الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع أكفائه.
أما الأمر الرابع الذي تصلح به الدنيا وهو الأمن العام فإليه تطمئن النفوس وفيه تنتشر الهمم وفيه يكن البريء ويأنس الضعيف. فليس لخائف راحة ولا لحاذر طمأنينة. وقد قال بعض الحكام: الأمن أهنأ عيش والعدل أقوى جيش.
وأما الأمر الخامس وهو خصب الدار ووفرة العيش فيه تتسع النفوس ويشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال. فيقل في الناس الحسد وينتفي عنهم تباغض العدم. ولأن الخصب يئول إلى الغنى. والغنى يورث الأمانة والسخاء. وقال بعض السلف: "إني وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى، وشر الدنيا والآخرة في الفجور والفقر". وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
ولم أر بعد الدين خيرا من الغنى
…
ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر
أما الأمر السادس وهو الأصل الفسيح فإنه يبعث على اقتناء ما يقصر العصر عن استيطابه. ويبعث على اقتناء ما ليس يؤمل في دركه بحياة أربابه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: $"الأمل رحمة من الله لأمتي ولولاه ما غرس غارس شجرا ولا أرضعت أم ولدا". وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
وللنفوس وإن كانت على وجل
…
من المنية آمال تقويها
فالصبر يبسطها والدهر يقبضها
…
والنفس تنشرها والموت يطويها
ويفرق الماوردي بين الآمال والأماني. فالآمال ما تقيدت بأسباب والأماني ما تجردت عنها. أي أن الأمل يتعلق بتحصيل شيء يمكن حصوله. أما الأمنية فهي رجاء وتمني لشيء من الصعب أو المحال تحقيقه.
ثانيا: المعرفة في الإسلام "
مدخل
ابستمولوجي
"
مدخل
…
ثانيا: المعرفة في الإسلام "مدخل أبستمولوجي"
شغل علماء المسلمين بالبحث في العلوم والمعارف وأنواعها وتصنيفاتها والمفاضلة بينها. ويقول ابن خلدون: "ومن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي". "والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة
…
والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين". وقد فاضل علماء المسلمين بين العلوم شريفها ووضيعها ومحمودها ومذمومها. وكانت الفلسفة أكثر العلوم موضعا للجدل. فقد نظر إليها الغزالي على أن كثيرها مذموم لما تؤدي إليه من الشك أو الإلحاد، واعتبرها ابن خلدون صناعة عاطلة.
وقد ورد عن الجاحظ أنه مدح الفلسفة وذمها فيما مدحه وذمه من العلوم معربا عن قدرته على الكلام وبعد شأوه في البلاغة. قال مادحا الفلسفة: إنها أداة الضمائر وآلة الخواطر ونتائج العقل وأداة لمعرفة الأجناس والعناصر وعلم الأعراض والجواهر، وعلل الأشخاص والصور واختلاف الأخلاق والطبائع والسجايا والغرائز. وقال في ذم الفلسفة: إنها كلام مترجم وعلم مرجم بعيد مداه قليل جدواه مخوف على صاحبه سطوة الملوك وعداوة العامة. ومن المعروف أن الجاحظ كان من المعتزلة وهي إحدى فرق الكلام الإسلامية التي تحتكم إلى العقل في منهجها الفلسفي.
وهكذا نجد أن المتقدمين من المسلمين قد اختلفوا في تقديرهم للفلسفة بين مادح وقادح، لكنهم لم يصلوا إلى درجة المبالغة في معاداة الفلسفة وتحريم الاشتغال بها على غرار ما نجده عند بعض علماء المسلمين الذين جاءوا في فترة متأخرة. فالشهرزوري أحد علماء القرن الثالث عشر يذكر في فتواه فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعلما وتعليما قوله:
الفلسفة أس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة.. من تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان.. وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه من إباحة الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين
…
ومن زعم أن يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به. فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم ويخرجهم عن المدارس ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم "مصطفى عبد الرازق: ص85".
ويذكر الشيخ جمال الدين أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي عالم القرن العاشر الميلادي في الرد على الفلاسفة: هم قوم من اليونانيين تحذلقوا في المعقولات حتى وقعوا في وادي الحيرة والخباط
…
ويزعمون أنهم أكيس خلق الله وسياق مذهبهم يدل على أنهم أجهل خلق الله وأحمق الناس. وأساس الإلحاد والزندقة مبني على مذهبهم والكفر كله شعبة من شعبهم. وكانوا يترهبون لقطع النسل. ورئيسهم أفلاطون الملحد لعنه الله وإخوانه كأرسططاليس وسقراط وجالينوس كلهم ملاحدة العصر وزنادقة الدهر يقينا. ثم إن الله سبحانه وتعالى علم خبث سرائرهم فأرسل عليهم سيلا ففرقهم. وعلومهم المشئومة عربتها أقوام في عهد المأمون الخليفة بإذنه ووصيته
…
فهم مشركون ملحدون لعنهم الله.
وواضح هنا أن الكلام عن الفلسفة اليونانية ولا يمكن أن يفهم منه أن الخوارزمي يعادي الفلسفة بصفة عامة. بل إن الخوارزمي يورد في نفس الكتاب ما يؤكد أن النظر والتفكير واجب بل هما من الفرائض الإسلامية. ولعل هذا ما حدا بمؤلف العبقريات الإسلامية أن يجعل عنوان أحد كتبه: التفكير فريضة إسلامية: أليس هذا سندا شرعيا كافيا للفلسفة؟
وهناك مثال آخر للعلماء المعادين للفلسفة الذين ظهروا في فترة متأخرة نجده فيما يذكره أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كوبري زاده عالم القرن السادس عشر الميلادي في كلامه عن موضوعات العلوم فيقول: وإياك أن تظن من كلامنا هذا أو تعتقد كل ما أطلق عليه اسم العلم حتى الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا ونقحها نصر الدين الطوسي ممدوحا. هيهات هيهات إن كل ما خالف الشرع فهو مذموم سيما طائفة سموا أنفسهم حكماء الإسلام عكفوا على دراسة ترهات أهل الضلال وسموها الحكمة، وربما استجهلوا من عرى عنها وهم أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله المحرفون علم الشريعة عن مواضعه. ولا تكاد تلقي أحد منهم يحفظ قرآنا ولا حديثا وإنما يتجملون برسوم الشريعة حذرا من تسلط المسلمين عليهم
…
فالحذر الحذر منهم وإن الاشتغال بحكمتهم حرام في شريعتنا.
وعلى النقيض من ذلك نجد إخوان الصفا يعتبرون الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة. واعتبرها آخرون ضرورية لفهم الدين بل إن الشرع يحث على تعلمها. ويقول ابن رشد في "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" إن النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع بل إن الشرع يحث على تعلم الفلسفة لأن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات كما أن الشرع قد حث على معرفة الله تعالى وسائر موجوداته بالبرهان. وكان من الأفضل أن الأمر الضروري لمن أراد أن يعرف الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان أن يعرف أنواع البراهين وشروطها وكيف يختلف القياس البرهاني عن القياس الجدلي والقياس الخطابي والقياس المغالطي، وهذا بدوره يقتضي معرفة القياس وأنواعه وأجزائه ومكوناته وغير ذلك من الأساليت التي تقتضيها طبيعة النظر في الموجودات.
ويعرض الغزالي في "معارج القدس ص46" لفكرة أهمية العقل وضرورته كأساس فيقول: "فالعقل كالأس والشرع كالبناء ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس
…
فالشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل وهما متعاضدان بل متحدان". ويقول ابن رشد في نفس المعنى: "إن الحكمة هي صاحبة الشرعية والأخت الرضيعة وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة" ويقول الدكتور دراز: في كتابه: الدين ص53. "إن من الأهداف الرئيسية للفلسفة معرفة أصل الوجود وغايته ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية في العاجل والآجل وهذا أيضا موضوعا الدين بمعناه الشامل للأصول والفروع".
يقول فرانسيس بيكون في الرد على اتهام معاصريه له بالإلحاد: "إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان ذلك لأن عقل الإنسان قد يقف عندما يصادفه من أسباب ثانوية مبعثرة فلا يتابع السير إلى ما وراءها ولكنه إذا أمعن النظر فشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها لا يجد بدا من التسليم بالله".
كل تلك الأمثلة السابقة أردنا أن نوضح بها الصلة بين الدين والفلسفة. وقد درس علماء المسلمين أيضا علاقة المنطق بالفلسفة ويمثل علم المنطق في نظر
إخوان الصفا وغيرهم ميزان الفلسفة وأداة الفيلسوف.
وقد اختلف علماء المسلمين في المفاضلة بين العلوم الحسية والعلوم العقلية أو النظرية فذهب فريق منهم أبو العباس القلانسي إلى تفضيل العلوم النظرية العقلية على الحسية. وذهب فرق آخر منهم أبو الحسن الأشعري إلى تفضيل العلوم الحسية على العلوم النظرية العقلية لأنها أصول لها ويقول ابن خلدون في المقدمة: "وأما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن يميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بها العجم وتركها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعلمون من العجم شأن الصنايع كما قلنا".
وقد قسم ابن طاهر البغدادي العلوم النظرية أي التي تعتمد على النظر والعقل إلى أربعة اقسام:
- القسم الأول: يقوم على الاستدلال بالعقل والقياس مثل مباحث الغيبيات والإلهيات والوجود وغيرها.
- القسم الثاني: يقوم على التجارب والعادات مثل علوم الطب والدواء والحرف والصناعات.
- القسم الثالث: هي العلوم المعلومة من جهة الشرع مثل معرفة أصول الدين وأحكام الفقه.
- القسم الرابع: هي العلوم المتحصلة عن طريق الإلهام وهي علوم يختص بها بعض الناس دون البعض مثل معرفة فنون الشعر وصناعة الألحان وما شابهها.
ويقول الدكتور محمد عبد السلام عالم الفيزياء العالمي المسلم المشهور "إن الذي لا يرى والذي لا يدركه البشر والذي لا يمكن معرفته هو ما تعبر عنه الكلمات العربية الأصيلة في قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} "محمد عبد السلام: 45".