الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي لبنان وتونس والجزائر وفي كل مكان ذهب إليه. وكان يرى أن الطريق الوحيد للنهضة والتجديد في العالم الإسلامي هو التربية، وفي ذلك يقول:"إنني أدعو إلى التربية لأنني عرفت أية ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه وتقوم على تنميته السنين الطوال".
وسار في هذا الطريق الذي رسمه محمد عبده المسلمون في المغرب العربي منهم عبد الحميد بن باديس في الجزائر فقد أنشأ من خلال جمعية العلماء المسلمين التي تزعمها حوالي 300 مدرسة حفظت اللغة العربية والإسلام في الجزائر. ووصل الصدى إلى الأصقاع البعيدة في الهند فنجد هناك أحمد خان ينشئ جامعة عليكرة في الهند وشلبي النعماني أنشأ ندوة العلماء في لكنو بالهند ومن روادها أبو الحسن الندوي العالم الإسلامي المعروف.
وقد اتجهت ندوة العلماء في نفس الطريق فقامت بإنشاء مدرسة كبرى للعلوم في مدينة "لكنو" كان عملها الأساسي هو "نشر المعارف وإعادة مجد اللغة العربية في بلاد الهند".
كما كان السيد أحمد خان مؤسس جامعة عليكرة وسيد أمير علي وشلبي النعماني ومحمد إقبال في مقدمة الدعاة الذين آمنوا بأن التربية والثقافة هي الوسيلة الأساسية لإزالة آثار التخلف الإسلامي.
2-
دعوات التغريب والتشكيك الفكري:
شهدت هذه الفترة دعوات وحركات مختلفة نشطة للتغريب والتضليل والتشكيك الفكري في الإسلام ومحاربة اللغة العربية وهي الدعامة الإساسية للدين. ومن هذه الحركات حركة التبشير والحركة الصهيونية والدعوة إلى العامية بدل الفصحى واستخدام الحروف اللاتينية بدل الحروف العربية. وسنفصل الكلام عن كل واحدة منها في السطور التالية:
الحركة التبشيرية ونشاطها التربوي:
كانت الحركة التبشيرية التي شهدها العالم العربي في ظل الحكم العثماني التركي صورة أخرى للحروب الصليبية انتقلت فيها المعركة إلى داخل الوطن
العربي الإسلامي نفسه. وقد ارتبطت هذه الحركة بنشاط المبشرين من الأوربيين، والأمريكيين في القرن التاسع عشر في مصر والشام وما قاموا به من إنشاء المدارس والمستشفيات لخدمة أغراضهم.
وقد أصبح التبشير حركة عالمية منذ سنة 1830 عندما أقره البابوات ورسموا خطته ورصدت له الدول الأوربية الأمور الضخمة للإنفاق عليه. وقد سار العمل التبشيري في طريقين:
1-
طريق الاحتلال العسكري، وليس من قبيل الصدفة أن تقوم فرنسا باحتلال الجزائر في نفس السنة التي أصبح فيها التبشير حركة عالمية.
2-
طريق العمل التربوي وكان في تأثيره أقوى مضاء من السيف، وقد عملت الحركة التبشيرية على ترويج الأفكار التي تخدم مصالح التبشير وفي مقدمتها التشكيك في القيم العربية الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي وفي فضل العرب والمسلمين على الحضارة العالمية. وقد تغذت في نشر أفكارها على الشبهات والمزاعم التي أثارها المستشرقون.
وقد اهتمت حركة التبشير بإنشاء مدارس رياض الأطفال ومدارس البنات بصفة خاصة ليسهل التأثير على عقول النشء. وقد عبرت عن هذا أحسن تعبير إحدى المبشرات في كلامها عن مدرسة تبشيرية للبنات بالقاهرة قالت:
"في المدارس بنات الباشوات والبكوات وليس هناك مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ التبشيري، وليس هناك طريق إلى حصن الإسلام أقصر من هذه المدرسة".
وقد عبرت بصراحة عن هذا الهدف القرارات التي اتخذتها مؤتمرات التبشير العالمية التي عقدت في العواصم الإسلامية والأوربية في النصف الأول من القرن العشرين. فقد ورد في هذه القرارات فيما بتعلق بالتربية والتعليم ما نصه:
"يجب أن يكون العمل في كل ميدان موجها نحو النشء الصغير من المسلمين. ويجب أن يقدم هذا العمل على كل عمل عداه في الأقطار الإسلامية ذلك أن بزوغ روح الإسلام في النشء الحديث يبدأ من فترة مبكرة من عمره ومن
ثم يجب أن يؤتى بالنشء الصغير من المسلمين قبل أن يتكامل نمو عقلهم ويتم إبعادهم عن القوالب الإسلامية فتقسوا عقليتهم وأخلاقهم. إن التعليم التبشيري ما يزال أفضل طريقة للوصول إلى المسلمين".
ومن الإشارات ذات المغزى عن دور الاستعمار في مناهج التربية في العالم الإسلامي إشارة تقول: "إن السياسية الاستعمارية لما قبضت على برامج التعليم في المدارس الابتدائية حذفت منها القرآن ثم تاريخ الإسلام وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقا فلا للدين كرامة. ولا للوطن حرمة".
وإلى جانب المدارس اهتمت الحركة التبشيرية بإنشاء المستشفيات لعلاج الطبقة الفقيرة وتقديم المساعدات الاجتماعية لهم بهدف التأثير على نفوسهم وأفكارهم.
وكانت مالطة أول مركز للبعثات التبشيرية في الشرق الأوسط منذ مطلع القرن التاسع عشر. وكانت بيروت ثاني مركز وفيه تركزت الحركة التبشيرية ونشأت بها جامعة الجيزويت الكلية السورية الإنجيلية "الجامعة الأمريكية" سنة 1866 التي لعبت دورا تربويا بارزا. قد خرجت منذ نشأتها الآلاف ومنهم الكثيرون الذي تولوا مراكز القيادة في البلاد. وكان منهم رؤساء الوزارات والأساتذة ورجال الفكر والصحفيون والقضاة والأطباء. وإلى جانب الكلية السورية الإنجيلية أنشئت كلية القديس يوسف "الكلية الفرنسية" سنة 1873. كما كان للجمعيات التبشيرية في لبنان مدارسها الابتدائية والثانوية. وكان إنشاء جميعة المقاصد الخيرية الإسلامية التي تأسست في بيروت بأوقافها الخاصة من أراض وعقارات في عهد مدحت باشا الوالي التركي رد فعل للمدارس التبشيرية. إذ كان الغرض من إنشائها تهيئة السبل لإنشاء مجالس إسلامية تعنى بشئون التعليم الخاص بالطائفة الإسلامية على غرار المجالس المسيحية التي تتعهد شئون التعليم لدى الطوائف المسيحية.
وكانت مصر تقوم بتزويد هذه المدارس بالمدرسين والكتب. وفي سوريا وجدت الجمعية السورية التي أنشئت سنة 1847 بتوجيه وحماية المبشرين
الأمريكيين وحملت لواء الدعوة القومية العربية لتفت في عضد الإسلام.
وكان في المغرب مدارس أنشأتها الإرساليات اليهودية والمسيحية منذ أوائل القرن التاسع عشر. ووجدت المدارس التبشيرية في السودان في النصف الأول من القرن العشرين، وقد جاهر غوردون البريطاني بضرورة تنصير السودان. ووجدت المدارس التبشيرية في إستانبول في قلب الدولة العثمانية نفسها. ذلك أن السياسة الداخلية للدولة العثمانية منحت الطوائف الدينية من غير المسلمين امتيازات خاصة في كل ما يتعلق بالشئون الدينية، واعتبرت شئون التعليم من الأمور المرتبطة بالأديان فخولت الطوائف المسيحية والإسرائيلية حق تأسيس المدارس وإدارتها.
وكانت فرنسا أنشط الدول الأجنبية في التبشير لأنها اعتبرت نفسها حامية الكوثوليك كما اعتبرت روسيا القيصرية نفسها حامية الطائفة الأرثوذكسية وأسست لها مدارس في الشام. وكانت الإرساليات الإنجيلية أنشطها، كما كان هناك مدارس أنشأتها الإرساليات الألمانية والإيطالية والإيرلندية والدانمركية. وفي مصر وجدت الحركة التبشيرية مجالا خصبا في ميدان التربية في القرن التاسع عشر.
ففي سنة 1840 أنشأ الآباء العازاريون أول مدرسة فرنسية لهم في الإسكندرية وكذلك أنشأت الجمعية الإنجيلية البروتستانتية مدارس لها. وتبعهم الفرير والإرسالية الأمريكية البروتستانية. وتبعهم بعد ذلك الآباء الجزويت وحتى عام 1871 كانت توجد 160 مدرسة أجنبية تضم 5591 تلميذا. ولم تكن هناك أي قيود على هذ المدارس بل إن الأغرب من هذا أن المدارس كانت تلقى التشجيع الأدبي والمادي من الحكام المصريين. فكانت تقدم لهم الهبات وتمنح الأراضي وكميات سنوية من القمح وتدفع لها أجور ومرتبات معلمي اللغة العربية وتقدم لها مجانا الكتب الدراسية ومساعدات مالية سنوية أيضا.
الحركة الصهيونية:
شهد العالم الإسلامي في العصور الحديثة أكبر مؤامرة تدبر ضده وتعتبر امتداد للحروب الصليبية التي انتهت بالنصر للمسلمين. وأخذت الحركة
التبشيرية صورة أخرى للحروب الصليبية انتقلت منها المعركة إلى قلب الوطن العربي الإسلامي ذاته وقد فصلنا الكلام عن ذلك في تناولنا للحركة التبشيرية.
وكانت الصهيونية صورة أخرى للحروب الصليبية استهدفت إيجاد جسم غريب دائم يعمل على استنزاف طاقات العالم العربي الإسلامي ويشتت جهوده ويحول دون تقدمه. وقد عملت الحركة الصهيونية منذ نشأتها على يد هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر على تزييف حقائق الإسلام وتشويهها في كل الموسوعات التاريخية والثقافية في الغرب كما شوهت الصورة العربية في أعين الأوربيين وغيرهم. وقد انتهى الأمر بالصهيونية إلى خلق كيان لها في الوطن العربي. ووجودها يفرض على البلاد العربية تحديا حضاريا خطيرا تلعب التربية والتعليم الدور الرئيسي في تحديد النتيجة النهائية له، فقد أثبت هذا التحدي أن العبرة ليست بكم البشر وأن على الدول العربية أن تأخذ بالأسلوب الحضاري الشامل إذا كان عليها أن تثبت وجودها أمام هذا التحدي الخطير.
الدعوة إلى العامية واستخدام الحروف اللاتينية:
بدأت الدعوة إلى العامية بدل الفصحى في مصر في يناير 1893 عندما ألقى المهندس الإنجليزي وليم ويلكوكس محاضرة في نادي الأزبكية كان موضوعها: لماذ لا توجد الآن لدى المصريين قوة الابتكار؟ زعم فيها أن قوة الابتكار تأتي من قوة الفكر التي يرثها الفرد عن أبيه ومن قوة الخيال التي يرثها عن أمه. وقال: إن أهم عائق يمنع المصريين من الابتكار أنهم يؤلفون ويكتبون باللغة العربية الفصحى، ولو أنهم ألفوا وكتبوا بالعامية لصاروا مبتكرين. واستدل على ذلك بأن الإنجليز لم يكونوا مبتكرين عندما كانوا يؤلفون باللاتينية فلما اختاروا لغة الفلاحين وكتبوا بها صاروا مبتكرين. وضرب مثالا بشكسبير وبيكون. وقد قام ويلكوكس بترجمة الإنجيل إلى اللغة العامية المصرية، كما ألف كتبا بالعامية المصرية أيضا وكان يوزعها مجانا على الناس. وللأسف أن الدعوة العامية رغم ما فيها من شر مستطير لا يخفى على العين فإنها قد وجدت آذانا مصغية تستجيب لها.
وقد ردد سلامة موسى في مجلة "الهلال" دعوة "ويلكوكس" إلى العامية
وأثنى على ويلكوكس كأحد الإنكليز المخلصين لمصر شغل بها كثيرا حتى أصبحت همومه مصرية أكثر منها إنجليزية.
وكانت الدعوة إلى العامية رد فعل للشبهات التي أثيرت حول قدرة اللغة الفصحى على الوفاء بمتطلبات العصر من ناحية وأنها لغة لا تستخدم في التخاطب من ناحية أخرى، كما كانت هناك دعوة أخرى مغرضة ترمي إلى إحلال الحروف اللاتينية بدل الحروف العربية. وهي دعوة سلمت منها البلاد العربية الإسلامية وأثبتت أنها قادرة على تحدي كل محاولات التغريب والتشكيك.
وللأسف أن الدعوة إلى استخدام الحروف اللاتينية قد وجدت من أبناء العربية من يناصرها فهذا عبد العزيز باشا فهمي أحد شيوخ مجمع اللغة العربية يقدم إلى المجمع في أوائل شهر مايو سنة 1943 اقتراحا بتيسير الكتابة العربية عن طريق استخدام الحروف اللاتينية بدل العربية. وكتب أنيس فريحة، أستاذ اللغة العربية في الجامعة الأمريكية ببيروت "يطالب بعض الناس بتبني الحروف اللاتينية تسهيلا للقراءة وتخفيفا لنفقات الطباعة ونحن من المؤمنين بهذه النظرية ولا نرى حلا للكتابة إلا بتبني الحرف اللاتيني وضبط الكلمات فيه مرة واحدة".
وكان دعاة استخدام الحروف اللاتينية هم دعاة استخدام العامية بدل الفصحى وفي ذلك يقول أنيس فريحة أيضا:
"إن الفصحى ليست لغة الكلام فلا يرجى منها أن تعبر عن الحياة بحلاوتها ومرارتها وقسوتها ولينها كما تستطيع العامية، الدليل ظاهر فإنك لا تستطيع أن تقول بالفصحى ما تقوله بالعامية وإذا نقلته إلى الفصحى أتى قاسيا جافا خلوا من العنصر الإنساني اللصيق باللغة".
إن من الغريب أن يأتي هدم اللغة الفصحى من أناس تصدوا لخدمتها والعمل على رفعتها. ويبدو أن هذه الدعوة اختلطت بدعوات أخرى منها تبسيط اللغة العربية من حيث قواعدها وأسلوب كتابتها دون هجرها إلى غيرها، والارتقاء باللغة العامية لتقترب من الأدبية الفصحى، وقضية تعريب الكلمات الأجنبية بالعربية، وتقريب الفجوة بين اللغة الفصحى والعامية وتجديد الأدب العربي.
ظهور الدعوات الشعوبية:
كان من أهم الملامح السلبية التي ظهرت في البلاد العربية في ظل الحكم التركي العثماني في القرن التاسع عشر الدعوات الشعوبية المختلفة. وكانت هذه الدعوات غريبة عن روح الإسلام فلا شعوبية في الإسلام وقد ظل طيلة ثلاثة عشر قرنا من الزمان سابقة لهذة الفترة يدعو إلى الأخوة البشرية والمساواة الإنسانية.
فنجد الدعوة الطورانية أو الجامعة التركية التي كانت ترمي إلى سلخ تركيا عن الإسلام وبعث حضارتها الجاهلية القديمة لأن الإسلام -في نظرهم- لا يصلح شأنهم. ودعت إلى العودة إلى أسلافهم الطورانيين. فكعبتهم طوران ومثلهم الأعلى جنكيز خان وأمجادهم فتوحات المغول. وكان شعارهم إهمال الجامعة الإسلامية التي دعا إليها الأفغاني إلا إذا كانت خادمة للدعوة الطورانية. وهذا يعني أنهم أتراك أولا ثم مسلمون ثانيا. كما ظهر حزب تركيا الفتاة في نفس الاتجاه.
وظهرت القومية في فارس أيضا وأخذ كثير من الفرس يبحثون عن دين فارس القديم كالزرادشتية أو المانوية أو المزدكية وغيرها. وظهرت أيضا الدعوة إلى الإقليمية الانفصالية كالدعوة إلى مصر الفرعونية ولبنان الفينيقية والعراق والآشورية، وفي المغرب العربي كانت الدعوة إلى الانتماء إلى الأصول العرقية للبربر.
وهذه الدعوات كانت خطيرة على العالم العربي الإسلامي وعملت على بلبة الأفكار وتفتيت الوحدة الإسلامية كما ساعدت على تعميق التناقضات الفكرية والثقافية في البلاد العربية. وكان من أخطر القضايا التي عرفها العالم العربي آنذاك أيضا الدعوة إلى القومية العربية.
إن الدعوى إلى القومية غريبة عن روح الإسلام لأن الإسلام كما هو معروف لا يعرف الشعوبية ولا التعصب العرقي. وقد جاء للناس كافة دون تميز في الجنس أو اللون أو الغنى أو الفقر. وجاء ليقرر أن الناس كأسنان المشط في المساواة ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. ومن المعروف تاريخيا أن الدعوة إلى القومية العربية لم تعرف طريقها إلى العرب إلا خلال القرن الماضي، وقد كان
دخول الفكرة القومية إلى العرب تحت عاملين رئيسيين:
أولهما: سياسة التمييز الديني التي اتبعتها الخلافة التركية الإسلامية بين العرب والمسلمين وبناء على هذه السياسية عاملت تركيا غير المسلمين معاملة الأقليات الأجنبية. وعلى الرغم من الاعتراض الذي يمكن أن يوجه لهذه السياسة فإن المسيحيين العرب تمتعوا بميزات لم يكن يحظى بها إخوانهم من المسلمين العرب، وهي حقهم في إنشاء المدارس الخاصة بهم التي كانت تعلم باللغة العربية. هذا في حين أن المسلمين العرب كانوا تائهين في ظل النظام التركي الذي فرض اللغة التركية لغة للتعليم وكانت تدرس العربية كلغة أجنبية هامشية. ومن هنا يمكن أن نفهم السر في كون كثير من حملة مشعل الثقافة العربية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر من غير المسلمين العرب. وقد ساعد ذلك من ناحية أخرى على تأجج الشعور القومي لدى المسيحيين العرب وأخذوا يبحثون عن الرباط الذي يربطهم بهذا الوطن الذي نبتوا على أرضه وبين أحضانه ترعرعوا ولكنهم يعاملون فيه من قبل تركيا معاملة الغرباء. وقد جاءتهم الإجابة من أوربا التي كانت تعيش في ذلك الوقت فترة تعرف في تاريخ أوربا بتكوين القوميات، وكان لهذه السياسة آثار تربوية بعيدة المدى على العالم العربي الإسلامي وهو ما سنعرض له عند الكلام عن السياسة التربوية للدولة العثمانية.
العامل الثاني: يتمثل في حرب القوميات التي كانت تخوضها أوربا في القرن التاسع عشر وهو القرن الذي يلقب بقرن القوميات. فقد عمت أوربا موجة من الشعور القومي الذي يستند على أساس فكرة هيجل التي تقول بأن الدولة الحقة هي التي تتكون من قومية واحدة. نظرا لأن الدولة الأوربية لم تكن قائمة على هذا الأساس، وإنما على قوميات مجزأة بين دول مختلفة فقد بدأت نيران الحرب تضطرم بين هذه الدول من أجل تحقيق الفكرة القومية لها. وهكذا شهدت أوربا صراعا مريرا في سبيل تشكيل قومياتها وتحقيق الوحدة القومية لها. وفي هذا الوقت الذي كان يحتدم فيه الصراع كان المسيحيون يبحثون عن سند حقيقي يستندون فيه لتبرير وجودهم الغربي. وهكذا كانت فكرة القومية العربية فكرة خلابة بالنسبة لهم جذبتهم ببريقها وتحمسوا لها. وقد جاءتهم نتيجة اتصالهم
بأوربا من خلال الروابط الكنسية والدينية وكان في مقدمة النتائج التي ترتبت على ذلك تعريب الكنائس المسيحية العربية واستخدام اللغة العربية في الصلوات والطقوس والترانيم الكنسية.
وهكذا دخلت فكرة القومية العربية إلى البلاد العربية في القرن التاسع عشر فقط على يد المسيحيين العرب. وقبل هذا القرن لم يكن لهذا المصطلح وجود بل إن شيوع استخدامه في العربية يرجع إلى هذا التاريخ الحديث. ومن هنا أيضا نكرر القول بأن فكرة القومية هي فكرة غريبة عن الثقافة العربية والإسلامية وتعتبر دخيلا عليها على الرغم من الترويج الكبير الذي تحمس له الكثيرون في السنوات الأخيرة، وقد ترتب على ذلك وجود كثير من الدعاوي التي أحدثت البلبلة في العقول واختلطت الأمور أمام أعين الكثيرين حتى المفكرين منهم لدرجة أننا نجد عالما مسلما كبير مثل ساطع الحصري على ما له من أفضال علمية كبيرة يؤلف كتابا بعنوان له معناه هو "العروبة أولا". إن الإسلام ينبغي أن يفهم لا على أنه دين فحسب، إنه نظام حياة اجتماعية تشمل المسلمين والمسيحيين على السواء باعتراف المنصفين من المسيحيين أنفسهم.
ويقول منيف الرزاز في كتابه "معالم الحياة العربية الجديدة": إن المسيحيين العرب لم يكتسبوا صفتهم العربية إلا من خلال الإسلام فمن أين جاءهم اللسان العربي المبين الذي يتحدثون به ويكتبون ويؤلفون به؟ وعندما نقول اللسان فإننا نعني بذلك ما يرتبط باللغة من فكر ومعان باعتبارها الوعاء الثقافي وليست مجرد كلمات أو وسيلة للاتصال. يضاف إلى ذلك أن التراث المسيحي نفسه جزء لا يتجزأ من تراث الإسلام.
وهكذا ينبغي أن نفهم الإسلام على أنه ثقافة تتكامل في جوانبها المختلفة تقوم في أساسها على اللغة العربية، وهو بهذا ينسحب على المسلمين وغيرهم على السواء ما داموا يعيشون على أرض وطن واحد يجمعهم انتماء مصيري يربط بينهم.
السياسة التعليمية العثمانية في البلاد العربية:
قامت السياسة التعليمية التي اتبعتها السلطات التركية العثمانية في
البلاد العربية على أساس جعل اللغة التركية اللغة الرسمية في دواوين الحكومة ولغة التعليم في المدارس وكان فرض اللغة التركية كلغة رسمية للحكومة مثارا لشكوى الناس وسخطهم لتعطل أمورهم ومصالحهم بسبب جهلهم باللغة التركية. فكان الضباط المتقاعدون في الجيش العثماني يقومون بتعليم اللغة التركية في المدارس القائمة في الولايات العربية الإسلامية.
وكان التعليم في هذه الولايات تعليما تقليديا وكان يتم في الكتاتيب والمساجد والزوايا أو المدارس التي أنشئت بالجهود الفردية وغيرها.
وهذه المعاهد التعليمية كانت تقتصر على تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ الدين، أي أنها اقتصرت على العلوم النقلية، وأهملت العلوم العقلية، ومن كان يريد إكمال تعليمه كان يرحل إلى الجامع الأزهر في مصر أو جامع الزيتونة في تونس. وفي العهد العثماني ظل التعليم التقليدي على حاله متروكا للجهود الأهلية والفردية والتطوعية ولم يعط التعليم الحديث أي اهتمام من جانب العثمانيين لفترة طويلة حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل وعندما بدءوا يظهرون نوعا من الاهتمام به استخدموه لخدمة أغراضهم العسكرية.
وكان للهزائم المتتالية للسلطنة العثمانية أمام الدول الأوربية رد فعل كبير على الاصطلاحات التعليمية والأخذ بالتعليم الحديث. فقد كانت الرغبة في بناء جيش حديث على غرار الجيوش الأوربية هي الدافع الرئيسي وراء إنشاء المدارس الحديثة في السلطنة العثمانية، ولذلك نجد أن المعاهد التعليمية التي أنشئت في بدء اليقظة الفكرية والسياسية في الدولة العثمانية؛ كانت كلها من نوع المدارس العسكرية المقتبسة من النظام الفرنسي. فقد كانت فرنسا آنذاك من أقوى الدول الأوربية، وكان الغرض الأساسي من إنشاء هذه المدارس تعليم الفنون العسكرية، وكان دخول العلوم الحديثة كالتاريخ والجغرافيا والعلوم والرياضة والطبيعة ضرورة استلزمها تعليم الفنون العسكرية في المراحل التعليمية المختلفة. وكانت هذه المراحل تتمثل في المدارس الابتدائية وكان يدرس بها اللغة التركية والتاريخ التركي إلى جانب اللغة العربية والدين الإسلامي والجغرافيا والرياضيات.
والمدارس الرشدية وهي مدارس حديثة أو عسكرية متوسطة مدتها ثلاث سنوات، وكانت اللغة التركية لغة التعليم بها وكان المعلمون من التراك غالبا. والمدارس الإعدادية العسكرية التي تقوم مقام المدرسة الثانوية، وأخيرا المدارس العسكرية الاختصاصية التي تقوم مقام المدارس العالية. وكانت هذه المدارس العالية موجودة في إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية وحدها، وأما المدارس الإعدادية والرشدية العسكرية فقد كانت موجودة في الولايات تحت الإدارة العثمانية وكان الطلاب يتمون الدراسة الرشدية والإعدادية في مراكز الولايات التي ينتسبون إليها، وبعد ذلك ينتقلون إلى عاصمة الدولة لإتمام دراستهم العالية في المعاهد القائمة فيها. وكانت الولايات العربية ترسل بعثات طلابية لمواصلة تعليمهم في المدرسة العسكرية العالية وكذلك للالتحاق بمدرسة العشائر التي كانت أيضا في عاصمة السلطنة في إستانبول وكان هدفها تعليم أبناء العشائر تعليما خاصا يؤهلهم لتولي بعض الخدمات العسكرية والمدنية.
وهناك نقطة أخرى هامة تتعلق بالسياسة التعليمية للدولة العثمانية في البلاد العربية هي أن السياسة الداخلية للدولة العثمانية منحت الطوائف الدينية من غير المسلمين امتيازات خاصة في كل ما يتعلق بالشئون الدينية. وقد اعتبرت الدولة العثمانية شئون التعليم من الأمور المرتبطة بالأديان والمذاهب فخولت جميع الطوائف المسيحية والإسرائيلية حق تأسيس المدارس وإدارتها أيضا. وكانت هذه المدارس الطائفية بادئ الأمر من نوع المدارس الدينية حقيقة غير أنها تطورت بعد ذلك بسرعة وتحولت إلى معاهد تعليمية عصرية. وكانت هذه المدارس تسير على مناهج خاصة بها تختلف باختلاف أديان الجامعات ومذاهبها، ولا تمت بأي صلة إلى مناهج المدارس الحكومية واتجاهاتها. وكثيرا ما كانت تستلهم خططها ومناهجها من المدارس الأجنبية نفسها، وكانت الحقوق الممنوحة لهذه الطوائف تشمل "لغة التعليم" بهذه المدارس أيضا. فكان يجوز لكل طائفة أن تعلم أبناءها بلغتها وكان للمسيحيين العرب الحق في أن يعلموا في مدارسهم باللغة العربية. وقد أدت هذه السياسة العثمانية إلى نتائج غريبة بالنسبة للبلاد العربية، فقد ترتب عليها نشاط كبير في إنشاء المدارس الطائفية والأجنبية كما
أدت إلى مفارقات ثقافية بين العرب المسلمين وإخوانهم العرب المسيحيين: فقد انحصرت الفرص التعليمية أمام العرب المسلمين في الكتاتيب والمدارس القديمة أو المدارس الرسمية التي كانت تعلم باللغة التركية في حين أن إخوانهم المسيحيين أسسوا مدارس خاصة بهم وجعلوا اللغة العربية لغة التعليم بها. ولهذا السبب انتشر التعليم العربي الحديث بين المسيحيين قبل المسلمين. ولهذا السبب أيضا كان معظم الكتاب والمؤلفين والخطباء الذين ظهروا في الولايات العربية في العهد العثماني مسيحيين بالرغم من قلة عدد هؤلاء بالنسبة إلى المسلمين.
وقد لعبت المدارس الأجنبية دورا تأثيريا مماثلا. فقد تأسست هذه المدارس في أول الأمر على أيدي الإرساليات الدينية والجماعات التبشيرية. وكانت كل إرسالية من هذه الإرساليات تعتمد على دولة من الدول الأجنبية، وتصبح بذلك واسطة لنشر لغة تلك الدولة بجانب تعليم العلوم المختلفة من جهة وتعلم اللغة العربية لاجتذاب العرب إليها من جهة أخرى.
وكانت فرنسا أنشط الدول الأجنبية في هذا المضمار لأنها اعتبرت نفسها حامية الكاثوليك كما كانت روسيا القيصرية حامية الأرثوذكس وأسست لها مدارس في الشام وهو ما أشرنا إلى تفصيله في الكلام عن الحركة التبشيرية.
وقد أشرنا إلى أن اللغة التركية كانت اللغة الرسمية في المدارس والدواوين في البلاد العربية باعتبارها لغة أصحاب السلطان. وكانت اللغة عربية تعيش غريبة في وطنها وكانت تدرس كلغة أجنبية حتى غلبت عليها العجمة. وقد استمر نفوذ اللغة التركية حتى أخذت البلاد العربية في الاستقلال عن الدول العثمانية. وكانت مصر أسبق الدول العربية في ذلك. ومع ذلك ظل نفوذ اللغة التركية فيها قويا واستمرت تدرس باهتمام حتى سنة 1888 عندما أصبحت لغة إضافية تدرس اختياريا لمن يرغب في دراستها.
تطور التربية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء:
للإسلام تاريخ طويل في إفريقيا وهو يرجع إلى القرن السابع الميلادي عندما انتشر الإسلام في شمال إفريقيا. وبعدها في القرن الثامن بدأ الإسلام في الانتشار في باقي أنحاء إفريقيا عن طريق التجارة في السودان والغرب الإفريقي
وشرق إفريقيا. وكان الطلاب الإفريقيون يغدون إلى الأزهر للتعلم. وكانت هناك مراكز إسلامية وحكام مسلمون، ومن أهم المراكز في غرب إفريقيا منذ القرن الرابع عشر الميلادي تمباكتو Timbuktu حيث كانت مركزا للتعليم الإسلامي وكان لها تأثير كبير على منطقة مالي وموريتانيا المعاصرة. وكانت هناك مراكز أخرى غيرها.
وكانت هناك في غرب إفريقيا مراكز إسلامية طيلة قرون طويلة قبل إنشاء الجامع الأزهر عام 996م. مثل مدرسة القرويين في المغرب. وفي عام 1910 كان يوجد في غينيا guinea ما يقرب من 6400 مدرسة إسلامية تضم 27 ألف تلميذ، حيث لم تكن هناك أي مدارس أخرى غريبة "johnson: 1975 p223".
ويروى أن المصلح الإسلامي من شمال نيجيريا عثمان بن فودي usuman dan fodio "1745-1817" قد رحل إلى النيجر عام 1774 لتلقي العلم على يد الشيخ جبريل عمر. "hiskett p.23": في عام 1977 أسس في كانو في نيجيريا معهد لتخريج معلمات اللغة العربية والعلوم الإسلامية "bray: p.85". بيد أن الشيخ أحمد بن حجر "ص77-87" ينسب الشيخ عثمان بن فودي إلى السودان ويقول إنه أحد أفراد قبيلة الفولا وهي من قبائل رعاة السودانيين وأنه بعد التقائه بعلماء الدعوة الوهابية في موسم الحج وبعد اعتناقه المبادئ التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الله الوهاب عاد إلى بلاده وأخذ يحارب البدع الشائعة بين عشيرته وقومه ويعمل للقضاء على بقايا الوثنية وعبادة الأموات التي كانت لا تزال مختلطة بالعقيدة الإسلامية في نفوس السودانيين وأخذ ينشر تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة ويذيع مبادئ الشيخ محمد بن عبد الوهاب فاستطاع أن يجمع حوله قبيلته في وحدة متماسكة برباط الدين المتين. وبعد ذلك ابتدأ حروبه سنة 1082م ضد قبائل الهوسا الوثنية وقضى على "مملكة غير" التي كانت تقع على مجرى النيجر. وما مضت سنتان حتى أقام مملكة "سوكوتو" في السودان على أساس من الدعوة الوهابية، ومدت رواقها على جميع الأقطار الواقعة بين "تمبكتو" وبحيرة "تشاد". وبقيت محافظة على استقلالها ووحدتها نحو قرن حتى استطاع الاستعمار الأوربي أن يقضي عليها.
ومع أن المدارس الغريبة بدأت تنتشر في إفريقيا لأسباب استعمارية معروفة فإنه توجد في بعض مناطق مالي وموريتانيا مدارس إسلامية أكثر من المدارس الغربية. وقد بذلت محاولات متعددة لتطوير المدارس الإسلامية وتحديثها وتدعيمها. ومن أشهر مراكز التعليم في إفريقيا جنوب الصحراء جامعة الخرطوم الإسلامية في السودان، والمعهد الإسلامي في داكار بالسنغال والمعهد الإسلامي للتعليم العالي في بوتلميت بموريتانيا ومركز التعليم الإسلامي في كانو بنيجيريا "BRAY: 1976 P.80".
ويعتبر التعليم الإسلامي في الدول الإفريقية أداة تطوير المجتمعات الإفريقية ولا سيما تلك التي تحاول أن تتحرر من الاستعمار، وأن تبني اقتصادها ووحدتها القومية.