الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرأي فيقول لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسنوا أخلاقكم". وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد. وكل ذلك تغير للأخلاق "الإحياء: ج3 ص54".
وهو يقول ما قاله ابن مسكويه من: "أن الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة. وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يقال فإن عنود الخير وعمله نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه كل معلم له مؤدب. وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له".
منهج الغزالي في تربية الطفل:
يقدم لنا الغزالي منهجا علميا في تربية الطفل تربية إسلامية صحيحة. فبعد أن أكد أن الطفل قابل لكل نقش وصورة نصح الأب بأن يؤدب ابنه وينشئه على محاسن الأخلاق وأن يحفظه من قرناء السوء، وأوصى الأب بألا يحبب ابنه في أسباب الرفاهية حتى لا يتعود على نعيم العيش فيصعب تقويمه بعد ذلك، وعليه أن يعوده على اللباس المحتشم الوقور وأن يمنعه من النوم نهارا وتعويده الحركة والرياضة وأن يمنعه من الافتخار على العطاء لا الأخذ حتى ولو كان فقيرا وأن ينهاه عن القسم صادقا أو كاذبا تأكيدا لقول الله:{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ، وأن ينهاه عن الأعمال غير المستحسنة كالبصاق والتثاؤب ولا سيما في المجالس وأن يعوده على الإقلال من الكلام إلا لحاجة وبقدر ما تتطلبه هذه الحاجة وأن يخوفه من السرقة وأكل الحرام وغيرها من الأخلاق المذمومة وأن يعوده على الصبر وأن يأذن له باللعب بعد الدرس حتى يستريح ويتجدد ذكاؤه ونشاطه ويروح عن نفسه مشقة العلم.
وقد أشار إلى أن أول ما يغلب على الطفل شره الطعام، وهو في هذا يتفق مع ابن مسكويه وطالب الأب بأن يؤدبه في ذلك وأن يعوده أخذ الطعام بيمينه والبدء باسم الله والأخذ بما يليه. وأن يقبح عنده كثرة الأكل بطريق غير مباشر
كأن يذم الطفل الشره ويمدح المتأدب قليل الأكل. كما طالب الأب بألا يتساهل مع ابنه إذا بلغ سن التمييز في كل ما يحتاج إليه أمر الشرع. ويقدم لنا الغزالي أسلوب الثواب والعقاب لتأديب الصبي إلا أنه يرى ألا يكون العقاب لكل أمر بل من الأفضل التغاضي عن بعض الأمور إذا خجل الطفل منها وتستر لإخفائها ولا يكون العقاب علنا حتى لا يشجع الطفل على تعود الخطأ. ويجب أن يقل من العقاب حتى لا يتعود الطفل المهانة ويهون عليه سماع اللوم والتأنيب.
تعليم الصبيان:
يؤكد الغزالي في كلامه عن تعليم الصبيان عدة مبادئ تربوية هامة من أبرزها:
البدء بالتعليم في الصغر:
ينبغي أن يبدأ تعليم الصبيان من صغرهم، وقديما قالوا: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. ويؤكد الغزالي نفس المعنى عندما يقول عن الصبي: وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش عليه. وقد ردد هذا القول كما أشرنا جون لوك بعد حوالي 13 قرنا من الزمان عندما ذهب إلى أن عقل الطفل صفحة بيضاء تنقشه الخبرة والتعليم، ويؤكد الغزالي أن التربية والتعليم عملية تتعاون فيها طبيعة الصبي مع بيئته.
مراعاة طبيعة الصبي:
يؤكد الغزالي ضرورة فهم المعلم لطبيعة الصبي، وهذا يتأتى من دراسته لنفسية الصبيان الذين يعلمهم. فهم ليسوا سواء وهذه الدراسة تساعده من ناحية أخرى على إيجاد الصلة الإنسانية بينه وبينهم. وعلى المعلم أن يتدرج في تعليم الصبي وأن يبدأ معه من السهل إلى الصعب. وفي ذلك يقول الغزالي:"إن أول واجبات المربي أن يعلم الطفل ما يسهل عليه فهمه لأن الموضوعات الصعبة تؤدي إلى ارتباكه العقلي وتنفره من العلم""الغزالي: الإحياء ج1 ص52" ويشير الغزالي إلى قضية نفسية هامة هي "أن صحة النفس تتحقق من اعتدال مزاج البدن عندما يتكامل الجسم والنفس".
التدرج في التعليم:
إلى جانب ما أشار إليه الغزالي من التدرج في تعليم الصبي والبدء بالأشياء السهلة ثم الانتقال منها إلى ما هو أصعب، ويطالب الغزالي المعلم ألا يخوض في العلم دفعة واحدة بل يتدرج فيه مع مراعاة الترتيب ويبتدئ بالأهم، وكذلك ينبغي عليه ألا يخوض في علم إلا بعد أن يستوفي ما قبله، فالعلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طريق بعض.
ضرورة الترويح واللعب في تربية الولد:
يشير الغزالي إلى ضرورة الترويح عن الصبي، وأشار إليه بموصوع اللعب الذي قال إن له ثلاث وظائف:
- يروض الجسم الصغير ويقويه.
- يدخل السرور على قلبه.
- يريح الصبي من تعب الدروس. ويروح عن تعب النفس كللها ومللها.
وفي بيان أهمية اللعب للطفل يقول الغزالي "وينبغي أن يعود في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل" وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من المكتب أن يلعب لعبا جميلا يستريح إليه من تعب العلم بحيث لا يتعب في اللعب. فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه في التعليم دائما يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه.
تربية البنت:
يرى الغزالي أن العلم واجب على الرجال والنساء، ولكنه لم يهتم بالحديث عن تربية البنت ولم يكتب عنها إلا النزر اليسير.
المعلم في نظر الغزالي:
يؤكد الغزالي أهمية الاشتغال بالتعليم ويعلي من قدر أصحابه ويعظم من شأن وخطر المسئولية الملقاة عليهم. وفي ذلك يقول الغزالي: "فمن علم وعمل بما علم فهو الذي يدعى عظيما في ملكوت السماوات فإنه كالشمس تضيء لغيرها. ومن اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمرا عظيما وخطرا جسيما فليحفظ آدابه""الغزالي: الإحياء ج1 ص49".
والمعلم في نظره "متصرف في قلوب البشر ونفوسهم" وهو يمارس أشرف الصناعات بعد النبوة. وهو يعتبر أن حق المعلم بالنسبة للطفل أعظم من حق الوالدين لأن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، أما المعلم فهو سبب الحياة الباقية والمفيد للحياة الآخرة. فهو معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة، وقد أوصى المعلم بعدة أمور من أهمها:
1-
الشفقة والرحمة على الصبي فهو منه بمنزلة الولد وهو ما سبق أن ذكره ابن سحنون والقابسي.
2-
ألا يزجر الصبي عما يبدو منه من سوء الخلق بطريقة الرحمة لا التوبيخ وأن يكون تأديبه بالبرهنة والتوجيه لا بالتخويف والضرب والوعيد.
3-
أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم حيث قال: $"نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم" وقد قيل: "كِلْ لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه".
5-
ألا يقبح في نفي المتعلم العلوم الأخرى التي يدرسها غيره كمعلم اللغة في عادته تقبيح علم الفقه ومعلم الفقه في عادته تقبيح علم الحديث والتفسير.
6-
أن يكون المعلم قدوة حسنة، وأن يطابق قوله فعله وأن يكون متحليا بالورع والتقوى لأن أعين الصبيان إليه ناظرة وآذانهم إليه مصغية فما استحسن فهو عندهم الحسن وما استقبح فهو عندهم القبيح.
7-
أن يعود الصبي على الأخلاق الكريمة فيقوم احتراما لمن هو أكبر منه كما يعوده على ألا يبصق في المجلس ولا يتمخط ولا يتثاءب.
8-
يجب ألا يرفع العلم التكليف بينه وبين التلميذ حتى لا يتجرأ عليه وحتى الكسل خلقه، وأن يبتعد به عن التدليل ويعوده الخشونة حتى لا يغلب عليه الكسل وأن يراعي التوسط والاعتدال في معاملته.
9-
أن يكون وقورا رزينا لا ثرثارا أهوج ولا يظهر أمام تلاميذه بمظهر الخامل الناعس.
10-
ألا يطلب المعلم على العلم أجرا وإنما يقصد به ابتغاء وجه الله. وقد عيب على الغزالي هذا الرأي من جانب دارسي التربية الإسلامية لأنه رأي لا يتفق مع الواقع بل إنه في هذا الرأي خالف سابقيه من علماء المسلمين الذين قالوا بجواز أخذ أجر عن التعليم، بل اعتبروا ذلك ضرورة لنشر العلم بين الناس وهو ما يتضح من عرضنا السابق لآراء ابن سحنون والقابسي. والأدلة التاريخية أيضا تدحض هذا الرأي للغزالي فقد كان المعلمون يحصلون على أجر بالفعل نظير قيامهم بتعليم الصبيان.
ويروي عن ابن مسعود قوله: ثلاث لا بد للناس منهم: أمير يحكم بينهم ولولاه لأكل بعضهم بعضا وشراء المصاحف وبيعها ولولاه لقل كتاب الله، ومعلم يعلم أولادهم ويأخذ على ذلك أجرا ولولا ذلك لكان الناس أميين. ويروى أيضا أن سعد بن مالك قد مر برجل من العراق يعلم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه الأجر. ويروي عن مالك قوله: لا بأس بما يأخذ العلم على تعليم القرآن وإن اشترط شيئا كان حلالا جائزا ولا بأس بالاشترط في ذلك. وهذه كلها أمثلة تؤكد استحقاق المعلم للأجر على اشتغاله بالتعليم. ولعل الغزالي متأثر في هذا الرأي بما ورد لدى أفلاطون الذي كان يؤمن بنفس الرأي وعاب على السفسطائيين في عصره أنهم يأخذون أجرا على التعليم. وقد انتقد آخرون هذا الرأي لأفلاطون واعتبر رأيا مثاليا لا يتفق مع واقع المجتمع ولا واقع الاشتغال بالتعليم كمهنة. الغريب أن الغزالي نفسه أباح أخذ الأجر لمعلم العلوم غير الدينية مثل الحساب والطب فكيف يحرمه على الآخرين.
كما أننا في كلامنا السابق عن أجر المعلم أشرنا إلى قول الغزالي بأن يأخذ المعلم ما يكفيه ليفرغ قلبه عن المعيشة وليتجرد لنشر العلم فيكون مقصوده نشر العلم وثواب الآخرة ويأخذ الرزق بكلفة وميسرة للمقصود أي مساعدة له على العيش والحياة. وقد شرحنا هناك السبب في اختلاف الرأيين. وأرجعناه إلى أن تحريم أخذ العلم للأجر يقصد به الأجر من المتعلمين أما أخذ الأجر كمهنة من أولي الأمر فلا حرج فيه.