ابن مسكويه بالنفوس الضالة الشريرة.
ويورد ابن مسكويه الصفات الأخلاقية التي تتدرج تحت كل فضيلة. ففضيلة الحكمة يندرج تحتها صفات منها الذكاء وهو سرعة اقتراح النتائج وسهولتها على النفس. ومنها الذكر أو التذكير وهو ثبات صورة ما يخلعه العقل أو الوهم من الأمور. ومنها التعقل وصفاء الذهن وقوته وسهولة التعلم وحدة الفهم للأمور النظرية. وفضيلة العدل أو العدالة يندرج تحتها صفات منها حسن القضاء والمعاملة والألفة والمحبة وصلة الرحم وترك الحقد والمعادة واستعمال اللطف وترك القيل والقال والبحث عن السؤال. ويندرج تحت فضيلة العفة صفات أخلاقية منها الحياء والورع والوقار والقناعة ومقاومة الهوى بالصبر والعطاء. ويندرج تحت فضيلة الشجاعة صفات أخلاقية منها عظم الهمة وكبر النفس والنجدة والشهامة والثبات والحلم واحتمال الكد والكدح. وقد نقل الغزالي عن ابن مسكويه كثيرا من هذه الصفات. "انظر: طه عبد الباقي سرور: ص114، والإحياء: ص3، ص53".
الكمال الإنساني:
يرى ابن مسكويه أن الكمال الإنساني يعتمد على قوتين في نفسه. قوة عالمة تدفع الإنسان إلى الاشتياق إلى تحصيل المعارف والعلوم وقوة عاملة يحتاج إليها الإنسان في تنظيم أموره وتسييرها. وهذه القوة هي التي تتعلق بالكمال الأخلاقي. وإذا كانت القوة العالمة تتعلق بالنظر والفكر والعقل وتحصيل المعارف فإن القوة الثانية تتعلق بأسلوب عمل الإنسان وسلوكه. ولا يتم الكمال الإنساني إلا بتمامهما معا. لأن العلم مبدأ والعمل أو السلوك تمام له. والمبدأ بلا تمام يكون ضائعا والتمام بدون مبدأ يكون مستحيلا. والواقع أن علماء المسلمين قد أكدوا على ضرورة ارتباط العلم بالعمل واعتبروهما وجهين لعملة واحدة. فلا علم بدون عمل ولا عمل بدون علم وهو ما سبق أن فصلنا الكلام عنه.
ويرى ابن مسكويه أن كمال المرء في تميزه عن غيره في أفعال خاصة به لا يشاركه فيها غيره. فكمال الفرس أو الحصان على سبيل المثال هو في هيئته المميزة له وفي قوته وسرعة عدوه. فإذا فقد كمال هيئته وقوته وسرعته فإنه يكون قد فقد كماله كحصان. وكذلك النجار كما له في إتقان صنعته فإذا فقد إتقانه فإنه يفقد كماله كنجار ويصبح إنسانا عاديا.
وهو يرى أن الناس يتفاوتون في الرفعة والوضاعة والشرف والخسة بمقدار اتباعهم للعقل وتحقيقهم لخيرهم وسعادتهم. وأعلى مراتب النفوس تلك التي تخلصت من شهوات البدن وأهوائه وأخذت في تجلية مرآتها حتى تستطيع أن ترى فيها تجلي إشراقات النور الإلهي. وأدنى مراتب النفوس النفوس الضالة التي لا هم لها إلا إشباع الجسم ونزواته. ولهذا صدأت مرآتها فعجزت عن رؤية تجلي النور الإلهي. والفاضل أو الكامل من الناس من يحرص على إعلاء سلطة العقل فوق شهوة الحس.
ويرى ابن مسكويه أن السعادة والفضيلة لا تتحقق عن طريق الزهد والعزلة وابتعاد الفرد عن مخالطة الناس وهو ما يفعله الرهبان المسيحيون والصوفية من
المسلمين. ولا بد من العيش مع الناس ومعاشرتهم والتعامل معهم حتى يظهر المرء ما لديه من فضائل. وبدون ذلك تصبح الفضائل لا قيمة لها. فكيف يطبق الإنسان العدل بدون التعامل مع البشر؟ وكيف يظهر عفته وهو بمعزل عن الناس والبشر؟ وكيف يمارس أي نوع من الفضائل ما لم يحتك بالناس ويتعامل معهم؟ فالفضيلة تتكشف بالممارسة والتعامل مع البشر. ويعرض ابن مسكويه للفضيلة الزائفة التي لا تصدر عن طبع وسجية ونفس خالصة بعيدة عن الرياء والمداهنة. فقد يعمل بعض الناس على الظهور بمظهر العدل وليسوا بعادلين، أو الظهور بمظهر العفة وليسوا بعفيفين. وقد يتظاهرون بالكرم أو السخاء وليسوا بكرماء أو أسخياء، وبالجود أو البر وليسوا من أهله. وهكذا في كل الفضائل والأخلاق الحميدة. ومن هنا كان من الضروري أن يتطابق مظهر الفضيلة مع مخبرها حتى تكون صادقة وإلا اعتبرت زائفة غير حقيقية. وكثير من الناس في واقع حياتهم يتظاهرون بما ليس من حقيقة نفوسهم الداخلية. وهم يتدرجون تحت صفات الغش والخداع والرياء والنفاق حتى لو اكتسوا بثوب الفضيلة. وقد صدق الشاعر حين قال:
ثوب الرياء يشف عما تحته
…
فإذا التحفت به فإنك عار
وقال شاعر آخر:
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
…
فلا خير في ود يجيء تكلفا
الأخلاق:
عقد ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق حديثا مستفيضا عن الأخلاق وهو يرى تمشيا مع الاتجاه الأخلاقي العام في الإسلام أن الغاية من الأخلاق هي "بلوغ الكمال" و"السعادة التامة". وهو يرى أن طريق الوصول إلى هذه السعادة إنما يتحقق بمعرفة الله والعمل بما أنزله في كتابه الكريم. ويرفض ابن مسكويه الرهبنة التي رفضها الإسلام. فلا رهبنة في الإسلام. كما أنه يرفض حياة التصوف التي اعتقدت خاطئة أن الحياة انطواء وانعزال عن الناس وزهد وعزوف عما أحله الله لعباده من الطيبات من الرزق والاستمتاع بها. ويرى ابن مسكويه أن علم الأخلاق عظيم الشأن جليل القدر لأنه يتعلق بجوهر الإنسان الذي فضله الله على كثير من خلقه وجعله أشرف المخلوقات. وإذا كان للإنسان هذا الشرف الكبير فإن العالم الذي يختص به له نفس الدرجة من الشرف والتشريف.
ويرى ابن مسكويه أن الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية. وهي على قسمين: قسم طبيعي من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب. وقسم بالعادة والاكتساب والتدريب. وربما كان مبدؤه بالرؤية والفكر ثم يستمر عليه أولا فأول حتى يصير ملكه وخلقا. وهذا يعني أن للأخلاق جانبين: جانب الطبع أو المزاج، وجانب التطبع والاكتساب. ويقول في "ص181" "ولذلك حكمنا أن بعض الناس أخيار بالطبع وبعضهم أخيار بالشرع والتعليم". ويقول في نفس الصفحة:"وتجد من الناس من هو خير فاضل من مبدأ تكوينه نرى فيه النجابة طفلا ونتفرس فيه الفلاحة "أي الفلاح" ناشئا بأن يكون حييا كريم الخيم "السجية والطبع" يؤثر مجالسة الأخيار ومؤانسة الفضلاء وينفر من أضدادهم. وليس يكون ذلك إلا بعناية تلحقه من أول مولده. ونجد أيضا من لا يكون بهذه الصفة من مبدأ تكوينه بل يكن كسائر الصبيان إلا أنه يسعى ويجتهد ويطلب الحق إذا رأى اختلاف الناس فيه. ولا يزال كذلك حتى يبلغ مرتبة الحكماء. أعني أن يصير علمه صحيحا وعمله صوابا. وليس يبلغ هذه الدرجة إلا بالتفلسف وإطراح العصبيات، وسائر ما حذرنا منه. ونجد أيضا من يوجد بهذه السيرة أخذا على الإكراه إما بالتأديب الشرعي وإما بالتعليم الحكمي.
وهناك غموض فيما يقوله ابن مسكويه لأنه يعود فيقول بأن كل خلق ليس من الطبع وذلك باستخدام القياس المنطقي في قضية تتكون من مقدمتين ونتيجة على النحو التالي:
المقدمة الأولى: كل خلق يمكن تغييره.
المقدمة الثانية: كل ما يمكن تغييره ليس من الطبع.
والنتيجة هي: كل خلق ليس من الطبع.
فكيف نوفق إذن بين قوله هذا وبين ما سبق أن أشرنا إليه من قوله بأن بعض الناس أخيار بالطبع؟ وهو يدلل على صحة المقدمة الأولى بما جاءت به الشرائع السماوية لهداية الخلق وتوجيههم وبما هو واقع ومشاهد في العيان من وجوب التأديب ونفعه وتأثيره في الأحداث والصبيان. ويستدل على صحة المقدمة الثانية بأننا لا نروم أبدا تغيير شيء مما هو بالطبع. فلا أحد يروم تغيير حركة الحجر في سقوطه إلى أعلى بدلا من سقوطه إلى أسفل. ولو رامه ما صح له تغيير شيء منه ولا يجوز منه ولا مما يجري مجراه.
ومن الواضح أن ابن مسكويه ويتبعه الغزالي في ذلك لا يقول بفطرية الخلق أو الأخلاق كما ذهب الفلاسفة المثاليون ولا يقول بأن الأخلاق كلها مكتسبة كما يقول الفلاسفة التجريبيون والوصفيون. وإنما تجمع الأخلاق بين هذا وذاك "انظر الإحياء. ج3 ص59" ويرى ابن مسكويه أن مسئولية تهذيب الأخلاق تقع على الفرد نفسه فهو المسئول عن أفعاله وأعماله. وهو الذي يستطيع أن يغير طبعه ويشذبه ويهذبه. وهو يرى أن المبادئ والمعايير الخلقية تكتسب بالتأديب والتعليم. وليس هناك في فطرة الإنسان ما يمنعه عن هذا الاكتساب بالتأديب والتعليم. فالأخلاق استعداد وتهيؤ لدى الإنسان. واختلاف الناس في قبول الأخلاق ترجع إلى اختلاف استعدادهم وتهيؤهم. فكل مهيأ لما خلق له. كما ترجع إلى مسئولية كل فرد في تهذيب خلقه كما أشرنا.
وهو يرى أن الإرادة أساس الفعل الأخلاقي بل إنها تعتبر شرطا رئيسيا لاعتبار الفعل أخلاقيا. فنحن نحكم على الإنسان بكونه خيرا أو شرا حسب اتجاه إرادته نحو الخير والشر. فالإنسان كائن مريد. وهو في هذا يختلف عن الكائنات الأخرى التي تحيا طبيعتها الحيوانية. ومن ثم فهي لا تتصف بصفات أخلاقية ولا تسلك وفقا لأي سلوك أخلاقي.
أمراض النفوس وعلاجها:
يتحدث ابن مسكويه حديثا مستفيضا عن أمراض النفوس وعلاجها ويخصص لها جزءا كبيرا في كتابه يقول فيه: إن النفوس تمرض كما يمرض البدن، وأن أمراض النفوس تؤثر في البدن. وأمراض النفس قد تكون بالغضب أو بالحزن أو بالعشق أو بالشهوات الهائجة. والمريض بها تتغير صورة بدنه حتى يضطرب ويرتعد ويصفر ويحمر ويهزل ويسمن ويلحقه ضروب التغبر المشاهدة بالحس. ولعلاج أمراض النفوس يقول: علينا أن نتفقد مبدأ المريض إذا كان من نفوسنا. فإن كان مبدؤه من ذاتها كالفكر في الأشياء الرديئة وإحالة الرأي فيها. وكاستشعار الخوف، والخوف من الأمور العارضة والمترقبة، والشهوات الهائجة قصدنا علاجها بما يغضها. وإن كان مبدؤه من المزاج ومن الحواس كالخور الذي مبدؤه ضعف حرارة القلب مع الكسل والرفاهية. وكالعشق الذي مبدؤه النظر مع الفراغ والبطالة قصدنا علاجه أيضا بما يخصه. إن طب الأبدان ينقسم إلى قسمين: أحدهما حفظ صحتها إذا كانت حاضرة، أي إذا كانت الصحة موجودة. والثاني رد صحة الأبدان إذا كانت غائبة أي غير موجودة. وكذلك طب النفوس ينقسم إلى القسمة بعينها. فنحفظ على النفوس صحتها إذا كانت حاضرة، ونردها إليها إذا كانت غائبة. فإذا كانت النفوس خيرة فاضلة تحب نيل الفضائل وتحرص على إصابتها، وتشتاق إلى العلوم الحقيقية والمعارف الصحيحة، فيجب على صاحبها أن يعاشر من يجانسه ويشاكله ويماثله ولا يأنس بغيرهم ولا يجالس سواهم. ويحذر كل الحذر من معاشرة أهل الشر والمجون ولا يصغى إلى أخبارهم مستطيبا، ولا يروي أشعارهم مستحسنا، ولا يحضر مجالسهم مبتهجا. ذلك أن حضور مجلس واحد من مجالسهم أو سمع خبر واحد من أخبارهم يعلق من وضره ووسخه بالنفس المحنك وغواية العالم المستبصر فضلا عن الحدث الناشئ المسترشد. ومما يحفظ على النفس صحتها مداومة النظر والفكر والنشاط. وذلك أن النفس متى تعطلت عن النظر وعدمت الفكر والغوص عن المعاني تبلدت وبلهت وانقطعت عنها مادة كل خبر. وإذا ألفت الكسل واختارت العطلة قرب هلاكها لأن في عطلتها هذه انسلاخا من صورتها الخاصة بها، ورجوعا منها إلى رتبة البهائم. وهذا هو الانتكاس في الخلق نعوذ بالله منه. وهو يرى أن من أمراض النفوس النسيان وهو آفة العلم ويوصي بالمتعلم بألا يتكاسل عن معاودة ومراجعة ما علمه وتعلمه ودرسه. ويورد قول الحسن البصري رحمه الله:
"اقدعوا هذه النفوس "أي كفوها عن الآثام" فإنها طائعة وحادثوها فإنها سريعة الدثور" أي النسيان. ويعلق على هذه العبارة بقوله: واعلم أن هذه الكلمات مع قلة حروفها كثيرة المعاني وهي مع ذلك فصيحة واستوفت شروط البلاغة "ابن مسكويه: 185-188". ومما يحافظ على صحة النفس ألا يحرك المرء قوته الشهوانية والغضبية بل يتركها حتى يتحركا بأنفسهما. ولذلك يجب ألا يتذكر أعمال هاتين القوتين حتى لا يشتاق إليهما ويتحرك نحوها. بل يتركهما فإنهما يهيجان عند حاجتهما ويلتمسان ما يحتاج البدن إليه. ويتخذان من باعث الطبيعة ما يغني عن باعث الفكر. لأن الله تعالى إنما وهب هاتين القوتين لنا لنستخدمهما عند الحاجة إليهما لا لنخدمهما ونتعبد لهما.
ومن الأمور التي ينصح بها ابن مسكويه في المحافظة على صحة النفس أن يمعن المرء النظر في كل ما يعمل ويدبر حتى لا يخالف ما يجب تمييزه وتعقله. فما أكثر ما يعرض للإنسان من أفعال تخالف ما عقد عليه عزمه ورأيه. وعندما يقع له ذلك وجب عليه أن يضع لنفسه عقوبات لمقابلة مثل هذه الأخطاء أو الذنوب. فإذا أنكر من نفسه مبادرة إلى طعام ضار أو تناول فاكهة أو حلواء غير موافقة عاقب نفسه بصوم لا يفطر منه إلا على ألطف ما يقدر عليه وأقله، وإن أمكنه الطي "أي طي البطن وهو الجوع" فليفعل ويمكن في توبيخه لنفسه أن يقول لها: إنما قصدت تناول النافع فتناولت الضار. وهذا فعل من لا عقل له. وإن أنكر من نفسه كسلا وتدانيا في مصلحة له فليعاقب نفسه بسعي فيه مشقة أو صلاة فيها طول أو بعض الأعمال الصالحة التي فيها كدر وتعب. وليحذر في كل أوقاته ملابسة رذيلة أو مساعدة رفيق عليها أو مخالفة صواب. ولا يستحقون شيئا مما يأتيه من صغار السيئات. ولا يطلبن رخصة منها فإن ذلك يدعوه إلى أعظم منها. ومعظم النار من مستصغر الشرر. ويجب على المرء أن يتعود الصبر على ما يجب الصبر عليه والحلم عما ينبغي أن يحلم عنه ويضبط النفس عن الشهوات الرديئة ولا ينتظر دفع هذه الرذيلة وقت هجائها فإن الأمر يكون عن ذلك صعبا جدا. ولعله غير ممكن البته. ومن تعود في أول نشأته وشبابه ضبط النفس عن شهواتها عند ثورة غضبه وحفظ لسانه واحتمال أقرانه خف عليه
ما يثقل على غيره ممن لم يتأدب بهذه الآداب "المرجع السابق: 194-196".
ومن الأمور التي يحافظ بها المرء على صحة نفسه معرفته لعيوبها حتى يسهل عليه علاجها. ويورد ابن مسكويه ما ذكره جالينوس في هذا الصدد بقوله: "إنه لما كان كل إنسان يحب نفسه خفيت عليه معايبه ولم يرها وإن كانت ظاهرة. وينتقد ما أشار به جالينوس من علاج لتخلص المرء من عيوبه. وذلك باختيار صديق كامل فاضل يحكمه في بيان عيوبه ومساوئه. ويعلق فيه. ويرى بدلا من ذلك أن العدو في هذا الموضع أنفع من الصديق. فالعدو لا يحتشم في إظهار عيوبنا. بل يتجاوز ما يعرف منا إلى التحرض والكذب فيها. فننتبه إلى كثير من عيوبنا. بل نتجاوز ذلك إلى أن نتهم نفوسنا بما ليس فيها.. ويعود فيقول إن لجالينوس مقالة أخرى يذكر فيها إن خيار الناس ينتفعون بأعدائهم. ويوافقه على ذلك. ويورد ابن مسكويه ما قاله في ذلك أبو يوسف بن إسحاق الكندي. وهو أن على طالب الفضيلة أن يتخذ صور جميع معارفه من الناس مرآة له تريه صورة كل واحد منهم عندما تعرض له آلام الشهوات التي تثمر السيئات حتى لا يغيب عنه شيء من السيئات التي له. وبذلك يكون متفقدا لسيئات الناس. فإذا رأى سيئة بادية من أحد ذم نفسه عليها كأنه هو الذي فعلها، وأكثر عتبه على نفسه من أجلها. وإذا وقف عند محاسبته لنفسه، فإن النفوس بهذا ترتدع عن المساوئ وتألف الحسنات. ويعلق ابن مسكويه على ما ذكره الكندي بأنه أبلغ مما قاله من سبقوه وتقدموا عليه "المرجع السابق: 196-198".
ومن الأمراض الغالبة على النفس الغضب. ويقول عنه ابن مسكويه إن الغضب في الحقيقة حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للانتقام. فإذا كانت هذه الحركة عنيفة أججت نار الغضب واحترامتها فاحتد غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخانا مظلما مضطربا يسوء منه حال العقل ويضعف فعله. فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصم عن الموعظة. بل تصير المواعظ في
تلك الحالة سببا لزيادة الغضب ومادة اللهب والتأجج. وليس له في تلك الحال حيلة. فالناس يتفاوتون بحسب المزاج. فإن كان المزاج حارا يابسا كان أشبه بالكبريت الذي إذا أدنيت منه الشرارة الضعيفة التهب. وإن كان بالضر فماله بالضر. ولكن إذا احتدم الغضب فيكاد الحال يتفاوت مثله مثل اشتغال النار في الحطب اليابس والرطب. ومثل اشتعال النار بسرعة وشدة من الكبريت والنفط. كما أن الاحتكاك وإن كان ضعيفا في توليد النار فربما قوي حتى تلتهب منه الأمة العظيمة. وكذلك النفس إذا استشاطت غضبا فليس يرجى لها حيلة البتة.
وأسباب الغضب كما يذكرها ابن مسكويه هي: العجب والافتخار والمراء واللجاج والمزاج والتيه والاستهزاء والغدر والضيم أو الظلم وطلب الأمور التي فيها لذة ويتنافس فيها الناس ويتحاسدون عليها. وغاية هذه الأسباب جميعا شهوة الانتقام. وعواقبها الندامة وتوقع العقاب عاجلا أو آجلا وتغير المزاج وتعجل الألم. ذلك أن الغضب جنون ساعة أو لحظة وربما أدى إلى التلف باختناق حرارة القلب فيه. وربما كان سببا لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف. ومن لواحقه أيضا مقت الأصدقاء وشماتة الأعداء واستهزاء الحساد والأراذل من الناس. ويرى ابن مسكويه أن لكل من أسباب الغضب السابقة علاجا يبدأ به حتى يقتلع من أصله.
فالعجب وهو من أسباب الغضب، هو في حقيقته ظن كاذب بالنفس باستحقاق مرتبة غير مستحقة لها. وعلى المرء أن يعرف أنه لا يخلو من عيوب ونقائض فالفضل مقسوم بين البشر. ولا يكمل المرء إلا بفضائل غيره. ومن كانت فضيلته عند غيره وجب عليه ألا يعجب بنفسه. وكذلك الافتخار بما هو خارج عنه فقد باهى بما لا يملكه. وكيف يملك ما هو معرض للزوال في كل ساعة وفي كل لحظة. وأوضح مثال على ذلك ما ذكره القرآن الكريم في سورة الكهف: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} .
وأما المزاج واللجاج فيولدن الفرقة والتباغض بين الإخوان ولذلك ينبغي الابتعاد عنها وتجنبها. وأما المزاج المعتدل منه محمود وكان رسول الله صلى الله عليه سلم يمزج ولا يقول إلا حقا. ولذلك ينبغي الاعتدال في المزاج وعدم التمادي فيه حتى لا يخرج عن حده وينقلب إلى ضده. فيثير غضبا كامنا ويزرع حقدا باقيا. وقد قال الشاعر في هذا الصدد:
ورب حرب جره اللعب
…
وبعض الحرب أوله مزاح
وأما التيه فهو قريب من العجب. والفرق بينهما أن التياه ينبه على غيره ولا يكذب نفسه أما العجب فيعجب بنفسه ويكذب عليها فيما يظن لها. وعلاج الاثنين واحد. وذلك بأن يعرف المرء أن ما يتيه به لا مقدار له عند العقلاء وأنهم لا يعتدون به لخساسة قدره وزوال نعمه.
وأما الاستهزاء فيستعمله الماجنون من الناس ومن لا يبالي بمن يقابل به والحر القاضل من يبتعد عن هذا المقام حتى يكرم نفسه وعرضه بعدم تعرضها للسفهاء الذين قال فيهم رب العزة في سورة النساء: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . ونحن نقول في دعوانا ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
وأما الغدر فهو مذموم بكل لسان وينفر السماع من ذكره وضده الوفاء. ومن عرف قبح الغدر باسمه ونفور العقلاء منه وجب عليه أن يبتعد عنه وينفر منه.
أما الضيم فهو الظلم الذي قد يكون شهوة للانتقام. وقد نفى رب العزة الظلم عن نفسه فقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . ولذلك وجب أن يبتعد المرء عن الضيم لأنه مدمر للحياة الاجتماعية وعكسه العدل الذي سبق أن أفضنا في الكلام عنه. ويجب ألا يسرع المرء إلى الانتقام عندما يحيق به ظلم أو يلحقه ضيم حتى لا يعود عليه بضرر أعظم من احتمال الظلم أو الضيم.
أما طلب الأمور التي فيها لذة ويتنافس فيها الناس مثل الجواهر النفيسة والأحجار الكريمة وغيرها من المقنيات فلا يقدر عليها إلا الموسرون. وهي قليلة الانتفاع بها والحاجة إليها وعادة ما تقتني لخزنها وقد لا ينتفع بها إلا نادرا. والتنافس على شرائها وامتلاكها خطأ من القادرين على شرائها فضلا عن أوساط الناس "المرجع السابق: ص205-213".
ومن أمراض النفس الخوف. ويكون من توقع مكروه وانتظار محذور. والتوقع والانتظار إنما ذكن للحوادث في الزمان المستقبل. وهذه الحوادث قد تكون عظيمة أو يسيرة وقد تكون ضرورية أو ممكنة. والأمور الممكنة قد تكون نحن أسبابها وقد يكون غيرنا سببها. وجميعها لا ينبغي للعاقل أن يخاف منها. وهي تقع أو تكون وقد لا تقع ولا تكون. ويجب على المرء ألا يصر على أنها تكون فيستشعر الخوف منها ويتعجل مكروه التألم بها وهي لم تقع بعد ولعلها لا تقع بالمرة. ويجب أن يكون الخوف من مكروه على قدر حدوثه. وإنما يحسن العيش وتطيب الحياة بالظن الجميل والأمل القوي وترك الفكر في كل ما يمكن ألا يقع من المكاره. وأما ما كان سببه سوء اختيارنا وجنايتنا على أنفسنا فينبغي أن نحذر منه بترك الذنوب والأعمال التي نخاف عواقبها ولا تؤمن غوائلها وأما الأمور الضرورية كالهرم وكبر السن وتوابعه فعلاج الخوف منه أن تعلم أن الإنسان إذا أحب طول الحياة فقد أحب لا محالة الهرم. ومع الهرم يحدث نقصان الحرارة الغريزية والرطوبة الأصيلة التابعة لها. وضعف الأعضاء الأصيلة كلها. ويتبع ذلك قلة الحركة وبطلان النشاط وضعف آلات الهضم وسقوط آلات الطحن ونقصان القوى المدبرة للحياة. وأما الخوف من الموت فسببه الجهل بحقيقته وحقيقة مصير الناس بعده لأن الإنسان يخاف من المجهول. وهذا الجهل
هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به. وهو تعب فيه راحة من الجهل وأن التعب الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس، والبرء من خلاص لها وراحة سرمدية ولذة أبدية. ولذلك هانت عليهم أمور الدنيا كلها واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية والمطالب التي تؤدي إليها. أما صاحب النفس المطمئنة الذي يعرف أنها ترجع إلى ربها راضية مرضية لتشاهد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهو لا يخاف الموت ولا يخشاه بل يتلقاه ويتقبله بنفس راضية. ولأن الموت تمام حد الإنسان فهو حي ناطق ميت. والموت كمال ربه يصير إلى الأفق الأعلى. وقد جزم الحكماء بأن الموت موتان: موت إرادي وعنوا به إماته الشهوات وترك التعرض لها، وموت طبيعي وهو مفارقة النفس للبدن. ومن خاف الموت الطبيعي فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه ومن أجهل ممن يخاف تمام ذاته؟ ومن خاف الموت ظنا منه أن ينبغي أن يرجوه ومن أجهل ممن يخاف تمام ذاته؟ ومن خاف الموت ظنا منه أن للموت ألما عظيما فعلاجه أن يبين له أن هذا ظن كاذب لأن الألم إنما يكون للحي. أما الجسم الذي ليس فيه أثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس. ومن خاف الموت لأجل العقاب على ذنوبه وسيئاته. فالواجب عليه أن يحذر في حياته تلك الذنوب ويجتنبها.
ومن أمراض النفس التي يشير إليها ابن مسكويه أيضا الحزن. ويقول عنه إنه ألم نفساني يعرض لفقد محبوب أو فوات مطلوب. وسببه الشرة إلى الشهوات البدنية والحسرة على ما يفقده المرء أو يفوته منها ويورد ما حكى عن سقراط عندما سئل عن سبب نشاطه وقلة حزنه فقال: لأنني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه. وهو يذكر أن الحزن مرض عارض. والعاقل من ينظر إلى أحوال الناس في الحزن وأسبابه ليعلم أنه ليس يختص من بينهم بمصيبة غريبة ولا يتميز عنهم بمحنة بديعة وأن غايته من مصيبته السلوة. ومن رأى مصيبة غيره وبلواه هانت عليه مصيبته.
أما الحسد فيقول عنه إنه أشنع الشرور وأقبح الأمراض. وقد قال الشاعر:
وأظلم أهل الأرض ما بات حاسدا
…
لمن بات في نعمائه يتقلب
وقد أشار رب العزة في سورة الفلق إلى التعوذ من شر حاسد إذا حسد ومن المعروف أن الحسد مكروه لأن الحاسد يتمنى زوال نعمة المحسود. أما الغبطة فتعني تمنى المرء مثل ما للمغبوط من نعمة من غير تمني زوالها. فهو يغبطه على نعمته ولا يحسده عليها.
تربية النشء:
أكد ابن مسكويه في تربية النشء على أهمية الدين واعتبره دعامة قوية في هذه التربية لأنه حصن للشباب وغير عاصم لهم من الزلل والخطأ. وهو يرى أن تربية الصبي وتنشئته على الخلال الحميدة إنما تكون عن طريق العقل، وأن ظهور الحياء عليه دليل على بزوغ عقله وأنه أصبح يدرك القبيح والحسن ويميز بينهما. كما أنه يرى أن نفس الصبي مهيأة للإدراك والمعرفة. فهي أشبه بصفحة بيضاء ولم تنتقش بعد صورة ولا رأي لها وعزيمة تمليها من شيء إلى شيء. فإذا تفشت بصورة وقبلتها نشأت عليها واعتادتها. وقد تردد صدى هذا القول لابن مسكويه عند الغزالي فيما بعد "الإحياء: ج35، ص69". كما ذهب جون لوك في العصور الحديثة إلى القول أيضا بأن عقل الطفل صفحة بيضاء Tabula Rasa. ولهذا يرى ابن مسكويه أنه يجب أن نطبع في نفس الصبي القيم والمثل العليا والاعتزاز بالنفس والكرامة. كما يجب أن نطالب الصبي بحفظ جيد الأشعار ومحاسن الأخبار، وأن نجنبه سماع الأشعار السيئة ومرافقة أهل السوء. ويشير ابن مسكويه إلى ناحية تربوية هامة في التعامل مع الصبي وهي أن نمدحه على كل ما يظهر منه من خلق جميل وفعل حسن ونكافئه عليه وإن حدث منه مخالفة فالأولى ألا يوبخ عليها ولا يكاشف بها بل يتغافل عنها لا سيما إذا حاول إخفاءها. ذلك أنه إذا تعود على التوبيخ والمكاشفة حمله ذلك على الوقاحة وحرضه على معاودة ما كان قد استقبحه. وهان عليه سماع الملامة في ركوب القبائح التي تدعو إليها نفسه. وهو ما نقله الغزالي نقلا يكاد يكون حرفيا "انظر الإحياء: ج3 ص70" وبالنسبة لأدب العلم والتعلم يقول ابن مسكويه إنه ينبغي أن يعود الصبي على خدمة نفسه ومعلمه وكل من كان أكبر منه. وأن يعود على طاعة والديه ومعلميه ومؤدبيه وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم. وفي تلقيه العلم من أستاذه عليه ألا يعترض ولا يسأل بل يكتفي في بداية أمره
بالقبول حتى إذا بلغ في العلم شأنا يمكنه من معرفة الأسباب والعلل طالع الحكمة فوجدها موافقة لما تقدمت عادته به فاستحكم رأيه وقويت بصيرته ونفذت عزيمته.
وينبغي أن يؤذن للصبي في بعض الأوقات أن يلعب لعبا جميلا ليستريح إليه من تعب الأدب ولا يكون في لعبة ألم ولا تعب شديد. وقد نقل الغزالي هذا القول عن ابن مسكويه وردده في كتابه إحياء علوم الدين. "الإحياء ج3: ص71".
وتعرض ابن مسكويه بتفصيل كبير إلى آداب الأكل والطعام. فأشار إلى عدة مبادئ هامة منها أن يوضح للنشء أن الأطعمة إنما تراد للصحة لا للذة أي أننا نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل. وهو مبدأ صحي وأخلاقي سليم فالأطعمة والأغذية شبيهة بالأدوية نداوي بها الجوع كما نداوي بالأدوية المرض. ومن مبادئ آداب الطعام أيضا أن يعلم الصبية إذا جلسوا مع غيرهم على مائدة الطعام ألا يبادروا إلى الطعام أولا، وألا يديموا النظر إلى أنواعه الموجودة. ولا ينبغي لهم أن يتسرعوا في الأكل أو يضخموا الكمية المتناولة. وينبغي عليهم أن يمضغوا الطعام جيدا ولا يبادروا ببلعه. ولا ينبغي للصبي أن يلطخ يده أو ثوبه بما يتناوله من طعام. وهو ما ردده الغزالي فيما بعد "الإحياء: ج3: ص70". ويشير إلى الشعوب العربية والإسلامية. وهي ألا يجعل غذاءه الرئيسي نهارا لأن ذلك يحمله على الكسل ويلجئه إلى النوم ويتبلد ذهنه وفهمه. وإنما يستوفي غذائه العشى لأن هذا أصح له وأنسب بعد عناء يومه. ومن الواضح أن هذا على نقيض ما تجري عليه عادة الكثيرين منا من جعل وجبة الغذاء هي الوجبة الرئيسية.
وينصح ابن مسكويه بمنع الصبي من الإكثار من أكل اللحم، وإن منع منه في أكثر أوقاته كان أنفع له حتى لا يتعود على الترف. أما الحلوى فيمنع منها البتة إن أمكن وإلا فليتناول القليل منها لأنها تستحيل في بدنه فتكثر انحلاله كما أنها تعوده على الشر والاستكثار من الأكل. وهذا عكس ما يفعله كثيرون منا مع أبنائهم إذ يغمرونهم باللحوم من مختلف الأنواع وبالحلوى من مختلف
الأشكال والمذاق.
وبالنسبة إلى آداب اللباس يشير ابن مسكويه بألا يتزين الصبي بملابس النساء، ولا يلبس الخليع منها، ولا يفتخر على أقرانه بشيء من مأكله وملبسه ولا بما يملكه والده. ويجب أن يعود الصبي على التواضع وكرم المعاشرة وعدم الكذب وعدم الحلف باليمين البتة سواء كان صادقا أم كاذبا. ويجب أن يعود الصمت وقلة الكلام. ويمنع من خبيث الخلام ومن السب واللعن ولغو الكلام. وقد أشار الغزالي إلى نفس هذه الآداب نقلها عن ابن مسكويه نقلا يكاد يكون حرفيا. "انظر كتاب الإحياء: ج3. ص69-71".
الماوردي وآراؤه التربوية
مقدمة
…
4-
الماوردي وآراؤه التربوية:
"364هـ-450هـ"
مقدمة:
الاسم الكامل للماوردي هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، ولد بالبصرة وتلقى تعليمه بها. ثم انتقل إلى بغداد حيث واصل تعليمه في دراسة الفقه والحديث وغيرهما من العلوم. وقد امتدت حياته من عام مولده سنة 364هـ حتى مماته سنة 450هـ وله من العمر ست وثمانون عاما. وهذا يعني أنه عاش خلال الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري والنصف الأول من القرن الخامس الهجري. وهي الفترة التي كانت الثقافة الإسلامية في قمة ازدهارها. وهو علم من أعلام الفكر الإسلامي وأكبر فقهاء الشافعية يقول عنه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى إنه كان إماما جليلا له اليد الباسطة في المذهب والتفنن التام في سائر العلوم. ويقول عنه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد إنه كان من وجوه الفقهاء الشافعيين، وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه وغير ذلك، وتولى القضاء في بلدان كثيرة وكان ثقة. كما اشتغل بالتدريس عدة سنين في البصرة وبغداد.
شيوخه وأساتذته:
تلقى الماوردي تعليمه على يد شيوخ وأساتذة عديدين نذكر منهم الحسن بن علي بن محمد الجبلي ومحمد بن الفضل البغدادي ومحمد بن المعلي الآزدي وأبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني.
توليه القضاء:
تذكر كتب التاريخ أن الماوردي تولى القضاء في بلدان كثيرة. ويقول عنه ياقوت إنه كان يلقب بأقضى القضاة. وكان رئيس القضاة في إحدى نواحي نيسابور. واختير سفيرا بين رجالات الدولة في بغداد وبني بويه من "381هـ-422هـ" فكانت له منزلة كريمة عند الخليفة القادر وعند آل بويه كذلك "الماوردي طبعة بيروت. مقدمة لمصطفى السقا ص4".
كتبه ومؤلفاته:
ترك لنا الماوردي كتبا كثيرة تقدر بنحو اثني عشر كتابا بعضها لم يطبع وهي تشمل كتبا دينية وأخرى لغوية وأدبية وثالثة في السياسة والاجتماع. ومن أضخم كتبه كتاب الحاوي الكبير وهو موسوعة ضخمة في فقه الشافعية تقع في أكثر من عشرين جزءا، وكتاب الإقناع وهو مختصر من الحاوي، وكتاب أدب القاضي وهو لم يطبع وكتاب أعلام النبوة لم يطبع أيضا، وكتاب الأحكام السلطانية وقد طبع في مصر عدة طبعات. تكلم فيه عن نظم الدولة والقضاء والإمارة والحدود والجزية والحسبة، وكتاب قوانين الوزارة وسياسة الملك وقد طبع في مصر عام 1929 بعنوان "أدب الوزير"، وكتاب البغية العليا في أدب الدين والدنيا. وهو أكثر كتبه شهرة وانتشارا. وعرف باسم كتاب "أدب الدنيا والدين" وقد طبع بمصر عدة طبعات كما ترجم إلى الإنجليزية. ويتناول الكتاب الأخلاق والفضائل الدينية مستندا إلى ما جاء في القرآن والسنة كما يتناول الكتاب كثيرا من الآداب الاجتماعية. وهو كتاب عظيم الشأن يضم آراءه في تربية النشء وله في ذلك نظرة ثاقبة. وسنعتمد في بيان آرائه التربوية على ما جاء في هذا الكتاب.
الماوردي والأصفهاني وابن خلدون:
يقول الأستاذ مصطفى السقا في مقدمته لكتاب "أدب الدنيا والدين" طبعة دار الكتب العلمية ببيروت إنه يلوح له من مباحث الماوردي أنه كان أحد الرواد الأوائل الذين مهدوا لابن خلدون عالم الاجتماع والتاريخ سبيل القول في كثير من الأبواب والفصول التي وضعها في مقدمته لتاريخه الكبير. وهذه ملاحظة قيمة له يعود بعدها فيقول إن إثباتها يحتاج إلى بحث مستقل. وكنت قبل قراءتي لهذه الملاحظة في هذه الطبعة قد قرأت كتاب أدب الدنيا والدين الذي طبعته مطبعة صبيح وأولاده بالقاهرة. وتوصلت إلى نفس الملاحظة وأشرت إليها في طبقة سابقة لكتابي عن التربية الإسلامية. وقد اتسع نطاق هذه الملاحظة عندما قرأت كتابي الراغب الأصفهاني "الذريعة في أحكام الشريعة" و"تفصيل النشأتين" فوجدت عبارات مشابهة لما ورد عن الماوردي وهو سابق له أيضا. وسأشير هنا إلى بعض الأمثلة.
كثير منا عندما تذكر عبارة "الإنسان مدني بالطبع" ينسبها للتو إلى ابن خلدون وقد ذكرها في مقدمته في الباب الأول في أول كلامه عن العمران البشري وقد سبق أن وردت هذه العبارة كعنوان نصه الإنسان مدني بطبعه في أول كلام عن باب أدب الدنيا. كما وردت هذه العبارة بنفس النص عند الراغب الأصفهاني في كتاب الذريعة المشار إليه والواقع أن ابن مسكويه قد ذكر هذه العبارة وهو سابق لهم جميعا. وهو ما سبق أن أشرنا إليه عند كلامنا عن ابن مسكويه. وكلام الماوردي عن التدرج في طلب العلوم "ص55 طبعة بيروت" يتشابه مع كلام ابن خلدون في حديثه عن وجه الصواب في تعليم العلوم. وسنفصل الكلام عن ذلك. وكلام ابن خلدون عن الظلم مؤذن بخراب العمران يتشابه مع ما ذكره الماوردي في قوله ص141: "وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور -أي الظلم-".
الإنسان مدني بطبعه:
يقول الماوردي تحت هذا العنوان في أول الكلام عن باب أدب الدنيا "اعلم أن الله تعالى لنافذ قدرته وبالغ حكمته خلق الخلق بتدبيره وفطرهم بتقديره فكان من لطيف ما دبر وبديع ما قدر أن خلقهم محتاجين وفطرهم عاجزين
…
ثم جعل الإنسان أكثر حاجة من الحيوان لأن من الحيوان ما يستقل بنفسه عن جنسه والإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه".
ويقول ابن خلدون في أول كلامه في الباب الأول الكتاب الأول عن العمران البشري: "إن الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع. وهو معنى العمران
…
إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من الغذاء
…
ويحتاج
…
في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوان
…
أكمل من حظ الإنسان.. فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه "الإنسان" وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولا تتم حياته.
ومن الواضح التشابه بينهما. كما أن ابن خلدون لا ينسب إلى نفسه عبارة "الإنسان مدني بالطبع" مما يوضح أنه ناقل لها من غيره.
العقل أس الفضائل:
يعتبر الماوردي العقل أصل الفضائل وأساسها. وهو ينبوع الآداب. جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا فأوجب التكليف بكماله وجعل الدنيا تدبر بأحكامه. وألف به بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم وتباين أغراضهم ومقاصدهم. ويورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردي"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أفضل الناس أعقل الناس". وهو يقسم العقل إلى قسمين غريزي ومكتسب. والعقل الغريزي هو الفطري الذي يولد به ويميزه عن سائر الحيوان. أما العقل المكتسب فهو الذي يتكون لدى الإنسان من الخبرة والتجارب التي يمر بها في الحياة "المرجع السابق: 20". والماوردي بهذا سابق -بهذا القول- لعلماء النفس المحدثين لا سيما عالم النفس الأمريكي كاتل CATTELL الذي خرج علينا بفكرته عن الذكاء الفطري أو الطبيعي والذكاء المكتسب FLUID AND CRYSTALLIZED INTELLIGENCE في الأربعينيات من القرن العشرين وبدأت في الذيوع عام 1965 عندما جاء جون هورن JOHN HORN أحد تلاميذ كاتل في الدكتوراه وعمل على نشرها من خلال بحوثه. وهو يقول إن العقل سمي بذلك تشبيها بعقل الناقة لأن العقل يمنع الإنسان من الإقدام على شهواته إذا جبحت كما يمنع العقال الناقة من الشرود إذا نفرت. ويؤيد قوله بما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "العقل نور في القلب يفرق بين الحق والباطل".