الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدولة والتربية في الإسلام:
لفهم علاقة الدولة بالتربية في الإسلام ينبغي منذ البداية أن تذكر أن الإسلام دين ودولة. وهو بهذا يحتل مكانة متميزة بين الديانات السماوية الأخرى، كما أنه يتميز أيضا عن النظم الوضعية الدستورية والمدنية. ومنذ العصور الأولى للإسلام كانت السلطة الدينية والمدنية تتمثل في شخص واحد هو أمير المؤمنين فهو إمامهم وحاكمهم العادل، وعلى الرغم من التطور الذي حدث للإسلام فيما بعد فما زال حاكم المسلمين راعيا ومسئولا عن مصالحهم الدينية والدنيوية على السواء، ويتضح الدور الهام في الإسلام مما ذكره الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز عندما طلب منه أن يصف له الإمام العادل فكتب إليه الحسن البصري يقول:
"اعلم يا أمير المؤمنين أن الله قد جعل الإمام العدل قوام كل مائل وقصد كل جائر وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف ونصفه كل مظلوم ومفزع كل ملهوف والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة. ويحميها من السباع يكنها من أذى الحر والقر. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده. يسعى لهم صغارا ويعلمهم كبارا، يكتسب لهم في حياته ويدخر لهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها حملته كرها ووضعته كرها وربته طفلا تسكن بسكونه ترضعه تارة وتفطمه أخرى وتفرح بعافيته وتهتم بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين موصي اليتامى وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده. والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله، ويسمعهم وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزع بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من
يليها، وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم. واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، ويسلمونك في قعرة فريدا وحيدا، فتزود له بما يصحبك {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن يا أمير المؤمنين وأنك في مهل، وقبل حلول الأجل وانقطاع الأمل لا تحكم يا أمير المؤمنين بحكم الجاهلين. ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك. ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ويأكلون الطيبات في دنياهم بذهاب طيباتك في آخرتك. لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدا، وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقف بين يدي الله في مجمع الملائكة والنبيين والمرسلين {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . وإني يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي لم آل من شفقة نصحا، فأنزل كتابي عليك كمداوي حبيبه بسقية الأدوية الكريهة لما يرجو له من العافية والصحة والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته". وهكذا يتضح الدور الهام الذي يلعبه حاكم المسلمين في تصريف شئونهم والرعاية على مصالحهم. ومنه بالطبع ما يتعلق بالتربية والتعليم وغيرها من أمور العباد. فولاة أمور المسلمين رعاة على أمورهم وهم مسئولون عن رعيتهم في تصريف أمور دينهم ودنياهم وحياتهم على السواء ويعتبر فقهاء المسلمين أن أوجب حقوق الأمة على الخليفة "نشر العلوم والشريعة وتعظيم العلم وأهله ورفع مناره ومحله ومخالطة العلماء والأعلام النصحاء لدين الإسلام ومشاورتهم في موارد الأحكام ومصادر النقض والإبرام". وهذا يعني أن على الدولة في الإسلام مسئولية تعليم أبناء المسلمين. وكانت الدولة في صدر الإسلام بالفعل تخصص نفقات لدور العلم وإن كانت هذه النفقات في صدر الإسلام قليلة وذلك يرجع إلى زهد القائمين بالتعليم واعتبار ما يقومون به واجبا
دينيا. فقد لعن الإسلام من يخفي علمه على الناس كما أنهم اكتفوا بما كانوا يصيبونه من الفيء والصدقة. وكان الخلفاء يقدمون مساعدات مالية للعلماء والزهاد الذين حبسوا أنفسهم في المساجد للعبادة. وقد أثر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت المال حتى يأتيك كتابي هذا فإن خير الخير أعجله والسلام "حسن إبراهيم: ط1 ص523". ومن المعروف أن عمر بن الخطاب أمر ببناء بيوت المكاتب ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم.
وقد نشأت المدارس مرتبظة بالحكم من ناحية وبهدف الترويج لمذهب ديني معين من ناحية أخرى، ولعل من الأمور المتميزة في علاقة الدولة بالتربية في الإسلام أن الخلفاء والحكام أنفسهم كانوا يهتمون بالعلم والثقافة ويسعون إليها. وكان منهم العلماء والشعراء والأدباء وكانوا يجعلون من قصورهم منتدى للفكر والثقافة والأدب يجتمع فيها العلماء والآدباء. وكانت تعقد المناظرات العلمية والأدبية بين هؤلاء العلماء والأدباء كما كان يلقى بها الدروس أيضا، ومن أشهر المجالس العلمية والأدبية ما كان يعقده الخلفاء الأمويون والعباسيون من أمثال هارون الرشيد وولده المأمون وسنوا بذلك تقليدا تبعه من جاء بعدهم من الحكام والأمراء الذين كانوا يبعثون في استقدام مشاهير العلماء والأدباء إلى قصورهم.
وإلى جانب هارون الرشيد والمأمون كان هناك خلفاء آخرون كثيرون اهتموا بالعلم والتعليم، منهم نظام الملك الذي كان أول من أنشأ المدراس في الإسلام ونور الدين زنكي والحاكم بأمر الله وصلاح الدين الأيوبي. وفي الأندلس البعيدة كان الحاكم المستنصر صاحب المكتبة المعروفة في قصره بقرطبة والذي يصفه المقري بأنه كان غزير العلم واسع الإطلاع ذا معرفة بالأخبار والأنساب.
وقد ارتبطت علاقة الدولة بالتربية باعتبارها أن الإسلام دين ودولة. إلا أن هذه العلاقة كانت مرهونة باحتياجات نشر الدين الجديد وتثبيته. فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك معاذ بن جبل في مكة بعد فتحها ليعلم المسلمين مبادئ الدين الإسلامي وعمر أرسل بعض الصحابة إلى الأمصار الإسلامية لنشر مبادئ الدين الجديد وتعليمها.