المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أمراض النفوس وعلاجها: - التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية

[محمد منير مرسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌نبذة تفصيلية عن المؤلف

- ‌مقدمة:

- ‌الفهرس:

- ‌تمهيد: مشكلات منهجية في الكتابة عن التربية الإسلامية

- ‌الفصل الأول: التربية الإسلامية

- ‌تربية العرب قبل الإسلام

- ‌مدخل

- ‌فضل القلم:

- ‌فضل الخط:

- ‌فضل الكتب:

- ‌مكانة العلم في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌فضل المسلمين على العلم:

- ‌لماذا أنطفأت شعلة العلم الخلاقة في المجتمعات الإسلامية

- ‌تأثير الفكر الإسلامي في الغرب:

- ‌الرحلة في طلب العلم:

- ‌التعليم الإسلامي بين الأصالة والتجديد:

- ‌كيف نبدأ

- ‌حول توصيات المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي:

- ‌الفصل الثاني

- ‌أهداف التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌لماذا خلقنا

- ‌ما يصلح به حال الإنسان:

- ‌العبادة غاية الوجود الإنسان وأساس السلوك الأخلاقي

- ‌التكسب واجب:

- ‌أسس التربية الإسلامية

- ‌التربية الإسلامية تربية تكاملية شاملة

- ‌ التربية الإسلامية تربية مثالية واقعية:

- ‌ التربية الإسلامية تربية سلوكية عملية:

- ‌ التربية الإسلامية تربية فردية واجتماعية معا:

- ‌ التربية الإسلامية تربية لضمير الإنسان:

- ‌ التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان وإعلاء لدوافعه:

- ‌ التربية الإسلامية تربية موجهة نحو الخير:

- ‌ التربية الإسلامية تربية مستمرة:

- ‌ التربية الإسلامية تربية متدرجة:

- ‌ التربية الإسلامية تربية محافظة مجددة:

- ‌ التربية الإسلامية تربية إنسانية عالمية:

- ‌أساليب التربية الإسلامية

- ‌أسلوب القدوة الصالحة

- ‌ أسلوب الثواب والعقاب:

- ‌ أسلوب التوجيه والنصح:

- ‌ أسلوب الحوار والمناقشة:

- ‌ أسلوب المعرفة النظرية:

- ‌أسلوب الممارسة العملية

- ‌ أسلوب الرسم والإيضاح:

- ‌ أسلوب التلقين والحفظ:

- ‌أسلوب الرسول الكريم:

- ‌التعليم الإسلامي

- ‌خصائص التعليم الإسلامي التقليدي

- ‌المنهج المدرسي

- ‌وسائل التدريس

- ‌مساكن الطلبة:

- ‌الجمع بين طلب العلم والتكسب:

- ‌الدولة والتربية في الإسلام:

- ‌أهل الحسبة ورعاية المصالح العامة والتعليم:

- ‌وجوب التعليم:

- ‌التعليم في الإسلام فرض وابج وليس مجرد حق

- ‌الفصل الثالث: فلسفة التربية الإسلامية

- ‌أولا: الإسلام والكون "مدخل أطولوجي

- ‌خالق الكون

- ‌البرهنة على وجوده:

- ‌الفرق بين التصديق والإيمان:

- ‌خلق السموات والأرض

- ‌حقيقة الكون:

- ‌نظرة الإسلام للكون:

- ‌الأنبياء وكتب الشرائع:

- ‌الكون والتطور:

- ‌رفض علماء المسلمين لنظريات التطور الغربية:

- ‌دورة الحياة:

- ‌ما تصلح به حال الدنيا:

- ‌ثانيا: المعرفة في الإسلام "‌‌مدخلابستمولوجي

- ‌مدخل

- ‌طبيعة المعرفة وأنواعها:

- ‌تعلم الإنسان من غيره من المخلوقات:

- ‌ثالثا: الأخلاق في الإسلام مدخل إكسيولوجي

- ‌الفصل الرابع: تربية الطفل في الإسلام

- ‌مقدمة:

- ‌نشاط الطفل دليل صحة:

- ‌مراحل التربية الخلقية:

- ‌آداب المتعلم:

- ‌شروط تحصيل العلم:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: تعليم المرأة في الإسلام

- ‌مقدمة:

- ‌المرأة والحجاب:

- ‌قضية تعليم المرأة وقضية تربيتها:

- ‌المرأة والتعليم:

- ‌آراء علماء المسلمين في تعليم المرأة

- ‌أولا: آراء غريبة عن الإسلام

- ‌ثانيا: آراء معتدلة تتفق مع روح الإسلام:

- ‌التعليم المختلط:

- ‌التربية الزوجية:

- ‌حق الزوجة على زوجها:

- ‌الفصل السادس: المعلم في التربية الإسلامية

- ‌مقدمة:

- ‌أهمية المعلم ومكانته:

- ‌واجبات وأدوار المعلم:

- ‌أخلاق المعلمين:

- ‌أجر المعلم:

- ‌الفصل السابع: تطور التربية الإسلامية وأهم سماتها في العصور الوسطى

- ‌مراحل تطور التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى للتربية الإسلامية: مرحلة البناء

- ‌المرحلة الثانية: مرحلة العصر الذهبي أو الازدهار

- ‌السمات العامة للتربية الإسلامية في العصر الذهبي

- ‌دخول العلوم العقلية

- ‌ نشأة المدارس:

- ‌ ظهور الآراء التربوية المتميزة:

- ‌الفصل الثامن: مركز التعليم الإسلامي

- ‌أولا: المساجد

- ‌ثانيا: الكتاب

- ‌هدف الكتاب

- ‌الدراسة في الكتاب:

- ‌نقد طريقة التعليم بالكتاب:

- ‌معلم الكتاب:

- ‌مكان التعليم:

- ‌ثالثا: المدارس

- ‌مدخل

- ‌أسباب إنشاء المدارس:

- ‌نمط المدرسة الإسلامية الأولى:

- ‌طريقة التعليم:

- ‌مناقب ومثالب:

- ‌رابعا: المكتبات

- ‌خامسا: دور الحكمة

- ‌بيت الحكمة في بغداد

- ‌ بيت الحكمة في رقادة:

- ‌ دار الحكمة بالقاهرة:

- ‌سادسا: حوانيت الوراقين:

- ‌سابعا: الرباطات:

- ‌ثامنا: البيمارستانات والمستشفيات

- ‌تاسعا: منازل العلماء

- ‌الفصل التاسع: أعلام التربية الإسلامية في العصر الوسيط

- ‌ابن سحنون وآراؤه التربوية

- ‌ القابسي وآراؤه التربوية:

- ‌ابن مسكويه وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌مؤلفات ابن مسكويه:

- ‌تأثر ابن مسكويه بفلاسفة الإغريق

- ‌آراؤه التربوية:

- ‌النفس الإنسانية:

- ‌الفضيلة وصفاتها الأخلاقية:

- ‌الكمال الإنساني:

- ‌الأخلاق:

- ‌أمراض النفوس وعلاجها:

- ‌تربية النشء:

- ‌الماوردي وآراؤه التربوية

- ‌مقدمة

- ‌الماوردي والأصفهاني وابن خلدون:

- ‌الإنسان مدني بطبعه:

- ‌العقل أس الفضائل:

- ‌ضرورة التأديب:

- ‌شرف العلم وفضله:

- ‌شروط طلب العلم:

- ‌الباعث على طلب العلم:

- ‌التدرج في طلب العلم:

- ‌كبير السن والتعلم:

- ‌أسباب التقصير في طلب العلم:

- ‌أخلاق العلماء:

- ‌آداب رياضة النفس واستصلاحها:

- ‌الغزالي وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌الغزالي ناقل عن ابن مسكويه وغيره من المسلمين والإغريق:

- ‌منهج الغزالي في تربية الطفل:

- ‌ابن تيمية وآراؤه التربوية

- ‌مقدمة

- ‌أسرته:

- ‌عصره:

- ‌وفاته:

- ‌ ابن خلدون وآراؤه التربوية:

- ‌الفصل العاشر: التربية في الشرق العربي الإسلامي في العصور الحديثة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الحركة الإصلاحية السلفية والتعليم:

- ‌ دعوات التغريب والتشكيك الفكري:

- ‌الفصل الحادي عشر: أعلام النهضة التربوية في الشرق العربي الحديث

- ‌محمد بن عبد الوهاب وآراؤه التربوية

- ‌مقدمة

- ‌تأثير ابن تيمية:

- ‌أراؤه وجهوده التربوية:

- ‌رفاعة الطهطاوي وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌آراؤه التربوية:

- ‌أخلاق المعلمين والمتعلمين:

- ‌طريقة التعليم:

- ‌على مبارك وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌جهوده الفكرية والثقافية:

- ‌جهوده في التربية والتعليم:

- ‌الشيخ محمد عبده وآراؤه التربوية

- ‌مدخل

- ‌مدرسة الإمام:

- ‌جهوده العلمية والفكرية:

- ‌آراؤه في التربية:

- ‌مراتب التعليم:

- ‌على الأغنياء بذل المال في إنشاء المدارس:

- ‌تطوير الأزهر:

- ‌تعليم المرأة:

- ‌وفاة الإمام:

- ‌الفصل الثاني عشر: الاتجاهات التربوية في العصر الحديث

- ‌اقتباس النظم التعليمية الحديثة

- ‌ ظهور حركة التربية الحديثة:

- ‌استقدام الخبراء الأجانب

- ‌تقرير كلاباريد

- ‌ تقرير مان:

- ‌ الاهتمام بإعداد المعلمين:

- ‌ إنشاء الجامعات الحديثة:

- ‌ظهور الاتجاهات التعليمية المتميزة

- ‌سياسة الأبعاد الثلاثية "نجيب الهلالي

- ‌اتجاه الكم أو سياسة الماء والهواء: "طه حسين

- ‌اتجاه الكيف أو تعليم الصفوة: "إسماعيل القباني

- ‌ تطوير الأزهر:

- ‌مراجع الكتاب:

- ‌كتب المؤلف

الفصل: ‌أمراض النفوس وعلاجها:

‌أمراض النفوس وعلاجها:

يتحدث ابن مسكويه حديثا مستفيضا عن أمراض النفوس وعلاجها ويخصص لها جزءا كبيرا في كتابه يقول فيه: إن النفوس تمرض كما يمرض البدن، وأن أمراض النفوس تؤثر في البدن. وأمراض النفس قد تكون بالغضب أو بالحزن أو بالعشق أو بالشهوات الهائجة. والمريض بها تتغير صورة بدنه حتى يضطرب ويرتعد ويصفر ويحمر ويهزل ويسمن ويلحقه ضروب التغبر المشاهدة بالحس. ولعلاج أمراض النفوس يقول: علينا أن نتفقد مبدأ المريض إذا كان من نفوسنا. فإن كان مبدؤه من ذاتها كالفكر في الأشياء الرديئة وإحالة الرأي فيها. وكاستشعار الخوف، والخوف من الأمور العارضة والمترقبة، والشهوات الهائجة قصدنا علاجها بما يغضها. وإن كان مبدؤه من المزاج ومن الحواس كالخور الذي مبدؤه ضعف حرارة القلب مع الكسل والرفاهية. وكالعشق الذي مبدؤه النظر مع الفراغ والبطالة قصدنا علاجه أيضا بما يخصه. إن طب الأبدان ينقسم إلى قسمين: أحدهما حفظ صحتها إذا كانت حاضرة، أي إذا كانت الصحة موجودة. والثاني رد صحة الأبدان إذا كانت غائبة أي غير موجودة. وكذلك طب النفوس ينقسم إلى القسمة بعينها. فنحفظ على النفوس صحتها إذا كانت حاضرة، ونردها إليها إذا كانت غائبة. فإذا كانت النفوس خيرة فاضلة تحب نيل الفضائل وتحرص على إصابتها، وتشتاق إلى العلوم الحقيقية والمعارف الصحيحة، فيجب على صاحبها أن يعاشر من يجانسه ويشاكله ويماثله ولا يأنس بغيرهم ولا يجالس سواهم. ويحذر كل الحذر من معاشرة أهل الشر والمجون ولا يصغى إلى أخبارهم مستطيبا، ولا يروي أشعارهم مستحسنا، ولا يحضر مجالسهم مبتهجا. ذلك أن حضور مجلس واحد من مجالسهم أو سمع خبر واحد من أخبارهم يعلق من وضره ووسخه بالنفس المحنك وغواية العالم المستبصر فضلا عن الحدث الناشئ المسترشد. ومما يحفظ على النفس صحتها مداومة النظر والفكر والنشاط. وذلك أن النفس متى تعطلت عن النظر وعدمت الفكر والغوص عن المعاني تبلدت وبلهت وانقطعت عنها مادة كل خبر. وإذا ألفت الكسل واختارت العطلة قرب هلاكها لأن في عطلتها هذه انسلاخا من صورتها الخاصة بها، ورجوعا منها إلى رتبة البهائم. وهذا هو الانتكاس في الخلق نعوذ بالله منه. وهو يرى أن من أمراض النفوس النسيان وهو آفة العلم ويوصي بالمتعلم بألا يتكاسل عن معاودة ومراجعة ما علمه وتعلمه ودرسه. ويورد قول الحسن البصري رحمه الله:

ص: 329

"اقدعوا هذه النفوس "أي كفوها عن الآثام" فإنها طائعة وحادثوها فإنها سريعة الدثور" أي النسيان. ويعلق على هذه العبارة بقوله: واعلم أن هذه الكلمات مع قلة حروفها كثيرة المعاني وهي مع ذلك فصيحة واستوفت شروط البلاغة "ابن مسكويه: 185-188". ومما يحافظ على صحة النفس ألا يحرك المرء قوته الشهوانية والغضبية بل يتركها حتى يتحركا بأنفسهما. ولذلك يجب ألا يتذكر أعمال هاتين القوتين حتى لا يشتاق إليهما ويتحرك نحوها. بل يتركهما فإنهما يهيجان عند حاجتهما ويلتمسان ما يحتاج البدن إليه. ويتخذان من باعث الطبيعة ما يغني عن باعث الفكر. لأن الله تعالى إنما وهب هاتين القوتين لنا لنستخدمهما عند الحاجة إليهما لا لنخدمهما ونتعبد لهما.

ومن الأمور التي ينصح بها ابن مسكويه في المحافظة على صحة النفس أن يمعن المرء النظر في كل ما يعمل ويدبر حتى لا يخالف ما يجب تمييزه وتعقله. فما أكثر ما يعرض للإنسان من أفعال تخالف ما عقد عليه عزمه ورأيه. وعندما يقع له ذلك وجب عليه أن يضع لنفسه عقوبات لمقابلة مثل هذه الأخطاء أو الذنوب. فإذا أنكر من نفسه مبادرة إلى طعام ضار أو تناول فاكهة أو حلواء غير موافقة عاقب نفسه بصوم لا يفطر منه إلا على ألطف ما يقدر عليه وأقله، وإن أمكنه الطي "أي طي البطن وهو الجوع" فليفعل ويمكن في توبيخه لنفسه أن يقول لها: إنما قصدت تناول النافع فتناولت الضار. وهذا فعل من لا عقل له. وإن أنكر من نفسه كسلا وتدانيا في مصلحة له فليعاقب نفسه بسعي فيه مشقة أو صلاة فيها طول أو بعض الأعمال الصالحة التي فيها كدر وتعب. وليحذر في كل أوقاته ملابسة رذيلة أو مساعدة رفيق عليها أو مخالفة صواب. ولا يستحقون شيئا مما يأتيه من صغار السيئات. ولا يطلبن رخصة منها فإن ذلك يدعوه إلى أعظم منها. ومعظم النار من مستصغر الشرر. ويجب على المرء أن يتعود الصبر على ما يجب الصبر عليه والحلم عما ينبغي أن يحلم عنه ويضبط النفس عن الشهوات الرديئة ولا ينتظر دفع هذه الرذيلة وقت هجائها فإن الأمر يكون عن ذلك صعبا جدا. ولعله غير ممكن البته. ومن تعود في أول نشأته وشبابه ضبط النفس عن شهواتها عند ثورة غضبه وحفظ لسانه واحتمال أقرانه خف عليه

ص: 330

ما يثقل على غيره ممن لم يتأدب بهذه الآداب "المرجع السابق: 194-196".

ومن الأمور التي يحافظ بها المرء على صحة نفسه معرفته لعيوبها حتى يسهل عليه علاجها. ويورد ابن مسكويه ما ذكره جالينوس في هذا الصدد بقوله: "إنه لما كان كل إنسان يحب نفسه خفيت عليه معايبه ولم يرها وإن كانت ظاهرة. وينتقد ما أشار به جالينوس من علاج لتخلص المرء من عيوبه. وذلك باختيار صديق كامل فاضل يحكمه في بيان عيوبه ومساوئه. ويعلق فيه. ويرى بدلا من ذلك أن العدو في هذا الموضع أنفع من الصديق. فالعدو لا يحتشم في إظهار عيوبنا. بل يتجاوز ما يعرف منا إلى التحرض والكذب فيها. فننتبه إلى كثير من عيوبنا. بل نتجاوز ذلك إلى أن نتهم نفوسنا بما ليس فيها.. ويعود فيقول إن لجالينوس مقالة أخرى يذكر فيها إن خيار الناس ينتفعون بأعدائهم. ويوافقه على ذلك. ويورد ابن مسكويه ما قاله في ذلك أبو يوسف بن إسحاق الكندي. وهو أن على طالب الفضيلة أن يتخذ صور جميع معارفه من الناس مرآة له تريه صورة كل واحد منهم عندما تعرض له آلام الشهوات التي تثمر السيئات حتى لا يغيب عنه شيء من السيئات التي له. وبذلك يكون متفقدا لسيئات الناس. فإذا رأى سيئة بادية من أحد ذم نفسه عليها كأنه هو الذي فعلها، وأكثر عتبه على نفسه من أجلها. وإذا وقف عند محاسبته لنفسه، فإن النفوس بهذا ترتدع عن المساوئ وتألف الحسنات. ويعلق ابن مسكويه على ما ذكره الكندي بأنه أبلغ مما قاله من سبقوه وتقدموا عليه "المرجع السابق: 196-198".

ومن الأمراض الغالبة على النفس الغضب. ويقول عنه ابن مسكويه إن الغضب في الحقيقة حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للانتقام. فإذا كانت هذه الحركة عنيفة أججت نار الغضب واحترامتها فاحتد غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخانا مظلما مضطربا يسوء منه حال العقل ويضعف فعله. فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصم عن الموعظة. بل تصير المواعظ في

ص: 331

تلك الحالة سببا لزيادة الغضب ومادة اللهب والتأجج. وليس له في تلك الحال حيلة. فالناس يتفاوتون بحسب المزاج. فإن كان المزاج حارا يابسا كان أشبه بالكبريت الذي إذا أدنيت منه الشرارة الضعيفة التهب. وإن كان بالضر فماله بالضر. ولكن إذا احتدم الغضب فيكاد الحال يتفاوت مثله مثل اشتغال النار في الحطب اليابس والرطب. ومثل اشتعال النار بسرعة وشدة من الكبريت والنفط. كما أن الاحتكاك وإن كان ضعيفا في توليد النار فربما قوي حتى تلتهب منه الأمة العظيمة. وكذلك النفس إذا استشاطت غضبا فليس يرجى لها حيلة البتة.

وأسباب الغضب كما يذكرها ابن مسكويه هي: العجب والافتخار والمراء واللجاج والمزاج والتيه والاستهزاء والغدر والضيم أو الظلم وطلب الأمور التي فيها لذة ويتنافس فيها الناس ويتحاسدون عليها. وغاية هذه الأسباب جميعا شهوة الانتقام. وعواقبها الندامة وتوقع العقاب عاجلا أو آجلا وتغير المزاج وتعجل الألم. ذلك أن الغضب جنون ساعة أو لحظة وربما أدى إلى التلف باختناق حرارة القلب فيه. وربما كان سببا لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف. ومن لواحقه أيضا مقت الأصدقاء وشماتة الأعداء واستهزاء الحساد والأراذل من الناس. ويرى ابن مسكويه أن لكل من أسباب الغضب السابقة علاجا يبدأ به حتى يقتلع من أصله.

فالعجب وهو من أسباب الغضب، هو في حقيقته ظن كاذب بالنفس باستحقاق مرتبة غير مستحقة لها. وعلى المرء أن يعرف أنه لا يخلو من عيوب ونقائض فالفضل مقسوم بين البشر. ولا يكمل المرء إلا بفضائل غيره. ومن كانت فضيلته عند غيره وجب عليه ألا يعجب بنفسه. وكذلك الافتخار بما هو خارج عنه فقد باهى بما لا يملكه. وكيف يملك ما هو معرض للزوال في كل ساعة وفي كل لحظة. وأوضح مثال على ذلك ما ذكره القرآن الكريم في سورة الكهف: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا

ص: 332

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} .

وأما المزاج واللجاج فيولدن الفرقة والتباغض بين الإخوان ولذلك ينبغي الابتعاد عنها وتجنبها. وأما المزاج المعتدل منه محمود وكان رسول الله صلى الله عليه سلم يمزج ولا يقول إلا حقا. ولذلك ينبغي الاعتدال في المزاج وعدم التمادي فيه حتى لا يخرج عن حده وينقلب إلى ضده. فيثير غضبا كامنا ويزرع حقدا باقيا. وقد قال الشاعر في هذا الصدد:

ورب حرب جره اللعب

وبعض الحرب أوله مزاح

وأما التيه فهو قريب من العجب. والفرق بينهما أن التياه ينبه على غيره ولا يكذب نفسه أما العجب فيعجب بنفسه ويكذب عليها فيما يظن لها. وعلاج الاثنين واحد. وذلك بأن يعرف المرء أن ما يتيه به لا مقدار له عند العقلاء وأنهم لا يعتدون به لخساسة قدره وزوال نعمه.

وأما الاستهزاء فيستعمله الماجنون من الناس ومن لا يبالي بمن يقابل به والحر القاضل من يبتعد عن هذا المقام حتى يكرم نفسه وعرضه بعدم تعرضها للسفهاء الذين قال فيهم رب العزة في سورة النساء: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . ونحن نقول في دعوانا ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

وأما الغدر فهو مذموم بكل لسان وينفر السماع من ذكره وضده الوفاء. ومن عرف قبح الغدر باسمه ونفور العقلاء منه وجب عليه أن يبتعد عنه وينفر منه.

ص: 333

أما الضيم فهو الظلم الذي قد يكون شهوة للانتقام. وقد نفى رب العزة الظلم عن نفسه فقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . ولذلك وجب أن يبتعد المرء عن الضيم لأنه مدمر للحياة الاجتماعية وعكسه العدل الذي سبق أن أفضنا في الكلام عنه. ويجب ألا يسرع المرء إلى الانتقام عندما يحيق به ظلم أو يلحقه ضيم حتى لا يعود عليه بضرر أعظم من احتمال الظلم أو الضيم.

أما طلب الأمور التي فيها لذة ويتنافس فيها الناس مثل الجواهر النفيسة والأحجار الكريمة وغيرها من المقنيات فلا يقدر عليها إلا الموسرون. وهي قليلة الانتفاع بها والحاجة إليها وعادة ما تقتني لخزنها وقد لا ينتفع بها إلا نادرا. والتنافس على شرائها وامتلاكها خطأ من القادرين على شرائها فضلا عن أوساط الناس "المرجع السابق: ص205-213".

ومن أمراض النفس الخوف. ويكون من توقع مكروه وانتظار محذور. والتوقع والانتظار إنما ذكن للحوادث في الزمان المستقبل. وهذه الحوادث قد تكون عظيمة أو يسيرة وقد تكون ضرورية أو ممكنة. والأمور الممكنة قد تكون نحن أسبابها وقد يكون غيرنا سببها. وجميعها لا ينبغي للعاقل أن يخاف منها. وهي تقع أو تكون وقد لا تقع ولا تكون. ويجب على المرء ألا يصر على أنها تكون فيستشعر الخوف منها ويتعجل مكروه التألم بها وهي لم تقع بعد ولعلها لا تقع بالمرة. ويجب أن يكون الخوف من مكروه على قدر حدوثه. وإنما يحسن العيش وتطيب الحياة بالظن الجميل والأمل القوي وترك الفكر في كل ما يمكن ألا يقع من المكاره. وأما ما كان سببه سوء اختيارنا وجنايتنا على أنفسنا فينبغي أن نحذر منه بترك الذنوب والأعمال التي نخاف عواقبها ولا تؤمن غوائلها وأما الأمور الضرورية كالهرم وكبر السن وتوابعه فعلاج الخوف منه أن تعلم أن الإنسان إذا أحب طول الحياة فقد أحب لا محالة الهرم. ومع الهرم يحدث نقصان الحرارة الغريزية والرطوبة الأصيلة التابعة لها. وضعف الأعضاء الأصيلة كلها. ويتبع ذلك قلة الحركة وبطلان النشاط وضعف آلات الهضم وسقوط آلات الطحن ونقصان القوى المدبرة للحياة. وأما الخوف من الموت فسببه الجهل بحقيقته وحقيقة مصير الناس بعده لأن الإنسان يخاف من المجهول. وهذا الجهل

ص: 334

هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به. وهو تعب فيه راحة من الجهل وأن التعب الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس، والبرء من خلاص لها وراحة سرمدية ولذة أبدية. ولذلك هانت عليهم أمور الدنيا كلها واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية والمطالب التي تؤدي إليها. أما صاحب النفس المطمئنة الذي يعرف أنها ترجع إلى ربها راضية مرضية لتشاهد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهو لا يخاف الموت ولا يخشاه بل يتلقاه ويتقبله بنفس راضية. ولأن الموت تمام حد الإنسان فهو حي ناطق ميت. والموت كمال ربه يصير إلى الأفق الأعلى. وقد جزم الحكماء بأن الموت موتان: موت إرادي وعنوا به إماته الشهوات وترك التعرض لها، وموت طبيعي وهو مفارقة النفس للبدن. ومن خاف الموت الطبيعي فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه ومن أجهل ممن يخاف تمام ذاته؟ ومن خاف الموت ظنا منه أن ينبغي أن يرجوه ومن أجهل ممن يخاف تمام ذاته؟ ومن خاف الموت ظنا منه أن للموت ألما عظيما فعلاجه أن يبين له أن هذا ظن كاذب لأن الألم إنما يكون للحي. أما الجسم الذي ليس فيه أثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس. ومن خاف الموت لأجل العقاب على ذنوبه وسيئاته. فالواجب عليه أن يحذر في حياته تلك الذنوب ويجتنبها.

ومن أمراض النفس التي يشير إليها ابن مسكويه أيضا الحزن. ويقول عنه إنه ألم نفساني يعرض لفقد محبوب أو فوات مطلوب. وسببه الشرة إلى الشهوات البدنية والحسرة على ما يفقده المرء أو يفوته منها ويورد ما حكى عن سقراط عندما سئل عن سبب نشاطه وقلة حزنه فقال: لأنني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه. وهو يذكر أن الحزن مرض عارض. والعاقل من ينظر إلى أحوال الناس في الحزن وأسبابه ليعلم أنه ليس يختص من بينهم بمصيبة غريبة ولا يتميز عنهم بمحنة بديعة وأن غايته من مصيبته السلوة. ومن رأى مصيبة غيره وبلواه هانت عليه مصيبته.

أما الحسد فيقول عنه إنه أشنع الشرور وأقبح الأمراض. وقد قال الشاعر:

وأظلم أهل الأرض ما بات حاسدا

لمن بات في نعمائه يتقلب

وقد أشار رب العزة في سورة الفلق إلى التعوذ من شر حاسد إذا حسد ومن المعروف أن الحسد مكروه لأن الحاسد يتمنى زوال نعمة المحسود. أما الغبطة فتعني تمنى المرء مثل ما للمغبوط من نعمة من غير تمني زوالها. فهو يغبطه على نعمته ولا يحسده عليها.

ص: 335