الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد: مشكلات منهجية في الكتابة عن التربية الإسلامية
قد يعجب دارس تاريخ التربية من إغفال مراجع التربية المؤلفة في الغرب لموضوع التربية الإسلامية على الرغم من أن التربية الإسلامية قد عاشت أزهى فتراتها في وقت خيم فيه ظلام العصور الوسطى على الغرب. وإذا كانت هذه الفترة من الظلام قد ميزت القرون الخمسة الأولى من العصور الوسطى في الغرب فإن شمس الحضارة كانت تشرق عالية في الشرق. بل إن النهضة الأوربية التي بدأت في النصف الثاني من القرون الوسطى قد اعتمدت في غذائها الثقافي والفكري على نتاج الثقافة العربية والإسلامية إبان عصرها الذهبي.
ولعل العذر في هذا الإغفال من جانب المؤلفين الغربيين يرجع إلى عدم اهتمامهم بالموضوع رغم أهميته أو لجهلهم به أو ربما لتحيزهم وتعصبهم في بعض الأحيان. ويذكر كاتب هذه السطور أنه عندما قام مع زميلين له بترجمة كتاب التاريخ الاجتماعي للتربية لمؤلفه روبرت بك من الإنجليزية إلى العربية؛ تم الاتصال بالمؤلف الأمريكي لاستئذانه في الترجمة العربية مع طلب مقدمة منه لهذه الترجمة. وفي رده عبر عن إحساسه بهذا النقص من الكتاب وعلل ذلك بعدم معرفته بهذا الجانب الهام من التربية في الشرق. وقد نشرت الترجمة ولم تنشر معها المقدمة لأنها وردت متأخرة.
وقد تكون دهشة دارس تاريخ التربية أشد عندما يرى أن المؤلفات العربية تعالج موضوعات التربية الإسلامية عند الكلام عن التربية في العصور الوسطى وكأن دراسة الموضوع تقف عند هذه الفترة الزمنية.
صحيح أن التربية الإسلامية -كما قلنا- عاشت أزهى عصورها في هذه الفترة التي أعقبها فترة تدهور وانحطاط. لكن هذا لا يقلل من دراسة التربية الإسلامية خلال تلك الفترة لمتابعة تطورها ونمو اتجاهاتها حتى نأتي إلى العصور الحديثة لتكتمل الصورة.
وللأسف الشديد أن الفجوة في تتبع دراسة تطور التربية الإسلامية حتى العصورة الحديثة ما زالت قائمة، ولا توجد حتى الآن محاولة جادة في هذا الاتجاه. وليس من قبيل التواضع القول بأن ما يقدمه المؤلف في هذا الكتاب ليس إلا خطوة على الطريق أو هي جهد المقل إن صح هذا التعبير.
وعلى الرغم من وجود محاولات متزايدة للكتابة عن التربية الإسلامية في السنوات الأخيرة، فإن هذه المحاولات تقصر في الأغلب والأعم عن إشباع حاجات وتطلعات المهتمين بهذا النوع من الدراسات. وتبقى الكتابة عن التربية الإسلامية كالصخرة التي تتحدى ناطحها. وقد أردنا من هذه السطور أن نعرض لأهم المشكلات والصعوبات التي تكتنف الكتابة عن هذا الموضوع الحيوي الهام. ونحب أن نوضح منذ البداية أن ما نعنيه بالتربية الإسلامية هنا هو ليس مفهومها العام وإنما مفهومها الاصطلاحي الذي يخص المربين وأساتذة التربية والذي يتصل بالمفاهيم والأسس والمبادئ التي تحكم النظرية التربوية في الإسلام بأبعادها المختلفة. وسنحاول في السطور التالية أن نعرض لأهم هذه المشكلات المنهجية في الكتابة عن التربية الإسلامية.
أولا: أن الكتابة عن التربية الإسلامية تحتم على الباحث أو الكاتب الخوض في التراث، وهي عملية ليست سهلة وتكتنفها صعوبات كثيرة سنشير إلى بعضها فيما بعد. لكن مما يتصل بكلامنا هنا من هذه الصعوبات ما يتعلق بتناثر الكتابات عن التربية الإسلامية في التراث بصورة تحول دون الإلمام بشتاتها، وتحتاج هذه الكتابات إلى محاولات منسقة لحصرها وتصنيفها وتبويبها بحيث تقدم في صورة متكاملة يمكن للمربين والمشتغلين بالعلوم التربوية أن يستفيدوا منها. ومع أن هناك بعض الدراسات والمحاولات الجادة التي عملت في هذا السبيل فإنها تعتبر محاولات مرحلية لعبت دورها في تمهيد الطريق لدراسات أخرى تالية تستفيد منها وتضيف إليها.
إن إحدى الملاحظات التي يمكن أن تؤخذ على هذه الدراسات هو منهجها في البحث والتحليل الذي قد يفتقر أحيانا إلى النظرة الشمولية والاستقصائية والربط والتفسير والوصول إلى الاتجاهات أو المبادئ العامة. مثلا إحدى هذه
الدراسات عن التربية الإسلامية استعرضت آراء مختلفة عن أغراض أو أهداف التربية الإسلامية ووصلت بعد هذا الاستعراض إلى أن الصواب في نظر صاحب الدراسة هو ذكر صاحب المذهب ثم ذكر الغرض من التعليم الذي يلائم هذا المذهب. فهل هذا الاستنتاج صحيح؟ وهل هذا هو نوع الاستنتاج العام الذي نريد الوصول إليه؟
ثانيا: أن الكتابة عن التربية الإسلامية في معظمها تأخذ المنظور التاريخي الجزئي. بمعنى أنها تنظر إلى التربية الإسلامية على أنها فترة تاريخية معينة وعادة ما تكون هذه الفترة هي فترة العصور الوسطى التي تشمل فترة مجد الإسلام وازدهاره وبرز فيها علماء كثيرون كتبوا عن التربية والتعليم. ولذلك تهتم هذه الكتابات عادة بعرض الآراء. ومن الطبيعي أن يأتي عرض هذه الآراء حسبما اتفق دون نظام فكري معين. وغالبا ما تتكرر الآراء دون تمييز للسابق على اللاحق. وكثيرا ما يصعب على القارئ أن يخرج بصورة متكاملة مترابطة. كما يصعب على القارئ أن يربط بين ما قرأه وبين الوضع الراهن للتربية والتعليم بحيث يمكن أن يستفيد منه كمعلم أو كمربٍّ أو كمتخصص في علوم التربية.
ثالثا: أن الكتابة في التربية الإسلامية قد يغلب عليها الأسلوب الإنشائي أو الخطابي أو أسلوب الوعظ والإرشاد. وهو أسلوب وإن كان له استخداماته فإنه لا يصلح للمعالجة الموضوعية والدراسة العلمية للتربية الإسلامية بمفهومها المهني الذي يفهمه المربون وأساتذة التربية وليس بمعناها العام كما أسلفنا ويتصل بذلك الخلط الذي يحدث كثيرا بين مفهوم التربية ومفهوم التعليم.
فالتربية أعم من التعليم، وصلة التعليم بالتربية هي صلة الخاص بالعام. وهذا يعني أن التربية كعملية ليست مسئولية المدرسة وحدها وإنما تشترك معها كل القوى الأخرى المربية في المجتمع. كما أن المدرسة وإن كان معظم وظائفها تعليمية فإن لها أيضا وظيفة تربوية. وبالمثل يمكن الكلام عن المعلم فهو معلم بالمعنى الخاص ومربٍّ أيضا بالمعنى العام. فالمعلم في علاقته بالتلميذ لا يمكن أن
يقتصر تأثيره على المادة العلمية أو التخصصية التي يدرسها وإنما يتعدى تأثيره إلى ما هو أبعد من ذلك من حيث القيم أو المثل أو السلوك وغيرها من المجالات التي يؤثر فيها المعلم على التلميذ. وعلى هذا ونظرا لهذا التداخل بين مفهومي التربية والتعليم نجد على سبيل المثال أن بعض المشتغلين بالتربية الإسلامية قد يرفض على غير حق اعتبار أسلوب الوعظ والإرشاد كأحد أساليب التربية الإسلامية. وينظر إلى أن أساليب التربية الإسلامية إنما تقتصر على الإلقاء أو الحفظ أو التلقين أو التسميع أو المحاورة أو الإملاء وغيرها من الأساليب التي تكون ألصق ما يكون بمفهوم التعليم.
رابعا: أن الكتابة في التربية الإسلامية قد تصطدم بمشكلة وضوح الرؤية في تتبع مسار الأصالة والتجديد للفكر الإسلامي عبر العصور المختلفة. فمن المعروف أن الفكر الإسلامي وإن كان يرجع في أصوله المتفق عليها إلى أصول واحدة هي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. فإنه تعرض لتأثير عناصر فكرية غريبة عنه حتى منذ العصور الأولى للإسلام.
فبعض المسلمين دخلوا الإسلام ليهدموه ويروجوا البدع فيه وهم في حمايته وتحت رايته. وقصة عبد الله بن سبأ مع علي بن أبي طالب معروفة. فعبد الله بن سبأ يهودي أسلم ورأى مرة سيدنا عليا يرفع بيده ثقلا كبيرا يصعب على إنسان واحد أن يرفعه ولعله غطاء بئر على ما أذكر. فقال له عبد الله بن سبأ: والله ما رفعته بقوة جسمانية، وإنما بقوة ملكوتية، مرددا بذلك نظرية الفيض الإلهي عند المجوس، التي هي غريبة على روح الإسلام، وعندها نجد أن الإمام عليًّا يدرك المغزى وينكر على ابن سبأ هذا القول ويهدده بقوله: والله لو عدت إلى هذا القول لرجمتك. وهذا مجرد مثال واحد أردنا أن نورده للتدليل على دخول أفكار غريبة في الإسلام على يد أناس أسلموا ليكونوا معاول هدم الإسلام. وكم في الإسلام أناس من أمثال عبد الله بن سبأ. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "تتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة والباقون هلكى" قيل: ومن الناجية؟، قال:"أهل السنة والجماعة". قيل: وما السنة والجماعة؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
ومن المعروف أن الأقوام الكثيرة التي دخلت الإسلام حملت معها بالطبع عاداتها وتقاليدها وعقائدها وتاريخها. فاليهود عملوا على ترويج أخبارهم ونشرها بين المسلمين فيما عرف فيما بعد بالإسرائيليات. والنصارى ساروا على نفس النهج، وكذلك الفرس الذين روجوا من الأخبار ما لا يخلو من العصبية والأفكار الغريبة عن الإسلام. ويعتبر كعب بن مانع -المشهور باسم كعب الأحبار المتوفى 34هـ وهو يهودي يمني أسلم في خلافة أبي بكر- أكبر مروج للإسرائيليات التي تفشت في كثير من الكتب الإسلامية. وكان من الذكاء وسعة الاطلاع بحيث استطاع أن يؤثر في عدد غير قليل من علماء المسلمين الأولين منهم ابن عباس وأبو هريرة. وكانت فيه جرأة غريبة لدرجة أنه كما يقول ابن سعد في طبقاته الكبرى كان يجلس في المسجد وأمامه أسفار التوراة غير متحرج من ذلك "مصطفى الشكعة ص32" ومع أن كثيرين من علماء المسلمين قد أخذ رواياته بكثير من الحيطة والتحفظ إلا أن بعضهم نقل عنه مثل الكسائي الذي نقل عنه قصص الأنبياء.
إن مثل هذه الأفكار الغريبة سواء كان دخول بعضها مغلفا أو مكشوفا أصبح جزءا من التراث ويحتاج منا إلى جهود جادة لغربلة هذه الشوائب وتنقيتها. وهي عملية ليست سهلة كما يبدو. وإنما تحتاج إلى تضافر جهود مخلصة واعية قادرة. وبدون ذلك يظل طريق الكتابة عن التربية الإسلامية محوطا بالأشواك.
يضاف إلى ذلك أيضا عناصر الفكر اليوناني التي شقت طريقها بسلطان إلى الفكر الإسلامي من خلال التراجم العربية لفلسفة الإغريق وقيام الفلاسفة المسلمين أنفسهم بترويج هذه الآراء على ألسنتهم بعضها أشعار نرددها دون وعي أحيانا. فنحن قد نردد قصيدة ابن سينا في النفس والتي يقول فيها: "هبطت إليك من المحل الأرفع" دون أن نعرف أنها ترديد لأساطير أفلاطون. وهذا أبو حامد الغزالي حجة الإسلام وأكثر المدافعين فيه يردد على لسانه آراء أفلاطون وأرسطو وغيرهما. ومن قبله ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" نجده متأثرا بفلاسفة الإغريق. بل إنني تعجبت جدا عندما
قرأت كتاب ابن قيم الجوزية "تحفة المودود بأحكام المولود" ووجدت أنه يورد آراء علماء الإغريق في هذا الكتاب الذي يحمل عنوانا لا نتصور معه وجود مكان فيه لمثل هذه الآراء.
وعلى هذا تواجه الكتابة عن التربية الإسلامية مشكلة التمييز فيما يورده علماء المسلمين من آراء بين ما هو أصيل ودخيل. هناك بالطبع أشياء يمكن لنا تحديدها ومعرفتها. فنحن نعرف مثلا أن كتابات كل من ابن سحنون عالم القرن الثالث الهجري والقابسي عالم القرن الرابع الهجري والماوردي، عن التربية والتعليم هي كتابات إسلامية أصيلة خالصة. وهم من أوائل من كتبوا عن التربية الإسلامية كتابة متخصصة. ونعلم أيضا أن القرن الرابع الهجري يعتبر نقطة تحول واضحة بالنسبة للفكر الإسلامي عندما بدأت روافد الفكر الإغريقي تأخذ طريقها مع حركة الترجمة التي شهدت العصر العباسي الزاهر، ولهذا نجد أن الكتابات التي تلت ابن سحنون والقابسي بدأت تختلط بالعناصر الإغريقية، وهذا يصدق على ابن مسكويه عالم القرن الرابع الهجري والغزالي عالم القرن الخامس الهجري ومن بعدها.
إن إحدى المشكلات التي تثيرها الكتابة عن التربية الإسلامية في محاولة تتبع تطور الفكر التربوي في الإسلامي تتمثل في جانبين رئيسيين:
الجانب الأول: تحديد الآراء المتميزة لكل عالم إسلامي على حدة:
فمن المعروف أن الخلف ينقل عادة من السلف. فالقابسي نقل عن ابن سحنون، والغزالي نقل عن مسكويه، وابن خلدون والطهطاوي نقلا عن سابقيهما وهكذا. وقد يكون لكل منهما اجتهاده الخاص إلى جانب الآراء الأخرى التي نقلها عن غيره. فليس كل ما يرد على لسان عالم من العلماء يمثل آراءه هو، وإنما قد يكون كثير منها قد تردد لدى سابقيه ونقله عنهم. إننا نجد رسائل علمية للماجستير أو الدكتوراه تبحث في الآراء التربوية لعالم من علماء المسلمين ولا تنتبه إلى هذه النقطة وترد الآراء التي يذكرها هذا العالم على لسانه في مؤلفاته على أنها آراؤه هو بصرف النظر عن مدى التحقق من كون هذه الآراء هي له حقيقة أم أنه مجرد ناقل لها عمن سبقه. مثلا يشار إلى عبارة "الإنسان
مدني بالطبع" على أنها لابن خلدون مع أنها ترددت قبله بما يزيد عن ثلاثة قرون ونصف عند ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق، وعند الماوردي في أدب الدنيا والدين والأصفهاني في الذريعة.
الجانب الثاني: تحديد الأصيل والدخيل على الفكر الإسلامي فيما يرد على لسان العلماء من آراء:
وهذه نقطة على جانب كبير من الأهمية سواء بالنسبة لموضوع التربية الإسلامية أو غيرها من جوانب الفكر الإسلامي عامة. إن كثيرا من الآراء الغريبة قد دخلت إلى الفكر الإسلامي على ألسنة العلماء المسلمين أنفسهم وفي ظل قوة سلطانهم. خذ كلام فلاسفة المسلمين عن النفس والعقل وهو موضوع ألصق ما يكون بفلسفة التربية الإسلامية تجد أن معظم ما يوردونه يمثل آراء فلاسفة الإغريق. وبعض علماء المسلمين يقسمون المنهج المدرسي إلى علوم إسلامية هي العلوم النقلية واللسانية، وعلوم غير إسلامية هي العلوم العقلية. فهل هذا تقسيم مقبول؟ أليست كل العلوم علوما إسلامية ما دامت في الحدود التي رسمها لنا الله؟
وقد يصل الخلط أحيانا إلى تشويه ما هو إسلامي خالص بخلطه عن غير وعي وإدراك بمتشابهات غير إسلامية. مثلا نردد كثيرا أن الإسلام هو دين التوسط والاعتدال. وهذا الكلام إسلامي خالص، ثم قد نتبع ذلك بالقول بأن الفضيلة توسط بين ذيلتين فالشجاعة فضيلة تتوسط الجبن والتهور، وأن علاج الرذيلة يكون بالمبالغة في ضدها حتى يحصل التوسط فعلاج الجبن الإسراف في الشجاعة وعلاج البخل الإسراف في الكرم. هذا الكلام غير إسلامي لأنه تردد على ألسنة فلاسفة الإغريق من قبل وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو.
وقد نردد أيضا عبارات مثل الإنسان حيوان عاقل أو مفكر ناطق أو غيرها.. ووصف الإنسان بالحيوان أو ما جاء على لسان أرسطو. ومثل هذا الوصف غريب على الفكر الإسلامي. والمصدران الرئيسيان للإسلام لم يصفا الإنسان بهذا الوصف، بل إنهما كرما الإنسان غاية التكريم، وجعله الله خليفته في الأرض وفضله على كثير من خلقه. ألم يصف الغزالي الإنسان بأنه أشرف
مخلوق على الأرض؟
إن الإنسانية ضد الحيوانية والبهيمية ولا يجوز في الفكر الإسلامي الصحيح أن نجري وراء أرسطو أو داروين أو سبنسر أو غيرهم لنعتبر الإنسان من صنف الحيوان ثم نضفي عليه بعد ذلك الصفات الأخرى من العقلانية أو الاجتماعية أو غيرها. إن الإنسان جنس من صنف الأجناس التي خلقها الله. وهو مميز بذاته وكرمه الله على كثير من خلقه وجعله خليفته على الأرض. وقد يقال مثلا إن الحيوانية من الحياة، ومن ثم فوصف الإنسان بأنه حيوان يعني أن به حياة. وأنا أعتقد أن هذا المعنى هو آخر ما يتوارد على عقولنا عندما نصف الإنسان بذلك. إن ما أقصده هنا هو وضع الأمور في إطارها الصحيح وفي منظورها الإسلامي السليم دون تمحك أو تكلف في التخريج.
خامسا: أن محاولات تجديد الفكر الإسلامي في العصور الحديثة لم تصل إلى غاياتها ولم تستطع أن تصل حاضر المسلمين المتخلف المؤسف بماضيهم التليد الزاهر، فقد خيم على العالم الإسلامي فترة ركود فكري وثقافي امتدت عبر قرون طويلة، وبدأت بخطوات سريعة منذ تدمير المغول لحضارة الإسلام ودار السلام في بغداد ثم ما تلا ذلك من فترة الحكم التركي العثماني. فالذي لا شك فيه أن السياسة التركية العثمانية قد أدت إلى ظهور تيارات ثقافية مختلفة وفكرية متباينة في العالم العربي والإسلامي وخلقت أوضاعا غريبة.
ففي ظل الحكم التركي العثماني ظهرت الدعوات الشعوبية كالدعوة الطورانية أو الجامعة التركية التي كانت ترمي إلى سلخ تركيا عن الإسلام والبعد عن الجامعة الإسلامية التي دعا إليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وظهرت أيضا الدعوة الفرعونية في مصر والفينيقية في الشام والآشورية في العراق والبربرية في المغرب وهكذا.
وفي ظل هذه البلبلة الفكرية كان هناك أيضا الدعوة إلى القومية العربية في مقابل الأمة الإسلامية. فمن المعروف أن لا شعوبية في الإسلام، والإسلام للناس كافة ولكل شعوب الأرض على اختلاف شاكلتهم وألوانهم وأجناسهم. وقد حسمت هذه الدعوى الشعوبية منذ فجر الإسلام فلا فضل لعربي على عجمي إلا
بالتقوى وصالح العمل. والناس كأسنان المشط في المساواة. والمسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. ومع أن دعوى القومية العربية غريبة عن روح الإسلام فإنها في العصور الحديثة إلى العالم العربي تحت تأثير عاملين رئيسيين:
العامل الأول: هو سياسة التمييز الديني الذي سارت عليه السياسة التركية العثمانية، وعاملت المسيحيين العرب واليهود العرب معاملة الأقليات الأجانب، وعلى هذا كان من حقهم إنشاء المدارس الخاصة بهم لتعليم أبنائهم باللغة العربية في حين عومل المسلمون العرب معاملة باقي أرجاء الخلافة. فكان تعليمهم يسير على نظام المدارس التركية. وكانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية للاتصال والتعليم معا. فاستعجمت العربية في عقر دارها وعاشت كلغة هامشية. وكان تأثير كل هذا أن ظهر بين المسيحيين واليهود من العرب من قاد حركة الثقافة الفكرية العربية خلال القرنين 19، 20، كما أن المسيحيين العرب كان عليهم أن يجدوا لأنفسهم ما يربطهم بهذا الوطن العربي الذي عاش عليه أجدادهم في حين أن تركيا تنظر إليهم كأغراب فيه. ووجد هؤلاء المسيحيون في الدعوة إلى القومية العربية ما يحقق انتماءهم إلى وطنهم العربي ويربطهم به.
العامل الثاني: نمو الحركة القومية في أوربا بصورة متزايدة خلال القرن التاسع عشر تحت تأثير من فكر هيجل أن الأمة المثالية هي التي تنتمي إلى قومية واحدة. ووجد المسيحيون العرب في هذه الدعوى ضالتهم المنشودة التي تجعل منهم مواطنين لا رعايا في أوطانهم. وارتبطت هذه الحركة القومية عند المسيحيين العرب بتعريب الكنائس العربية واستخدام اللغة العربية في الصلوات والطقوس والترانيم.
وكانت المحصلة النهائية لكل هذه الدعوات المختلفة إضافة المزيد من التناقضات التي تعمق من فرقة العالم الإسلامي. وعندما نسأل أنفسنا: من نحن؟ لا نجد إجابة واحدة.
وتجديد الفكر الإسلامي لا بد أن يضع في اعتباره العمل على تخليصنا من التناقضات الثقافية والفكرية. وحتى يتم ذلك ستظل الكتابة عن التربية
الإسلامية تبحث لنفسها عن مخرج، وعندما نطرح سؤالا عن أهداف التربية الإسلامية أو العربية فكيف تكون إجابتنا عن هذا السؤال في ظل كل تلك التناقضات؟
وكيف نستطيع إذًا أن نحدد منطلقاتنا الرئيسية للعمل التربوي الجاد ونحن نواجه منذ البداية بهذه الصعوبات. إن أمامنا عملا كبيرا يتطلب جهودا مخلصة متضافرة تعمل على دفع حركة الفكر الإسلامي في تيارها الصحيح بما يمكن الباحثين من العمل الإيجابي الهادف البناء سواء في ميدان التربية الإسلامية أو غيرها من الميادين.
سادسا: أن البلاد العربية في محاولة تجديد أوصالها والنهوض من كبوتها في العصور الحديثة اعتمدت على اقتباس النظم التعليمية من الغرب فأنشأت المدارس الحديثة على النظام الأوربي، وتركت مؤسسات التعليم الإسلامي على حالها حتى انطفأت تدريجيا. وهكذا نشأ نظام تعليمي جديد عرف بنظام التعليم الحديث تمييزا له عن النظام التعليمي القديم أو التقليدي كما يشار إليه أحيانا.
وقد ترتب على ذلك وجوه ثنائية تعليمية بين النظامين انتهت بغلبة النظام الجديد وذبول أو اندثار النظام القديم، بل إن ما بقي من مؤسسات تعليمية إسلامية كالأزهر مثلا قد أدخل عليه تطوير كبير في أول الستينيات من هذا القرن غير كثيرا من صورته السابقة. والمشكلة التي تتحدى عصرية الكتابة عن التربية الإسلامية أو الوضع الراهن لها تتمثل في عدم وجود مؤسسات أو نظم واضحة لها وجود في العالم الإسلامي يمكن أن نطلق عليها مؤسسات تعليمية إسلامية. وبمعنى آخر إذا أردنا أن نتكلم الآن عن مؤسسات التربية الإسلامية في البلاد العربية، فعن أية مؤسسات نتكلم؟ لقد كان ذلك وما زال مصدر حيرة لمؤلف هذا الكتاب. ففي طبعته الأولى كان هناك فصل عن التعليم في البلاد العربية في العصور الحديثة، ثم صدرت الطبعات التالية للكتاب بدون هذا الفصل. وما زال التساؤل قائما. وقد وجهته لبعض قمم علماء المسلمين المعاصرين ممن أعرفهم ولم أخرج بإجابة شافية.