الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البرهنة على وجوده:
اهتدى علماء المسلمين للبرهنة على وجود الله ووحدانيته بالأدلة النقلية والعقلية. ومن غير المسلمين نجد أن الفيلسوف الفرنسي ديكارت "1596-1650" يقول بأن الإنسان يصل إلى معرفة الله بواسطة نور العقل الطبيعي.
وهو ما ذهب إليه بعض المسلمين أيضا. ولكن فلاسفة آخرين منهم "كانط: 1724-1804" يرى أن العقل لا يستطيع أن يدرك حقيقة المعبود الأعلى لأن العقل لا يستطيع أن يتجاوز عالم الماديات والأشياء. وهو يرى أنه من غير المعقول أن ندعي معرفتنا بشيء ليس موضوعا لتجربة ممكنة. ولما كان المعبود الأعلى ليس موضوعا لتجربة ممكنة فلا يحق للعقل أن يدعي معرفته. وهو يرى أن وجود الله أمر تفرضه ميتافيزيقا الأخلاق. "نازلي إسماعيل حسين. ص158".
ويقول العارف بالله الإمام عبد الحليم محمود: "وإذا كان هناك حديث في مسألة الاستدلال فإنه لا يكون بشأن الألوهية لأنها فطرية، وإنما يكون بشأن النبوة. ومن أجل ذلك يقول ابن عطاء الله السكندري هذه الكلمات النفيسة في وجه كل من تحدثه نفسه بمحاولة الاستدلال على وجود الله تعالى: "إلهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار التي توصل إليك؟ " "عبد الحليم محمود: 127-1278".
وإلى جانب الاستدلال الفطري أو البديهي على وجود الله، يتعرض الدكتور عبد الحليم محمود لقضية إثبات وجود الله بطريق العقل المحض من خلال قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل. وقد تحرى في كتابة هذه القصة أربعة أهداف هي:"المرجع السابق: 133-137".
1-
هل يصل الإنسان بعقله إلى إثبات وجود الله تعالى وإلى رسم طريق للسلوك يرضى عنه الله سبحانه وتعالى؟
2-
هل يصل الإنسان روحيا إلى القرب من الله تعالى وإلى المعرفة عن طريق مباشر؟ أو بتعبير آخر. هل طريق الرياضة الروحية موصل إلى ذلك؟
3-
هل يلتقي الطريق العقلي والطريق الروحي في انسجام لا اختلاف فيه.
4-
هل يلتقي ذلك كله بمبادئ الوحي أو بالطريق الديني في تناغم ووحدة وائتلاف؟
ومن أجل الإجابة على هذه الأسئلة كتب ابن طفيل قصته المشار إليها وهي قصة خيالية عقلية لطيفة يعرضها لنا الأستاذ عبد الحليم محمود في السطور الآتية:
إنها قصة طفل نشأ في جزيرة منذ طفولته الأولى وأخذ ابن طفيل يتدرج معه في تطوره الجسمي إلى أن اكتمل جسميا وأخذ يتدرج معه في تطوره العقلي من فكرة إلى فكرة، ومن مبدأ إلى مبدأ حتى وصل الفتى إلى إثبات وجود الله بطريق العقل المحض
…
ثم بدأ فتانا يفكر فرأى أن كل موجود يمكن الاتصال به على وضع يليق به، فأخذ يفكر في كيفية الاتصال.. ونحن نحب أن ندع ابن طفيل نفسه يتكلم: إنه يرى أن هناك رتبة من المعرفة ينتهي إليها بطريق العلم النظري، والبحث الفكري، وهذه الرتبة تعتبر طورا من أطوار "حي بن يقظان". وبعد أن شب وترعرع وبلغ دور التمييز، وانتهى إلى مرحلة التعقل، والاستدلال، والبرهان، أدرك بطريق النظر حقيقة الجسم، وأنه منتاه، وأدرك أبدية العالم، وحصلت عنه فكرة نظرية عما وراء الطبيعة، واستقام له الحق بطريق البحث والنظر. فلما انتهى من هذه المرحلة بدأ في المرحلة الثانية: مرحلة الوصول إلى الحكمة بطريق الرياضية الروحية. وكان مما يقوم به من هذا الارتياض أنه كان يلازم الفكرة في الوجود الواجب الوجود. ثم يقطع علائق المحسوسات، ويغمض عينيه ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته
…
ألا يفكر في شيء سواه، ولا يشرك به أحدا. ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه، وبالاستحثاث فيها، فكان إذا اشتد في الاستدارة غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال، وسائر القوي التي تحتاج إلى الآلات الجسمانية، وقوي فعل ذاته، التي هي برئية من الجسم. وكانت فكرته في بعض الأوقات قد تخلصت من الشوب، ويشاهد به الموجود. والواجب الوجود. ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله، وترده إلى أسفل السافلين، فيعود من ذي قبل فإن لحقه ضعف يقطع به عن غرضه، تناول بعض الأغذية بحسب شرائط معينة، ثم انتقل إلى شأنه. ثم رأى أن الحركة من أخص صفات الأجسام، وكان يريد طرح الأوصاف الجسمية عن ذاته، فأخذ يقتصر على السكون في مغارته مطرقا، غاضا بصره، معرضا عن جميع
المحسوسات، والقوى الجسمانية، فتجتمع الفكرة في الموجود، الواجب الوجود وحده دون شركه. فمتى سنح لخياله سانح سواه، طرده عن خياله جهده. ودافعه وراض نفسه على ذلك، وذهب فيه مدة طويلة، بحيث تمر عليه عدة ايام لا يتغذى فيها ولا يتحرك.
وفي خلال شدة مجاهدته هذه، وربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميعا الأشياء إلا ذاته، فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق، الواجب الوجود. فكان يسوءه ذلك، ويسلم أنه شوب في المشاهدة المحضة، وشركه في الملاحظة.
وما زال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق، حتى تأتي له ذلك وغابت عن ذكره وفكره السماوات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية، والقوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفة بالموجود الحق، وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل، واضمحل، وصار هباء منثورا، ولم يبق إلا الواحد الحق، الموجود الثابت الوجود، وهو يقول بقوله، الذي ليس معنى زائدا على ذاته:"ولمن الملك اليوم، الله الواحد القهار". ففهم كلامه، وسمع نداءه، ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام ولا يتكلم واستغرق في حالته هذه، وشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
وبعد أن وصل إلى الله بطريق العقل وبطريقة الرياضة الروحية، تأمل في ثمرة الطريقين فوجد أن نتيجتها واحدة، وأنهما لا تختلفان إلا في درجة الوضوح، وأبان عن ذلك، وبذلك يكون قد وصل إلى الإجابة عن السؤال الثالث وأتاحت المصادفة للشيخ -حي بن يقظان- أن يلتقي برجل يدين بدين منزل صحيح وتفاهم معه في كل ما وصل إليه عقله، وما وصل إليه قلبه، فوجد التطابق التام. ووصل ابن طفيل برسالته اللطيفة الحجم إلى كل ما كان يرجو أن يصل فيه إلى جواب صحيح يرضي العقل ويرضي الدين. وكانت آمال وأماني فلاسفة الإسلام الوصول -عن طريق المحاولات العقلية المستمرة- إلى التوفيق بين الدين والفلسفة.